سياسة شفير الهاوية

زياد حافظ

الفرضية الأساسية في الحسابات السياسية بين أطراف متخاصمين هي فرضية العقلانية عند الطرف الآخر. أيّ بمعنى آخر يتحرّك الفرقاء على قاعدة أنّ الحماقة أصبحت خارج إطار الحسابات. فعلى سبيل المثال أزمة الصواريخ بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة في كوبا عام 1962 كادت تؤدّي إلى محرقة نووية للطرفين والعالم معهما إذا ما أساء التقدير أحد الطرفين. سياسة شفير الهاوية التي اعتمدها كلّ من خروتشيف وكنيدي اعتمدت على فرضية أنّ الطرف الآخر لن يجرؤ على اتخاذ قرار أرعن يؤدّي إلى هلاك الجميع. وبالتالي كانت الحسابات عند الطرف الأميركي أنّ الاتحاد السوفياتي سيتراجع لأنّ موازين القوة لم تكن بصالحه آنذاك، وأنّ المجابهة المباشرة بينهما قد تؤدّي إلى نهاية الاتحاد السوفياتي وإن أدّت أيضا إلى خراب ودمار كبيرين في الجانب الأميركي.

مناخ مشابه لأزمة الصواريخ الكوبية

اليوم نشهد مناخاً مشابهاً لذلك المناخ السائد آنذاك في أزمة الصواريخ الكوبية. المسرح اليوم هو سورية لأنها المفتاح لتغيير الميزان الاستراتيجي في المنطقة وبالتالي في العالم. الفارق أنّ الصواريخ التي تنشرها روسيا في سورية هي دفاعية وغير هجومية ولكنها تردع السلاح الجوي الأطلسي. لكن موازين القوة مختلفة عما كانت عليه في الستينات من القرن الماضي. آنذاك، كان الشعب الأميركي ملتفّاً تلقائياً حول قيادته. فالمجابهة كانت عقائدية بين منظومتين سياسيتين واقتصاديتين مختلفتين. فالمنظومة الشيوعية لم تكن مقبولة لدى الجمهور الأميركي بينما لم يعد ذلك الأمر سائداً اليوم. فمن الصعب للنخب الحاكمة الأميركية إيجاد سردية مقنعة تعبّئ بها الجمهور الأميركي. أما اليوم، وبعد تجربة فيتنام والعراق وأفغانستان فإنّ المجاز الأميركي لم يعد مؤيّداً لأيّ حرب باستثناء بعض النخب التي تتحكّم بهم إما المصالح الخاصة أو العقائد. فهم أقلّية من بين الأقلّيات ولكنهم في صلب صنع القرار وفي مختلف مفاصل السلطة.

أما في الاتحاد السوفياتي فمن الصعب اعتبار أنّ الشعب الروسي كان يحبّذ المجابهة مع الولايات المتحدة وهو الذي دفع الثمن الباهظ في الحرب العالمية الثانية. ذاكرة الخسائر البشرية كانت حيّة آنذاك، وهي التي فاقت 11 مليون جندي وأكثر من 20 مليون مدني بينما خسائر الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية لم تتجاوز 400 ألف جندي ولا خسارة بين المدنيين وفقاً لمعهد ايزنهاور في جامعة جتيسبرغ الأميركية. لذلك تراجع الاتحاد السوفياتي شكلياً ولكن بعد الحصول على اتفاق تمتنع من خلاله الولايات المتحدة عن نشر صواريخ بالستية في تركيا. الجدير بالذكر أنه تمّ اغتيال الرئيس كندي بعد سنة والإطاحة بخروتشيف بعد سنتين! أما اليوم، فإنّ الشعب الروسي ملتفّ حول قيادته التي أعادت الاعتبار والكرامة له بعد فترة الذلّ والإذلال التي مرّ بها عقب تفكيك الاتحاد السوفياتي. كما أنّ الاستعداد لأيّ مجابهة بعد تجربة المجابهة مع جورجيا عام 2008 ومن بعدها مع أوكرانيا 2012 جعلت الشعب الروسي أكثر التحاماً مع قيادته. واليوم، يعتبر الشعب الروسي أنّ سياسة قيادته تصون الأمن القومي الروسي، وأنّ الموقف الروسي من الأزمة السورية هو لتحقيق ذلك الهدف.

أما السبب الثاني في تغيير موازين القوة بين روسيا والولايات المتحدة هو الوضع التسليحي. فسباق التسلّح الذي ربحته الولايات المتحدة إبان الحرب الباردة لم يعد ممكناً في الظروف الراهنة. فالترسانة النووية الأميركية بحاجة إلى إعادة تأهيل وكلفتها تتراوح بين 340 و540 مليار دولار خلال فترة 2016 – 2024. أما إعادة تجهيز الترسانة كاملاً فإدارة أوباما اقترحت ميزانية قدرها تريليون دولار تُنفق خلال السنوات العشرة المقبلة. الواقع الاقتصادي الأميركي يصطدم مع هذه النفقات التي ستؤدّي في أحسن الأحوال إلى المحافظة فقط على الوضع القائم من الناحية التسلّيحية دون إعطاء أيّ تفوّق ما للولايات المتحدة، وذلك حسب العديد من الخبراء العسكريين. فمن الصعب تسويق سياسة نفقات كبيرة تهدف إلى المحافظة على الوضع القائم دون أيّ تفوّق في عصر التقشّف المالي الذي ينادي به الكونغرس الأميركي. كما أنّ حاجات إعادة تأهيل البنى التحتية الأميركية المترهّلة من مستشفيات، ومدارس وجامعات، وجسور ومرافئ وشبكات طرق وسكك حديد ومطارات، هي الأولوية عند أكثرية الأميركيين. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار عامل الدين العام الذي أصبح يفوق الناتج الداخلي الأميركي نجد الصعوبة إنْ لم تكن الاستحالة في تحقيق الأهداف التسليحية التي ينادي بها أرباب المجمّع العسكري الصناعي.

الضغط على الدولار

عامل آخر قد يردع المجهود التسليحي ويساهم في تعديل موازين القوة هو الضغط المتزايد على الدولار. فمنذ بداية السبعينات قطعت الولايات المتحدة العلاقة بين الدولار والذهب. وبالتالي أصبحت تطبع كمّيات من الدولارات دون أيّ رادع. استطاعت عبر تلك الطباعة اللامتناهية تمويل نفقاتها العسكرية وسياساتها العدوانية في العالم. نذكّر أنّ الحروب التي خاضتها وما زالت تخوضها الولايات المتحدة منذ ما بعد حرب الفيتنام وصل عددها إلى ستة عشر، أيّ لم تكن الولايات المتحدة خارج حالة حرب مع طرف ما في أيّ سنة منذ 1975 حتى اليوم. الحرب الدائمة كانت ممكنة بسبب الدولار. لكن الدولار يتعرّض إلى ضغط متزايد يصعب على أيّ إدارة أميركية منعه أو تخفيف من وطأة تداعيات تراجعه. فدول وازنة وصاعدة أصبحت تفكّر جدّياً بإيجاد نظام مالي دولي غير خاضع لهيمنة الدولار. كما أنّ تسعير السلع الاستراتيجية قد لا يكون بالدولار. وهذا التسعير بالدولار هو الذي يجعل الطلب على الدولار قائماً. فإذا ما تمّ استبدال سلّة من العملات أو عملات أخرى بالدولار يتراجع عندئذ الطلب على الدولار، وبالتالي يتراجع نفوذ الهيمنة الأميركية وقدرتها على تمويل حروبها بدون الاكتراث إلى كلفتها. فطالما تستطيع الحكومة الأميركية طباعة الدولار بدون قيد ولا شرط تستطيع أن تخوض الحروب التسليحية والحروب الفعلية. قوّة الولايات المتحدة من الناحية الاستراتيجية هي الدولار فإذا تراجع دور الدولار في المبادلات الدولية تراجعت قدرة الولايات المتحدة على فرض مشيئتها. لذلك تبذل الولايات المتحدة جهوداً كبيرة لمنع ذلك. في الماضي القريب كانت الحرب على العراق بسبب قرار الرئيس الراحل صدام حسين باستبدال سلّة من العملات بالدولار في تسعير سعر برميل النفط. أما اليوم فلن تستطيع الولايات المتحدة شنّ حروب مباشرة على من يتمرّد عليها. لذلك تلجأ إلى الحرب بالوكالة، وهذه الاستراتيجية تتبدّد في المسرح السوري وقد تتعمّم على مسارح أخرى.

لكن هذه الاعتبارات لا تدخل في حسابات العقول الحامية الموجودة حالياً في الإدارة الأميركية وعند الجمهوريين. فحزب الحرب في الولايات المتحدة يضمّ الحزبين. ويضاف إليهم مجموعة المحافظين الجدد وأصحاب التدخّل الليبرالي. فيتكلّمون عن مجابهة مع روسيا والصين يستعمل فيها سلاح نووي تكتيكي ينهي الجيوش العدوة دون أن يدمّر المعمورة، وكأنّ الطرف الآخر، سواء روسيا أو الصين، ستقبل بقواعد الاشتباك تلك.

عام 2013 كاد يشهد مجابهة شاملة في المنطقة وربما في العالم. فالرسائل التي أرسلت إلى الإدارة الأميركية ساهمت في دعم موقف العقلاء في الإدارة الأميركية تجنّب المجابهة مع كلّ من سورية وإيران وروسيا. تعقّل الرئيس أوباما ورئيس هيئة الأركان المشتركة آنذاك مارتن ديمبسي ووزير الدفاع شاك هيغل أجهض المغامرة غير المحسوبة، مما أغضب حلفاء الولايات المتحدة الإقليميين والعرب. لكن حزب الحرب استطاع استبدال رئيس هيئة الأركان ووزير الدفاع. فأشتون كارتر الوزير الحالي من الصقور وفي طليعة المطالبين في مواجهة روسيا عسكرياً في أوكرانيا وأوروبا. ورئيس هيئة الأركان جون دانفورد غير معروف عنه أنه صاحب رأي مستقلّ. فهو ينصاع إلى القرار السياسي الذي تتخذه القيادة السياسية. غير أنّ موقفه الأخير في معارضته لحظر الطيران فوق سورية أغضب حزب الحرب، لأنه أجبر الإدارة على طيّ صفحة المجابهة في الأيام المتبقية لولاية أوباما.

حزب الحرب يؤجّج الموقف…

ما زال حزب الحرب يعمل على تأجيج الموقف للوصول إلى المجابهة وإنْ كانت ظروفها السياسية غير متوفرة داخلياً وفي العالم. ومن أعمال التأجيج استعمال الإعلام المهيمن من ترويج الأكاذيب والتحريض لقلب الرأي العام الأميركي. حتى هذه الساعة ليس هناك من دليل على تجاوب الرأي العام الأميركي. قد يشاطر الأخير تقييم حزب الحرب للرئيس الروسي والسوري ولكن دون أن يصل إلى مرتبة المجابهة. وهذه ثغرة كبيرة في ترسانة حزب الحرب الذي لا يملك قدرة توجيه الرأي العام. فما زال الأخير يتذكّر أكاذيب إدارة بوش الابن بالنسبة للحرب على العراق وبالتالي إقناع الرأي الأميركي بجدوى حرب جديدة أصبح في منتهى الصعوبة.

لكن ماذا عن الإدارة القادمة؟ إذا وصل المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض فمنسوب المجابهة قد يتراجع بدرجة كبيرة إذا ما التزم بوعوده الانتخابية في التفاهم مع الرئيس الروسي والسوري. أما إذا ما وصلت المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون إلى البيت الأبيض فكافة الاحتمالات أصبحت ممكنة بما فيها المجابهة. غير أنّ الصعوبات التي ذكرناها قد تجبر الرئيسة الجديدة على إعادة ترتيب أولوياتها. لكن العوامل الرادعة تفترض عقلانية ما عند الطرف الآخر. هناك رأي منتشر لدى العقول الحامية بتفوّق الإمكانيات العسكرية الأميركية، كما أنّ هناك استخفاف بإمكانيات الخصم العسكرية والاقتصادية. الخطورة تكمن في سوء التقدير للموقف الفعلي ولموازين القوة عند هذه العقول.

روسيا لها أصدقاء وتحالفات. يعتقد حزب الحرب الأميركي أنه بإمكانه عزل روسيا عن حلفائها في «بريكس» عبر مزيج من الإغراءات والترهيب. بدأ حزب الحرب في التشويش على متانة التكتّل داخل دول «بريكس» عبر المشاغبات على حكومة جنوب أفريقيا وعلى البرازيل بالانقلاب الأبيض الذي أنجزه عملاؤها في البرازيل. أما الصين فمشروع «التحوّل» إلى آسيا يهدف إلى عزل الصين عن سائر دول القارة عبر مشروع الشراكة عبر المحيط الهادي. لكن هذا المشروع يلاقي عقبات داخلياً في الولايات المتحدة يصعب تجاوزها. كما أنّ الصين أعربت عن رغبتها وقدرتها بأنها قوة بحرية في آسيا لا يمكن تجاوزها. وزيارة مسؤولين رفيعي المستوى إلى دمشق رسالة إلى العالم أنّ القارة الأوراسية ليست ملكاً للولايات المتحدة. وما يستخفّ به حزب الحرب في الولايات المتحدة مدى العلاقة الاستراتيجية بين الصين وروسيا. فما زال يراهن عن تفكّك في هذه العلاقة الاستراتيجية. حالة الإنكار مسيطرة على عقول صقور حزب الحرب. فعلى حزب الحرب أن يعي أنّ أيّ عدوان على سورية هو عدوان على روسيا وبالتالي أيضاً على الصين، ناهيك عن أنه أيضاً عدوان على إيران. فالولايات المتحدة التي لم تستطع أن تحسم المعركة في أفغانستان والتي اضطرت إلى الخروج من العراق لا يمكنها مواجهة ذلك الحلف دفعة واحدة، اللهم إذا ما كان الجنون وعدم العقلانية هو سيّد الموقف عندهم.

التعقّل موجود عند بعض العقول الأميركية. زبغنيو برجنسكي مستشار الرئيس الأميركي باراك أوباما يدرك ويقرّ بمحدودية القوّة الأميركية. وفي مقابلة في غاية الأهمية في مجلّة «ذي اتلنتيك» يحدّد فيها قراءته للمعطيات الجيوسياسية حذّر من شيطنة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فهو يدعو إلى التفاهم معه دون التخلّي عن ردع ما يسمّيه برجنسكي «التوجّهات التوسعية الروسية». فحوى مقابلته في المجلّة تثبيت مقولته إنّ الولايات المتحدة لم تعد قادرة على فرض إرادتها بل باستطاعتها قيادة العالم بالتفاهمات! بمعنى آخر لا مكان للمجابهة العسكرية. طبعاً، برجنسكي الذي كان يعتبر من الصقور خلال الحرب الباردة بسبب الموروث السياسي والنفسي الذي جلبه معه من بولونيا مسقط رأسه لا يلاقي تأييداً من جبهة المحافظين الجدد والمتدخّلين الليبراليين. على كلّ حال، العالم بحاجة أن تتغلّب العقول الباردة على العقول الحامية.

بعض الجهات في المؤسسة العسكرية والاستخباراتية الأميركية أرادت إجهاض التفاهم الذي توصّل إليه كلّ من الوزير الروسي لافروف والوزير الأميركي كيري. هذا التفاهم ما كان ليحصل لولا الموافقة والدعم له من الرئيسين الروسي والأميركي. لكن حزب الحرب الأميركي أجندته مختلفة عن روح وفحوى التفاهم. بالمناسبة، حتى هذه الساعة امتنع الطرف الروسي عن نشر كامل بنود الاتفاق، وذلك بناء على طلب الطرف الأميركي. أيّ شعرة معاوية لم تنقطع حتى الآن ونستبعد أن تنقطع! أما حزب الحرب، فسواء حصل على بنود الاتفاق أو لا إلاّ أن تحرّكه كان في اتجاه إجهاض التفاهم. الغارة الأميركية على المواقع السورية حققت أهدافها. فكان القرار السوري بعدم تمديد المهلة. لم يكتف حزب الحرب بذلك فأوعز إلى عملائه بقصف قافلة المساعدات للأحياء الشرقية لمدينة حلب وإلصاق التهمة بكلّ من روسيا وسورية. رافقت كلّ ذلك حملة هذيان في أروقة الأمم المتحدة وفي وزارة الخارجية الأميركية. لكن على ما يبدو لم يتحرّك الرأي العام الأميركي المنشغل بالحملة الانتخابية. فكان القرار الروسي بتعليق المفاوضات النووية والردّ على ذلك القرار الأميركي بتعليق الاتصالات مع روسيا بشأن الملف السوري. نلاحظ هنا التشديد على التمييز بالملفّات! لذلك يبقى كلّ الضجيج تحت سقف لا يؤدّي إلى مجابهة شاملة اللهم إذا ما قرّر الأميركيون استئناف التصعيد وهذا من المستبعد قبل الانتخابات الأميركية. أما في ما بعد فالله أعلم!

أمين عام المؤتمر القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى