لم يعد يُجدي الصمت إجلالاً لأرواح شهداء الوطن وحزناً واحتجاجاً

اعتدال صادق شومان

في زمن يُغتال فيه الوطن ويُستباح بمكوّناته التاريخية الثابتة كلّها، ويتدفق الدم المهدور على يد «أهل الردّة»، رعاع الجهل والتخلّف الظلامي. في زمن صار فيه الموت حكماً لمجرّد الشبهة الواهية، على يد مَن هم أهل الزيف، المارقون في الدين والدنيا، الأشد كفراً ونفاقاً، سفهاء الأحلام، المفسدون في الأرض والسماء.

لم يعد يُجدي الوقوف دقيقة صمت إجلالاً لأرواح شهداء الوطن، وحزناً أو احتجاجاً. الإرهاب الذي أصاب منّا قلماً وصوتاً في اغتيال المناضل ناهض حتّر شهيداً، لا يرهبه صمت، بل يرهبه صوت يصرخ بالحقّ، صوت الحقّ الجهور، الذي يعلو ولا يُعلى عليه!

الإرهاب تُرهبه كلمة، تُكتب بالأحمر القاني كدم ناهض المهدور على درج عدالة، ساوت بين الحقّ والباطل.

ألم يغتالوا الناهض لصوته المرفوع في مواجهة رعونة تكفيرهم وفحش إرهابهم في سورية والعراق؟ المطلوب إعلاء الصوت في وجه الصمت المتمادي الذي أصاب العالم العربي، والعالم أجمع، منظمات وهيئات إنسانية، تخاذلاً وتبريراً. ينبغي أن تكون مكافحة الإرهاب والإرهابيين قولاً وعملاً ومشاعر وتوجّهات، وإلّا أنتم بصمتكم مدانون بالإرهاب.

فعلتهم ليست جديدة… لنجعلها الأخيرة. لنكن كناهض لا يردعنا تهديد، ولا يفاجئنا موت أو إلغاء.

نظّم مثقفون وإعلاميون وناشطون في المجتمع المدني، وقفة احتجاجية مساء أمس، في حديقة «الإسكوا» ـ وسط بيروت، استنكاراً لاغتيال الكاتب والمفكّر والإعلامي الأردنيّ المقاوم ناهض حتّر، وانتصاراً لحرّية الفكر والكلمة في وجه القتل والتكفير. وذلك بحضور ممثّلين عن أحزاب لبنانية ووطنية وفصائل فلسطينية.

وتخلّلت الوقفة دقيقة صمت وإضاءة شموع إجلالاً لروح الشهيد، ورُفعت صوَر حتّر، وشعارات تستنكر اغتياله.

قماطي

وألقى كلمة حزب الله، عضو المجلس السياسي في الحزب محمود قماطي، وجاء فيها: أراد الله أن تكون شهيداً، وأن تسبح بدماء الشهادة، وأن تفخر بذلك أنت ورفاقك وعائلتك والأمة والأوطان.

أنت يا ناهض، اعتبرت أنّ المقاومة هي النهـج الذي يرفـع رأس الأمـة، واعتبرت أنّ سورية تمثّل القومية، واعتبرت حرّية الرأي والقلم تنهل من دماء شهداء المقاومـة، واعتبـرت أن حـزب الله هـو الخطّ الذي يمثّل آمال الأمة، ويمثّل تطلّعات الأمة. وهو المشروع الذي خرج من المذهبيات ومن الطائفيات ولم يخضع لكلّ هذا المنطق الضيّق الطائفي المذهبي المنشود. إنّما مثّل حرّية الأمة وتحرّرها، ونهج المقاومة في سبيل مواجهـة المؤامـرة الأميركيـة و«الإسرائيليـة» والرجعية العربـية.

أرسلت التحايا إلى المقاومين، أرسلت التحايا إلى الشهداء، خجلت من دمائهم، فأرادوا منع صوتك من أن يصل إلى الأمة. وأرادوا أن يخنقوا هذا الصوت.

هنيئاً لك يا ناهض لأنّك التحقت شهيداً… وخسئوا. خسئ القتل وخسئت الرجعية وخسئ التشرّد المغلق. خسئت الدموية الوحشية القاتلة أن تعتبر قتل الآخر يمثّل هدفاً لها وهدفاً لدينها. فيا لهذه المفاهيم!

ناهض، كنت حرّاً وأنت حيّ. وأنت حرّ وأنت شهيد. لقد أنجزت أمنيتك وحققتها. ندين الجريمة النكراء، ونعتبرها لا تتصل بأي دين ولا تتصل بأيّ مفاهيم دينية على الإطلاق، بل لا تتصل بأيّ مفاهيم إنسانية على الإطلاق. هذه الوحشية ندينها جميعاً، ونعتبرك يا ناهض شهيد المقاومة، وإنك مع المقاومين… إنك من المقاومين!

قرداحي

وألقى الإعلاميّ القدير جورج قرداحي كلمةً مقتضبة، استهلّها بالقول: لن أطيل عليكم الكلام، لأنّ الكلام لم يعد ينفع، لأنّ البطل سقط بعدّة رصاصات غادرة على سلّم قصر العدل!

ناهض حتّر لم أكن أعرفه قبل هذا الصيف، وتعرّفت إليه في بوابة هذا الصيف في برنامج على «المنار»، ثم زرته في قريته التي يعتزّ بها. تعرّفت إليه كتلة من الشجاعة ومن العناد ومن التمسّك بالرأي، كتلة من النقاء. من الصفاء تجول على الأرض.

أحسست أنّي أعرفه منذ قرون لا منذ أشهر. أحببته. أحببت فيه موقفه الشجاع. تعلّقه بالقضايا العربية المحقّة. قضيته الأولى كانت فلسطين، قضيته الأولى كانت المقاومة. قضيته الأولى كانت سورية. قضيّته الأولى كانت مسيحيّته المشرقية.

ناهض حتّر عاش بطلاً ومات بطلاً. إنّه خسارة للإعلام العربي، ولكنّه خسارة أيضاً لحزب الشرفاء الأنقياء على الأرض. أنا هنا لم آتِ مترحّماً على ناهض حتّر فقط، بل جئت لأترحّم على هذه الأمة التي أصبح يتحكّم بها أبو جهل. الرحمة لروحك يا ناهض.

نعمان

أما المنسّق العام للحركة الوطنية للتغيير الديمقراطي الوزير السابق الدكتور عصام نعمان، فقال في كلمته: لا عذر في الأمر. لقد أعلنت أجهزتهم قرار إعدامك قبل استشهادك. بلّغوا أصحابهم عن قتلك.

قرار قتلك كان أمراً معلوماً، ولم تحرّك الجهات الأمنية ساكناً لأنّها متواطئة مع أهل التكفير والإرهاب.

نحّذرهم اليوم يا ناهض، أنّهم أمام خيارين، إمّا الانتصار لدمك، وإمّا نحن في انتظارهم نلدغهم لدغ العقارب.

عاصي

هذا، وألقت الصحافية ثريا عاصي كلمة في بداية الوقفة التضامنية باسم المنتدى الإعلامي في لبنان، جاء فيها:
السلام عليك يا ناهض حتّر، السلام عليك يا غسان كنفاني، السلام عليك يا ناجي العلي. السلام على المنتظرين و ما بدّلوا تبديلا. كتبتَ يا ناهض أنّك تناضل بمدفعٍ يطلق الكلام بقصد تنبيه أهل الأردن وسورية ولبنان وفلسطين وتحذيرهم ـ أهلك ـ كلّما استشعرت اقتراب الخطر منهم. أتذكّر اليوم، يوم تموت يا ناهض حتّر، غسان كنفاني وناجي العلي اللذين حمل كلٌّ منهما قلماً. هذا يُقرئ الناس، اقرؤوا، وذاك يرسم الانتظار، إلامَ ستبقون في المخيم؟

أمّا أنت، فلقد اتّهموك وسجنوك وأعدموك لأنّك كنت تدعو الناس: لا تعبدوا إله «داعش»، إلهكم غير إلههم. زعموا أنّك تقول: «لا تعبدوا… لا تقربوا الصلاة». زعم الوزير والضابط والملك أنّك تنهى الناس عن الصلاة فقرّروا إعدامك. حكموا عليك بالإعدام ولم يحاكموك. ذنبك يا ناهض أنّك كنت تعرف أنّ «داعش» سيرورةٌ غايتها إعادة الإنسان العربيّ إلى عصر البداوة، البداوة تروى بالنفط.

أنت تعرف ذلك، ذنبك أنّك قلت إنّ النفط خطرٌ فاخذروه. فأرسلوا إليك وحشاً بشرياً عربياً أرسله الذين طالبوا بإعدامك في شوارع عمّان، في صحفهم وبياناتهم، وفي خطب شعراء قبائلهم. قتلتك البداوة والقبيلة. أساؤوا إلى الذات الإنسانية العربية. ولكن يا ناهض، التجربة تفيد أنّهم عندما يقتلون الكاتب أو الرسّام، فذلك نذير شؤمٍ. عندما سقط غسان كنفاني في بيروت، كان ذلك إيذاناً بأنّ الحرب ضدّ الحركة الوطنية الفلسطينية قد بدأت. لحق به بعد حوالى سنة، في 13 نيسان 1973، كمال ناصر، كمال عدوان، وأبو يوسف. آهٍ من شهر نيسان في بيروت يا ناهض، وآهٍ من أيلول في الأردنّ.

شكراً لك أيّها الشهيد.

كما ألقيت خلال الوقفة، كلمات عدّة لناشطين وإعلاميين وبِاسم عائلة الشهيد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى