إضاءة

تزخر بلدان العالم العربي بقصص عن فتيات نجحن بفضل إرادتهن وتصميمهن في تحطيم قيود المصاعب التي تكبّلهن، وتعوقهن عن بلوغ طموحاتهن وتحقيق ذواتهن. لم يكن الحظّ إلى جانبهن دوماً، لكن ما إن سنحت لهنّ الفرصة لترجمة الطموح على أرض الواقع، حتى بلغت أصواتهنّ مسامع الناس أجمع.

وقصة جنى تعبير حيّ عن طموح لا يعرف المستحيل.

جنى مكرم أبو كامل، فتاة لبنانية عمرها 12 سنة، طالبة في مدرسة «رؤوف أبو غانم» في الصف السابع، تعشق الموسيقى والمطالعة.

عانت جنى من ضعف شديد في البصر، تفاقم بمرور الزمن حتى أضحت اليوم شبه كفيفة. قد يظنّ بعضهم أنّ هذا الابتلاء يستوجب العطف والشفقة كون جنى لا تستطيع أن تؤدّي أعمالها اليومية من دون مساعدة أحد. لكن ظنّهم ليس في محلّه، على الأقل بالنسبة إلى حالة جنى.

بدأت رحلة جنى الملهمة بالتحاقها في مركز لتأهيل ذوي الاحتياجات الإضافية، وبعد مرور فترة قصيرة على وجودها هناك، انتبه عددٌ من المدرّسين إلى نباهتها وقدرتها الفائقة على التعلّم والاستيعاب السريع. فبادروا إلى تهيئة متطلّبات نقلها إلى مدرسة رسمية نظراً إلى تفوّقها. فقاموا بالتنسيق مع «جمعية الشباب المكفوفين في لبنان» لتعيين مشرفة تلازم جنى في مدرستها الرسمية التي نُقلت إليها.

طوّرت جنى في تلك الفترة من حياتها حبّ القراءة والمطالعة، وكان لمربّيتها ومعلّمتها جمانة، دور محوريّ في ذلك. فهي التي قامت بتدريبها على لغة «برايل» للمكفوفين، ما سهّل على جنى أن تغرف من روائع الأدب العالميّ ما شاءت، وأن توسّع من مدراكها وفهمها العالمَ بشكل كبير، لتكون الكلمات الجميلة التي تسرّبت إلى روحها من الكتب وسيلتها في تحطيم قيود اليأس.

وإذا كان طريق الألف ميل يبدأ بخطوة، فإن الخطوة الأولى التي خطتها جنى في رحلة القراءة الطويلة كانت بقراءة قصّة بسيطة بعنوان «دودة شديدة الجوع»، لا تزال تذكرها جيداً. ثم توالت بعد ذلك الكتب التي قرأتها، والتي تنوّعت في موضوعاتها، إلى أن قرأت كتاباً تصفه جنى بأنه أكثر الكتب تأثيراً في حياتها. هذا الكتاب هو رواية «طيور أيلول» للأديبة اللبنانية إميلي نصر الله فقد وجدت جنى في بطلته سِمات كثيرة تجمعها بها، فهي مثل بطلة الرواية «منى»، قوية الشخصية، صبورة، ولا تستسلم لبعض العادات والتقاليد التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق طموحاتها.

تعرّضت بطلتنا جنى إلى كلّ ما يمكن تخيّله من مواقف سلبية في تعاملها مع أقرانها كونها كفيفة، فلم يكن زملاؤها في المدرسة يلعبون معها خوفاً عليها، لكنهم اكتشفوا مع مرور الوقت أنها قادرة على اللعب، وقادرة على أن تنجز واجباتها المدرسية بتفوّق، وحتى على مساعدة أقرانها في دروسهم.

بهذه الطريقة، بَنَتْ جنى ثقتها بنفسها، وثقة الآخرين فيها. هكذا أخبرت عمتها، هبة أبو كامل، معلمة اللغة العربية التي تولّت تربيتها بعد غياب والدتها المفاجئ: «كنت أحثّها دائماً على ألا تتهرّب من إخبار من حولها بأنها كفيفة، لكن في الوقت نفسه، علّمتها ألا تقبل منهم أيّ عطف أو مساعدة، فهي لا تحتاج الآخرين إلا بقدر حاجتهم إليها».

أصبحت جنى من الطالبات المتفوّقات في مدرستها الجديدة، حيث حازت على المرتبة الأولى في جميع المراحل الدراسية، ما أثار انتباه مدير المدرسة الذي دعمها ووفّر لها بيئة تساعدها في الإبداع والتميّز.

فإضافة إلى كونها قارئة نهمة، تَنْظُم جنى الشعر وتكتب القصة القصيرة، حيث تطرح في قصصها قضايا ذات بعد اجتماعي وإنساني، مستندة في ذلك إلى بصيرة لمّاحة وحسّاسة. وبعدما لاقت كتاباتها إعجاب من حولها، أصبح حلمها أن تصبح كاتبة.

يطلعنا والد الطفلة جنى، مكرم أبو كامل، على جانب من تجربة ابنته، قائلاً: «بعد مرور سنوات على دخولها عالم القراءة والمطالعة، جاءت نقطة تحوّل في حياتها، أوقدت شغفها للقراءة، وذلك من خلال ترشيحها من قبل إدارة المدرسة للمشاركة في مبادرة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في تحدّي القراءة العربي». دفعت المبادرة جنى وغيرها الكثيرين من أبناء العالم العربي على القراءة بجدّية وبتركيز أكثر، وشجّعتهم على أن يختاروا في قراءاتهم موضوعات تفيدهم وتفيد مجتمعاتهم بشكل أكبر فهدف المبادرة الرئيس إيجاد أمّة تقرأ وتعمل لتصل إلى مصاف الأمم المتقدّمة في العالم.

لقد كان لطموح جنى الكبير، وتصميمها، ثم للبيئة الداعمة التي وجدتها في بيت جدّتها وفي المدرسة، دور مهمّ في الأخذ بيدها كي تجتاز الطريق المؤدّي إلى النجاح وتحقيق التفوّق في مبادرة تحدّي القراءة العربي، حيث اجتازت اختبارات التصفيات في المسابقة لتفوز في المركز الأول على مستوى المحافظة، وتحتل المستوى الثالث في التصفيات النهائية على مستوى الجمهورية اللبنانية كلّها.

إن سيرة جنى ترجمة واقعية لمقولة الأديبة والناشطة الأميركية هيلين كيلر، التي عوّضت فقدانها السمع والبصر بعطاء إبداعيّ قلّ نظيره: «عندما يُغلق باب السعادة، يُفتح آخر، ولكننا أحياناً كثيرة ننظر طويلاً إلى الأبواب المغلقة، بحيث لا نرى الأبواب التي فُتحت لنا».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى