تواصل ثوري ـ تاريخي وإبداع ثقافي دفاعاً عن الهوية 1

الدكتور نذير العظمة في كتابه «أدب المقاومة بين الأسطورة والتاريخ» يقدّم للقارئ دراسة تغوص في أعماق العلاقة بين الشعر والثورة، وحدود تأثير الواحد منهما على كينونة الآخر، مقدّماً من أجل توضيح ذلك أمثلة عديدة عن ثورات كبيرة وقعت كالثورتين الفرنسية والبلشفية الروسية.

لقد حاول الدكتور العظمة أن يعالج بنفسٍ فلسفي عملية الانبثاق الثوري والانبثاق الشعري وطبيعة العلاقة بين الاثنين وكذلك دور الإيديولوجية في هذا الشعر.

يتكلم المؤلف في مقدمة الكتاب ـ الدراسة عن الموروث التاريخي لدى معظم مفكرينا وكتّابنا والمتعلق بالتبعية للحضارة الغربية والانبهار بها، والتي شكّلت لوقتٍ طويل عاملاً مانعاً من توليد الإبداع عندنا.

يتوزّع الكتاب على خمسة أبواب تعالج في الباب الأول شعر النضال الجزائري والتجربة الثورية، وفي الباب الثاني اتجاهات الشهر المقاوم والكفاح الفلسطيني. أما في الباب الثالث فيتطرّق إلى المرأة المقاومة، وفي الرابع يشير إلى الرؤيا العربية، أما في الباب الخامس فيتكلم على الشعر المقاوم بين الوظيفة التاريخية والفنية.

و«البناء» إذ تنشر الدراسة على حلقات فلأنها تعتقد بأنه من الضرورة بمكان إبراز طبيعة العلاقة بين المقاومة والشعر، وطبيعة العوامل المؤثرة سلباً أو إيجاباً، الأمر الذي أبرزه الدكتور العظمة في دراسته.

في هذا العدد، يتكلم الدكتور العظمة عن قوّة تأثير الحضارة الأوروبية عبر أجهزتها السياسية والاقتصادية والفكرية وفرض نفسها كمتبوع على مجموعات كبيرة من المفكرين والكتّاب في العالم العربي، كما أنه يشير إلى ردة الفعل الشعبية المتمثلة بالمقاومة التي واجهت نابليون بونابرت سواء في مصر أو في سورية ـ «عكّا» منعاً من استيعاب الحضارة الغربية الأوروبية لموروثنا الحضاري.

في الجزء الأول من هذه الحلقات يعرض العظمة التجربة الجزائرية وعلاقة هذه التجربة بالشعر الثوري الجزائري، عارضاً في السياق الظروف التاريخية لهذه الثورة ومقدّماتها من انتفاضة عبد الأمير الجزائري وثورة أولاد سيدي شيخ، الثورة التي أتت مظهراً حادّاً للروح الثورية للعالم العربي في النصف الأول من ستينات القرن الماضي.

نحن والآخر في ضوء التاريخ

لقد شكّلت الحضارة الأوروبية تحدياً صارخاً لنا منذ أوائل القرن الثامن عشر لا بقوتها العسكرية فحسب بل بأجهزتها السياسية والاقتصادية والفكرية. وأخذ مفكرونا يحاولون اللحاق بهذه الحضارة على مختلف الأصعدة، ومنذئذ أخذ فكرهم يتمحور على التبعية كما تمحور فكر العثمانيين قبلهم عليها، واستحداث ما يسمى بالتنظيمات في الدولة والجيش التي لا تعدو أن تبنّت النموذج الأوروبي للجيش والدولة معاً.

وبحسب هؤلاء المفكرين إن الإصلاح إنما أن نستورد الأشكال الأوروبية آلياتها لروحنا التي داهمتها ظاهرة المدنية الزاحفة الغازية. ولم يفطنوا إلى أن روح الشعوب إنما تفرز أنظمتها وأشكالها وليست هي بالجوهر الذي يقبل كل الأشكال المستعارة وإن الروح التي تقصر نفسها على النماذج الغربية تستبدل التعبير عن ذاتها بجملة من الإرباكات والغضب والإحباط.

وإن الشعوب طبعاً تستفيد من خبراتها بعضها من بعض لكن الاقتلاعات التي قادها مواطنون منّا لنماذجنا الحضارية إطلاقاً مندون حصر أدّت في كثير من الأحيان إلى التهجين والاستلاب والتبعية من حيث ندري أو لا ندري.

وحين انكسر نابوليون على أسوار عكا وانسحب إلى قواعده في مصر ثم عاد أدراجه إلى فرنسا تاركاً الجنرال كليبر خلفاً له لم يعمر طويلاً. لقد عبّر سليمان الحلبي عن رفض المنطقة كلها للاحتلال الذي يمثله الجنرال وسيده حينما انقضّ عليه وأرداه قتيلاً، ما دعا نابوليون إلى أن ينسحب جيشه من الشرق ويعزف عن سياسة التوسع إلى حين. استطعنا أن نهزم نابوليون بقوة هي رصيد موروث ولم نفطن إلى هزائمنا الحضارية.

الإمبريالية هي الشيطان الأكبر لأنها لا تضع علاقات الشرق بالغرب في السياق الإنساني. وغير مستعدة للتخلي عن مفهومها في الهيمنة بكل وجوهها.

إنها تقوم على ثنائيات أسطورية شمال وجنوب. منتج ومستهلك. متقدم ومتخلف. يعرف ولا يعرف. علم، صناعة جهل، مواد أولية… وتتبادل رموز الخير والشر كراسيها الموسيقية فيصبح الخير شراً والشر خيراً والقتل الحضاري والإبادة السياسية أمراً مشروعاً ويصير حجب الحاضر العربي عن مواريثه المضيئة ضرورة استراتيجية في نظر الرؤية الإمبريالية.

ماذا فعلت بنا حالة الانبهار بالغرب منذ غزوة نابوليون إلى مصر 1799م . الغزوة لم تكن تقصد احتلال مصر فحسب، بل السيطرة على الشرق الأوسط وانتزاعه من الهيمنة العثمانية. وإعطاء رافعة جغرافية استراتيجية لفرنسا في نزاعها مع إنكلترا كان في جملة حسابات الغزو الفرنسي. وعرقلة الإمبراطورية البريطانية وقوتها المتنامية المتصلة بالهند. وثرواتها وطاقاتها على استيعاب الإنتاج الصناعي الإنكليزي. لكن أحلام نابوليون لم تجهضها ردات الفعل البريطانية على الغزو ولا استجابة النظام العثماني الهرِم للتحديات على الطرفين.

المقاومة الشعبية التي استنفرتها الغزوة، وحصار عكا الذي مرّغ كبرياء الغزاة، وبخّر أحلامهم هي التي كان لها اليد العليا في استعادة التوازن في علاقات غرب/شرق في تلك المرحلة. طبعاً تعاطف الإنكليز ويقينهم بأن فرنسا سوف تخرّب ما بنوه من شبكة الإمبراطورية إلى الشرق السحيق. لتحتلّ محلّهم فيه ومساعداتهم للباب العالي كانت عنصراً أساسياً في اللعبة.

لكن من الذي قاوم وقاتل في الساحة؟ أحمد باشا الجزار مقاومة الحصار، وفلول السلطة المملوكية وردة الفعل الشعبية في مصر وسورية كان عليها المعوّل.

أقول سورية لماذا؟ لأن الناس البسطاء في الحياة اليومية أدركوا من النزاع لا وجهه العالمي بين فرنسا وإنكلترا بل توحّد الدول الأوروبية ضد الإمبراطورية العثمانية الهرمة، وعرفوا أن الهجمة الفرنسية عليه والهجمة الإنكليزية على إخوانهم في المساحة العريضة هي هجمة واحدة. احتلال المرافئ البحرية من جبل طارق إلى عدن في الطريق إلى الهند من قبل إنكلترا ووثوب فرنسا إلى ساحة الشرق في غزوتها المفاجئة، وتصريحات نابوليون ربما لأول مرة بإقامة دولة يهودية في فلسطين بعد أن تحطمت أحلامه على أسوار عكا كلها مجتمعة، أظهرت للناس مدى الخطر الذي يحيق بهم في مصر وسورية من عالم غربي متصهين. والخطر الذي ينتظرهم في المستقبل. لماذا هرول سليمان الحلبي من حلب إلى مصر واغتال كليبر نائب نابوليون في مصر بعد ذهابه لإنقاذ الثورة في فرنسا؟ الحلبي من الفدائيين الأوَل ضحّى بنفسه في سبيل استعادة التوازن في علاقات شرق غرب ولو من الناحية النفسية والرمزية لا الاستراتيجية العسكرية.

جمجمته اليوم في متحف اللوفر شاهد على هذا الصراع من أجل القوة بين كل من فرنسا وإنكلترا وبينهما والسلطان الهرم في القسطنطينية. المصالح السياسية والثقافية والاقتصادية في كفة والتي تعبر عن الاستراتيجيات المتصارعة في المنطقة وراء الصراع المهم لكل طرف الهيمنة والقوة بكل أبعادها. هوية شرق غرب كانت إطاراً عاماً وغامضاً بالنسبة للعالم العربي. العروبة والإسلام واليقظة القومية كانت شبكة واحدة ومتصلة للمقاومة واستجابة طبيعية للتحديات الغربية.

لكن الهوية والمقاومة مجردة من المعرفة والسلاح وتنمية الإنسان والدولة لا تجدي في الساحة الفعلية فقامت حركة التحديث وحركة اليقظة المعرفية لرصّ البنيات الوطنية والقومية في مصر وسورية والبلدان الأخرى. التعليم وتحديث الإدارة وبناء مؤسسات الدولة كلها ضرورة لهوية حضارية فاعلة. مقاومة الاحتلال لم تؤجل حالة الانبهار بالغرب بل تطلّبت تبنّي معارفه ومناهجه في السياسة والاقتصاد وإدارة الدولة، من هنا قامت البعثات وحركة إحياء التراث والتعليم والترجمة والاستعانة بالاستشراق المعرفي لبناء هوية فاعلة.

اليقظة الوطنية والقومية والدينية حتى، كانت تقدر وتثمّن الحضارة غربية كانت أو شرقية. لكنها تقاوم الاغتصاب والاحتلال والظلم. فحركاتنا الوطنية منذ النشأة لم تتسلح بالكراهية للغرب بل أحست بحاجتها إلى إنجازاته وكرهت الظلم الذي ترتكبه قواه وجيوشه وأنظمته.

الانبهار لا يزال مستمراً اليوم وكراهية الحيف والعدوان والظلم قائمة.

هذه هي المراحل الأولى لعلاقة شرق غرب أو غرب شرق عشية اصطدام أوروبا بالشرق العربي في القرون الثلاثة من الألفية الثانية للميلاد. انبهار بالآخر ومقاومة لعدوانه وطغيانه ولا تزال في آن الحالة مستمرة اليوم، انبهار بالجانب المعرفي والتكنولوجي ورفض للقوى الاستعمارية والإمبريالية.

ماذا علينا أن نفعل اليوم بالانبهار والمقاومة وعلاقات التنافر والتجاذب بيننا وبين الآخر، علينا أن ندرك أن الحضارة الغربية ككل، لا تتخلى عن استراتيجية استيعاب الآخر. لا ثرواته وموارده الطبيعية فحسب، بل تمايزه واستقلالية رؤيته الحضارية، قد تتغيّر تكتيكات الغرب السياسية والاقتصادية لكن استراتيجيته تبقى ثابتة.

وإن القواسم المشتركة بين الأمم تقوم بقوة خصائص تميّزها الحضاري. وهو لا يصح بغير الهوية الواضحة المؤمنة بحقها في الحياة والشراكة مع الآخر الإنساني عند الأطراف المتفاعلة كافة على الساحة. قد يختلف الغربيون على مصالحهم الاقتصادية، والسياسية، لكن استراتيجيتهم الحضارية واحدة. وعلينا نحن كسوريين أن ندرك هذه الحقيقة ونوطن أنفسنا على العمل الموحد في عالمنا العربي والإسلامي في أطر إنسانية.

أفرز التحدي الأوروبي الحضاري بقوته العسكرية والفكرية والفنية والاقتصادية الحركة الصهيونية فامتد العدوان علينا من شمال أفريقيا العربية إلى قلب سورية الطبيعية وأرض الرافدين وأطراف الجزيرة العربية.

وتراوحت الأطماع الإمبريالية ما بين الاحتلال والاستيطان.

وحمت شرعية الانتداب والوعود الرسمية والاتفاقات السرية بلفور وسايكس بيكو وسان ريمو الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتقاسمت فرنسا وبريطانيا تركة الرجل المريض للدولة العثمانية فانبثقت الحركات الوطنية والمقاومة وثورات التحرير من الهند إلى المنطقة العربية. ومن أفريقيا العربية إلى القارة كلها. ولا تزال عقابيلها حامية حتى اليوم.

وقامت قيامة النهضة في عالمنا العربي كله لمقاومة العدوان وتثبيت الهوية القومية والشخصية الحضارية في الجزائر وفلسطين وجنوب لبنان والجولان المحتل. وبزغ الشعر الوطني يتغنى بالحقوق الطبيعية والموروث الحضاري. وتميّزت قصيدة المقاومة بملامح جديدة في الرؤيا الشعرية ومضمون التجربة الإنسانية للتحرر من سلاسل العبودية وتحرير أرض الوطن من الجيوش الأجنبية وفلول الاستيطان المبعثرة هنا وهناك في المنطقة كلها.

فقامت هويتنا الحضارية الحديثة في بناء الدولة والحياة الاقتصادية والحركة العلمية والانفتاح الحضاري من خلال التربية والتعليم وحركة الاستشراق والترجمة والبعثات وتنظيم الجماعات والحركات والأحزاب للرد على التحديات الغربية وإفرازاتها الأوروبية والصهيونية. وشهد شعرنا ولادة القصيدة الحديثة في المضمون والشكل والرؤية الحضارية والفنية.

وسبق الشاعر المؤرخ في تصوير الكارثة وتزويد المواطن والوطن بالرؤيا القومية معرفة الذات والآخر في إطار صحوة إنسانية شاملة تؤمن بالمساواة والعدل والحرية وتقاوم العدوان.

وبعد أن تتبعت حركة المقاومة وأدبها وثقافتها التي انبثقت على الساحة العربية كجواب على التحديات الغربية تبيّن لي أنها حركة واحدة على رغم تعدد الجبهات والأقاليم. فحركة التحرير الفلسطيني لا يمكن أن نفصلها عن الثورة الجزائرية في إطار المقاومة وما رافقها من إبداع أدبي ورؤى فكرية وثقافية، جعلت منها جميعاً تياراً واحداً في وجداننا المعاصر وذاكرتنا القومية.

وكلا الثورتين الجزائرية والفلسطينية لم يكن معزولاً عن النضال والمقاومة على الجبهات في لبنان والجولان.

لذلك نجد أن بناء ثقافة المقاومة وما رافقها من إبداع لم يكن محصوراً في الجزائر وفلسطين بل كان هماً مشتركاً عند الطليعة العربية ككل. كما أن حركة المقاومة في الساحة العربية لم تكن معزولةً عن حركات المقاومة العالمية في فرنسا وحربها ضد الاحتلال النازي وفي إسبانيا وثورتها التي استقطبت حركات التحرير من شتى أنحاء العالم ضد الفاشية وفي روسيا ونضالها المقاوم ضد الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية كما أن التجليات الأدبية والفنية لحركة المقاومة العالمية وجدت سبيلها إلى ثقافتنا وإبداعنا المعاصر عن طريق الشراكة الحضارية والترجمة.

في مقدمتنا لهذه الدراسة ألقينا الضوء على المشترك التاريخي مع اللآخر في الغرب والتطورات التي مهدت إلى نشوء حركة المقاومة وثقافتها وتدرجها الزمني من ثورة في الجزائر إلى حركة تحرير في فلسطين إلى مقاومة مسلحة في لبنان وحرب مفتوحة في الجولان فمن الطبيعي أن تنحسر عقيدة الفن للفن والثقافة للثقافة في رؤانا الفكرية والإبداعية وأن تتقدم وظائف الدفاع عن الهوية والمصير من دون أن تتخلى عن الجودة الفنية.

ومع اهتمامنا بالإطار والتسلسل الزمني في الأبواب الخمسة لهذه الدراسة إلا أننا أولينا الاهتمام للخلفيات التاريخية والاجتماعية والثقافية في الاتجاهات الشعرية والظواهر الفنية ودور المرأة وتجليات الإبداع في الأسطورة والرمز والعودة إلى الجذور. فوزعناها في المقدّمة على الأبواب وأعطيناها الغاية الكافية وأضأنا البعدين القومي والحضاري في ثقافة المقاومة لدينا، بدءاً من النصوص وما صاحبها من ظروف المكان والزمان وانتهاءً بالرسائل والدلالات ووظيفة الأدب والثقافة في الدفاع عن الهوية، ورسم صورتنا الحضارية في أبواب خمسة: الأول شعر النضال الجزائري والتجربة الثورية والثاني اتجاهات الشعر المقاوم والكفاح الفلسطيني والثالث بوابة فاطمة وظاهرة المرأة المقاومة والرابع: جبوس ورؤيا العربية الأخيرة والخامس في خاتمة عن الشعر المقاوم بين الوظيفة التاريخية والفنية.

شعر النضال الجزائري والتجربة الثورية

يبرز في تاريخنا الحديث بعد الحرب الكونية الثانية حدثان خطيران: الأول: المأساة الفلسطينية، والثاني: الثورة الجزائرية.

ولكل من هذين الحدثين نتائجه وآثاره في حياتنا السياسية والفكرية والفنية. وإذا كانت هذه الآثار قد برزت في مجالات السياسة والفكر والاجتماع بدرجة أقوى وأوضح من بروزها في مجالات الفن، فلأن التعبير عن الحياة أي الحياة- يحتاج إلى نضج الأفكار والمشاعر والانفعالات وتخمرها في مصير النفس، فتتغلغل إلى الأعماق التي لا تصل إليها الفورات السياسية أو التحديات الاجتماعية أو الخطرات الفكرية. فالفن وحده يستطيع أن يلِجَ عتمات النفس وأغوارها فيخرج بها، بعد مخاض الخلق، إلى النور.

إن عظمة الثورة الجزائرية وما رافقها من بطولات، تسمو بالدارس عن مستوى الدراسات الشكلية والتحليلية لشعر النضال. فتتناول العبارة والفكرة والعاطفة ومدى ما أصابه الشاعر من نجاح أو فشل في خدمة الثورة، يبدو لعباً أمام البحث عن التجربة الثورية في هذا الشعر. لذا سندرسه دراسة تنطلق مما يجب أن يكون عليه الشعر والشاعر الثوريان، وتتحرك تحركاً بنائياً من قطبين:

الأول: الشعر الذي قيل في هذه الثورة.

والثاني: نظرتنا إليه على ضوء التجربة الثورية.

فهل لدينا شعر تصح تسميته بشعر الثورة الجزائرية انطلاقاً من هذا المقياس؟ وعلى هذا الضوء، ومن زاوية أخرى، هل نستطيع أن نجمع ديواناً للشعر الذي قيل في الثورة الجزائرية تفخر به المكتبة العربية ويكون مثال اعتزاز في تاريخنا الأدبي الحديث؟

إن الشاعر الثوري الحقّ يتخطى المناسبات ويتجاوز حدود الزمان والمكان ويفلت من الأطر المحلية ليسمو بتجربته الثورية إلى مستوى إنساني يفرض نفسه شكلاً ومضموناً لا على الناطق بلغته وحاضر تجربته فحسب، بل على الإنسان في كل وزمان مكان.

ولكي لا نذهب بعيداً، هل نستطيع أن نؤلف ديواناً لشعر الثورة الجزائرية بمستوى المعلقات الجاهلية، والنقائض الأموية، وحماسة أبي تمام، والطلائع من القصائد العباسية والشعر الصوفي فنياً، مع فارق الحداثة وبمستوى هذه الثورة المباركة الرائعة من حيث تصميمها ونضاليتها وعمقها وبُعد غايتها وصميمية الوجود الذي تعبر عنه وجود الحرية والسيادة والإرادة والاستقلال.

وهل هذا الشعر بمستوى الذروات الفنية في حياتنا وتاريخنا التي تشارف أفقاً إنسانياً لا نحب أن يتخلى عنه وجه بارز من وجوه شعرنا المعاصرة؟ أم أنه يلعب دور الحادي في مؤخرة الركب الثوري، وهو أشبه بأغنية عتيقة في أوركسترا ثورية رائعة أو بنفير داوٍ كل دوره أن يهيب بالجماهير إلى القتال فيكون بقاؤه بقاء زمنياً موقتاً لا بقاء فنياً إنسانياً خالداً.

ليس من ريب في أن معظم الشعراء الذين غنوا التضحيات التي قام بها الثوار الجزائريون والمآسي التي عصفت بأرض الثورة والدم، والبطولات التي انحنى لها كل إنسان يقدّس البطولة، كانوا صادقين ومخلصين في عواطفهم ومشاعرهم، وأنهم قد خدموا الثورة الجزائرية خدمة جلى، وأسدوا إليها صنيعاً كبيراً ولكن معظمهم كان ثورياً بالعدوى لا بالمعاناة، صدرو في قصائدهم عن تجربة شعورية تملأ لحظات من حياتهم لا عن تجربة ثورية كيانية تملأ حياتهم كلها. لذلك قلما نقع على قصيدة أو جملة قصائد تخلّد هذه الثورة العظيمة كلما خلد المتنبي «الحدث الحمراء» أو كما خلّد هوميروس «حصار طروادة». ومع أن شعر النضال الجزائري قد غزر غزارة ملحوظة منذ عام 1955 لكنها غزارة أدت بنا إلى الخيبة من الناحية الفنية فأين هو الشاعر الذي يجلبنا بالعدوى الثورية ويملؤنا بتجربتها ليخلق منا نفوساً ثورية أو يرفعنا إليها؟

إن من يطلب من شاعر النضال المعاصر أن يكون نافخ البوق في انتفاضاتنا الثورية يحقر الشعر والشاعر، ويحط من أهميتها ويدفع بهما بعيداً من المركز الذي يجب أن يشغلاه، ويضرب حولهما الأسوار عن معنى الثورة وروحها ورؤياها. والشاعر الذي لا تبصر الثورة بعينيه وتتحرك بنبضه وتحتل كيانه ولا يعاني التجربة الثورية بكل روحه وعصبه وفكره لا يمكن أن يكون شاعراً ثورياً. على شعراء النضال عندنا أن يميزوا بين الدور الذي يتوجب على الشعر أن يلعبه في التعبير عن الروح الثورية وبين دور الصحافة في خدمتها ومواكبتها لهذه الروح. فالشعراء الثوريون بالعدوى والانفعال لا يخلقون شعراً ثورياً. للشاعر الثوري رحمه الذي يتمزق عنه محترقاً بترابه ودمه، ليكون مشعالاً ثورياً خالداً، لا ومضة لا تلبث أن تنطفئ بمجرّد التماعها. وإنه لمؤسف حقاً أن نشير إلى أن غالبية الذين غنوا الشعر النضالي يعانون انقساماً في الشخصية لا تمسكها النظرة الواحدة إلى الحياة والكون والفن. محافظون متهيبون في الاجتماع والمرأة والجنس، ثوريون في غناء النضال وحدوه خلف المكاتب وفي الصالونات الأدبية والحلقات الاجتماعية.

لقد انطلقت الثورة عام 1954 ولكنها لم تكن بنت ظروفها الحاضرة. في انفجار للغليان الثوري والانتفاضات النضالية التي كانت تتوالى منذ أيام الغزو والاحتلال الأولى من انتفاضة عبد القادر الجزائري، إلى ثورة أولاد سيدي الشيخ والمقاومة الجزائرية في كل مراحلها. فالمناخ الطبيعي للشاعر الثوري هو مناخ هذه الحقبة النضالية التاريخية الطويلة، التي هي بمثابة رحم حقيقي لشاعر ثوري، ليس من الضروري أن يحمل السلاح ويقاتل لكي يخلق لنا شعراً ثورياً بقدر ما هو ضروري أن تتوفر له الروح الثورية والرؤى والحياة الثوريتان. وقلما نسمع في تلك الحقبة صوتاً نقياً صافياً يعبر عن النضال الجزائري باستثناء الشعر الشعبي ضمن الجزائر، الذي يختلط بالفولكلور والعقائد الشعبية. فلو تيسّر لهذا اللون من الشعر شاعر ثوري موهوب لخرج منه بمادة شعرية خصبة تخلقها من جديد تجربة ثورية ممتلئة.

فظروف الثورات الملتهبة هي أكثر ما تكون ملاءمة لنشوء الفنون الشعبية من أمثال وقصص وشعر ملحمي يجري على ألسنة الشعب عامة، لأن في مثل هذه الظروف تتوحد التجربة الثورية بالتجربة الجماعية فيصعب الفصل بينهما على صعيد فني. وليرتقي هذا اللون الفطري من الفن الذي يتكون استجابة لروح الجماعة إلى مستوى الفن الخالص، لا بد له من تصفية وتنقية يقوم بها الزمن من جهة وعبقريات مؤهلة من جهة أخرى لا تنقصها التجربة المذكورة.

غداً حلقة ثانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى