ثقافة السلام بين الاهتمام الدولي وحاجة الداخل: دور القانون والتربية في ترسيخها 2/2

خليل خيرالله

يعالج الدكتور خليل خيرالله دور القانون والتربية بترسيخ ثقافة السلام ويدعو إلى أن تنتقل الثقافة من المبادئ والعقول إلى مجاري الحياة والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحقوقية. إضافةً إلى إشارته إلى أن السلام هو حاجة دولية ويقع عليه اهتمام دولي، السلام الذي ترعاه نصوص دولية عديدة.

كما يشير خيرالله إلى أن السلام حاجة داخلية ضمن المجتمع من شأنها ترسيخ ثقافة السلام الداخلي.

دور التربية في ترسيخ ثقافة السلام الاجتماعي

عندما أخذت الأونيسكو تنظر إلى السلم من زاوية ثقافية تربوية، أولت الحوار الثقافي اهتماماً كبيراً في برنامجها الرامي إلى توفير ثقافة سلام عالمية، وهو برنامج طموح شمل عدداً من المجالات التربوية العامة. ويعتبر «مشروع رابطة المدارس من أهم المشاريع التي أقامتها بغية تشجيع الحوار الثقافي وبالتالي ثقافة السلام.

إن ثقافة السلام تعني أن تسود ثقافة الحوار والمناقشة والإقناع في التعامل بين المواطنين بدلاً من فرض الرأي الواحد بالتهديد أو بالقوّة. ويعني ذلك أن يحلّ المواطن خلافاته عن طريق وعي حقوقه أولاً، واعتماد مبدأ الوقاية الحقوقية قبل اضطراره للمفاوضة أو حلّ نزاعاته حبياً أو الاحتكام إلى القضاء حيث تحتكر الدولة العنف والعقوبة ضد المسيء إلى غيره… وفي كل هذه الحالات لا مجال للأفراد لاعتماد الثأر والتشفّي.

لا شكّ أن دور التربية عظيم الأهمية في نقل الثقافة من جيل إلى آخر، وكلنا يعرف قاعدة أن الصغير والد الكبير . والتربية عائلة ومدارس ثم جامعات وجمعيات يمكنها أن تثقف على قيم السلام من تفاهم وتسامح وتضامن لكنها، وهذا الأهم، مناهج تربوية تتضمن قيماً تتفق والفلسفة التي يعتنقها المجتمع، وهي أيضاً معلمون مؤهلون مدربون يتوسلون جميع الأساليب العلمية والتشجيعية في مهمتهم التربوية.

إن غرس قيم العدل والسلام في نفس التلميذ وتعميقها في ذهنه بقصد ترجمتها إلى سلوك يومي، هو غرض التربية. وكل تقصير عن جعل ثقافة السلام الاجتماعي قيمة تربوية، يترك الطفل وبالتالي الشاب أمام قلق تسببه الفوضى السائدة في مجتمعنا، وتؤدي به إلى الخوف من الآخرين واستبعادهم واللجوء إلى العنف لحلّ النزاعات معهم.

ويجب أن تساهم السياسات والمناهج التربوية والدراسية في تحقيق ما يسمى بالاتجاه الوقائي التربوي لجهة تنمية قدرة الطفل على استقلال الرأي والتفكير النقدي والتفكير الأخلاقي، وهذا يسهم في تعزيز قيم التفاهم والتسامح والتضامن بين الأفراد ومحاربة التطرّف وإيجاد المناعة الذاتية التي تقي من خروج السلوك البشري عن دائرة التصرف السوي. وهذا ما دعت إليه منظمة الأونيسكو حين أكدت ضرورة تحسين نوعية المناهج المدرسية بإدراج القيم الإنسانية لتحقيق السلام والتلاحم الاجتماعي، واحترام حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، وأن تكون عملية تطوير المناهج الدراسية قائمة على المشاركة 1 .

إن لثقافة العنف حلقة مفرغة يرتكبها بعض أفراد المجتمع ويقعون ضحايا لها، بينما تهدف ثقافة السلام إلى ترك العنف في مواجهة النزاعات. أما دور التربية على السلام فهو تزويد الشخص بالمعرفة والمهارات والقيم التي تمكنه من حلّ النزاعات سلمياً.

والمقصود بالمعرفة هنا، معرفة أسباب العنف وتقييم نتائجه قبل البحث عن حلول بديلة منه. وتعني التربية على السلام أيضاً التعرّف إلى الفريق الآخر لأن الإنسان عدو ما يجهل أو من يجهل ولأن الخوف يولّد سلوكاً دفاعياً وعنفاً قد لا يكون بالتحديد جسدياً ولكن أيضاً معنوياً يتمثل في تداول الإشاعات وإعلاء شأن الذات تجاه الشخص الآخر، كما يحصل في أيامنا اليوم بين أتباع المذاهب في بلادنا أو بين الطبقات والفئات والمهن المختلفة.

أما المهارات المطلوبة فتبدأ برؤية النزاع بشكلٍ إيجابي، أي بالتعرف إلى حاجات كل الأطراف قبل إيجاد الحلول المناسبة، لأن النزاع غالباً ما يكون تنازع حاجات، ولأنه غالباً ما ينتهي بما يرضي الطرف الأقوى على حساب الطرف الأضعف: الأهل على حساب الطفل والأخ على حساب الأخت والزوج على حساب الزوجة والأقوى من الأصدقاء على حساب الأضعف… ومن المهارات المطلوبة، بعد التعرّف إلى الاحتياجات سبب النزاع، القدرة على الحوار للوصول إلى حل حقيقي، وهي مهارة في الاستماع والتعبير قبل ابتداع الحلول المناسبة.

وبالنسبة للقيم التي تتضمنها التربية على السلام فأولاها هي تربية الشخص على احترام ذاته وتقديرها واحترام الآخرين وتقديرهم ما يعزز الكرامة الإنسانية وهي أساس حقوق الإنسان وبها تبدأ مقدمة «الشرعة العالمية لحقوق الإنسان» ومن دونها يبدو الإنسان رخيصاً ومن يسهل يسهل الهوان عليه.. ويأتي هنا دور التربية في إفساح المجال للطالب بإبداء رأيه الشخصي بحرية ومن دونها أحادية مفروضة واستبداد في الرأي. ومن المفيد الإشارة إلى أن شعور الإنسان بكرامته الإنسانية ينطوي على قيم التسامح وقبول الآخر والثقة بالنفس وبعدم أحادية الرأي.

وهكذا يكون للتربية على السلام دورها الأساس في ثقافة السلام بما يعني تكوين إنسان إيجابي وبنّاء ينبذ العنف في حياته الخاصة والعامة وفي رأيه السياسي أو انتمائه الطائفي، فيساهم في استقرار مجتمعه وتطويره رغم جميع مظاهر العنف والفساد في المجتمع وسطوة الأقوياء وبؤس الضعفاء وضعف سيادة القانون وتجارة السياسيين بعواطف الناس وغرائزهم الطائفية وحاجاتهم الحياتية وشحنهم وقوداً لمعارك عبثية.

… ودور القانون

إن المهمة الأساسية لمنظمة الأمم المتحدة هي حفظ السلام والأمن العالميين.

لن نتناول نصوص ميثاق الأمم المتحدة المناهض للحرب ونصوص القانون الدولي الإنساني وجوهره اتفاقية جنيف 1949 التي تتعلق بالأوضاع الإنسانية في زمن الحرب وما بعدها. هذه النصوص تهدف إلى إقامة الأمن والسلام، لكن تطبيقها غالباً ما كان استنسابياً من قبل الدول العظمى، وخصوصاً بما تعلق بحقوقنا، من دون أن تنسى لحظةً أن تبشّرنا بالسلام وتهيّئ الحرب. لكننا نهتم هنا بسلامنا الداخلي ودور القانون الداخلي في إرساء ثقافة السلام في مجتمعنا.

القانون صورة حية تعكس واقع المجتمعات، وعليه يرتكز بنيانها، فهو ينظمها ويهذبها ويعنى بتطويرها كي يستقر فيها الأمن والعدالة قدر المستطاع. وما الأجهزة التشريعية والتنفيذية والقضائية التي نصّت عليها الدساتير سوى مؤسسات يتكامل عملها في ضبط السلوك الإنساني وتسيير مرفق العدالة تحقيقاً للأمن الاجتماعي الذي كان وسيبقى مطلباً للإنسان. وبالعمل من أجل العدالة يتحقّق السلام، إذ لا سلام حقيقياً بلا عدالة.

إن الغاية من التشريع في المجتمعات هي تنظيم وترتيب علاقات مؤسساتها وأفرادها عبر وضع قواعد قانونية من أهم صفاتها أنها عامة وأمرة وملزمة، وأنها تضمن توزيعاً منصفاً لخيرات الحياة العامة وأعبائها.

السلطة التشريعية تقر القوانين وبعضها لا يصبح قيد التنفيذ إلا بصدور مراسيم تنظيمية وتطبيقية أو قرارات تتولاها السلطة التنفيذية.

ولا جدال أن النصّ العادل ينعكس عدلاً وسلاماً في المجتمع ولا يكون سبباً لتوترات اجتماعية أو سياسية أو غيرها، كقانون الإيجار، مثلاً، الذي يجعل من المالك والمستأجر أناساً حاقدين متنابذين مظلومين يصرفون عمرهم بالقلق أو بالتظلم وبالدعاوى القضائية لاسترداد أو للحصول على أبسط حقوق الإنسان بالملكية والسكن والأمان الاجتماعي… أو كقانون الانتخاب الذي يفصّل على قياس الحكام ويسبّب الظلم وسوء التمثيل وأسوأ النتائج في جميع مصالح الشعب من دون تمييز مما يصيب السلم الاجتماعي ويشجع بيئة العنف والتنابذ والعقم.

ثم إن النص العادل، الذي لا يفصّل على قياس المصالح الخاصة، يقي المواطنين النزاعات الطويلة واللجوء إلى العنف أو الثأر أو استيفاء الحقّ بالذات ويصبح اللجوء للقضاء استثنائياً عند الإساءة إلى الحقوق. والنص القانوني هو ما ينظم السلطة القضائية وينظم استقلاليتها في تطبيق العدالة تطبيقاً عادلاً وحلّ الخلافات وإعادة الحقوق إلى أصحابها، أي إعادة الأطراف إلى مراكزها القانونية.

وبحسب نوع الأعمال التي يحتاج الإنسان إلى القيام بها انقسم القانون إلى فروع عدّة أهمها قانون الموجبات والعقود كمنظم للعلاقات والاتفاقات بين الأفراد وبالتالي للرضى والسلم بينهم، وقانون العقوبات الذي يضمن حقّ المجتمع بالدفاع عن نفسه وفرض السلم الأهلي عبر السلوك الفردي والجماعي السوي، خصوصاً بما يتعلق بالاعتداءات على الأشخاص ومنها الإرهاب والفتنة.

ومن نافل القول أن للقانون دوراً تربوياً إلى جانب دوره الردعي. وعليه، فإن ثقافة القانون تعطي المواطن ثقة بنفسه وقدرة على معرفة حقوقه وطرق حمايتها والحدود التي تبدأ منها حقوق سواه. ومجتمع تسوده الثقافة الحقوقية مجتمع ينبذ العنف والتطرّف ويحقق الاستقرار.

يبقى أن الأمن والعدالة توأمان وهما شرط السلام الحقيقي. وإن اضطراب الأمن لمدة طويلة في لبنان، وتعطيل عمل مؤسساته إلى حدٍّ كبير، قلّص رهبة الناس من القانون ومن مؤسسات العدالة وشجع على الاستقواء بالقوى النافذة فغاب الأمان.

أخيراً، ولئن كانت ثقافة السلام إعلاناً وخطة عمل صادرة عن الأمم المتحدة وتنفذها بشراكة مع منظمات غير حكومية مرتبطة بها، فإن ما يجب أن تكونه هو خطة وطنية تعتمد المبادئ ذاتها وتتنكبها حكوماتنا وتشرف على تنفيذها لأنها حاجة وتحد فعليان ودعامة من دعائم الديمقراطية ومصلحة عليا تختلف عن أوضاع قهر الناس والتسلط عليهم وإخراس عقولهم وكبت حرياتهم وتسمية ذلك استقراراً!

وعملية التثقيف على السلام يجب أن تأخذ مداها في وعي الشعوب وفي سلوك أفرادها وجماعاتها وأن تضبطها القوانين التي تختلف عن منطق العين بالعين والسن بالسن ويصبح الجميع أعمى غاندي . لكنها تتعارض أيضاً مع فرضها بقوة الصاروخ والطائرة من دول تدّعي أنها أكثر تحضّراً وأنها راعية حقوق الإنسان في العالم فتقتل باسم السلام وتدمر باسم الديمقراطية وتتلاعب بمصير الشعوب فتمزّقها وتنهب ثرواتها وتحوّل ناسها لاجئين وترسل لهم الخيام والفتات باسم الإنسانية والسلام.

وكما هو الإرهاب عقيدة لدى البعض فهكذا يجب أن يكون السلام فنسميه عقيدة السلام الداخلي، وهي أصل التماسك الاجتماعي وحافظ الدولة. وكل الأماني أن تتحول ثقافة السلام إلى قيم حقوقية ملزمة يشكل الاعتداء عليها اعتداء على قيم المجتمع وتقاليده الراسخة.

وأختم بكلمة لفريديريك باس: «الأمم كالأفراد قابلة للتربية2».

دكتور في الحقوق

هوامش

1 – اليونسكو 2003 ص 6

2 – Les nations comme les individus sont susceptibles d ducation. Fr deric Passy. 1er Laur at avec Henry Dumant du Prix Nobel de la Paix, 1901

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى