هل تتحوّل سورية إلى أرض «أم الحروب» إقليمياً ودولياً؟

د. مهدي دخل الله

«نحذّر الجميع من أن يقتربوا من الطير في سماء سورية» إنه الردّ العملي الأهمّ على اللقاء السعودي التركي حول سورية وما خرج عنه من تهديدات رفعت درجة الحرارة في السماء الإقليمية والدولية. التصريح المذكور جاء على لسان نائب رئيس الوزراء الروسي ديمتري روغوزين وهو تحذير شديد لكلّ مَن يحاول خلط الأوراق في منطقة ملتهبة ومملوءة حتى الحلق بالتناقضات…

أما «الطير» فهو «سوخوي 35» الطائرة المقاتلة الروسية الأحدث في العالم والتي مهمّتها أن تحمي سماء سورية في الشمال على طول الحدود مع تركيا. هذه الحماية تمكّن المقاتلات والقاذفات السورية من دكّ مواقع المسلحين في الشمال السوري بما يمهّد للجيش لدخوله هذه المواقع واستردادها إلى كنف الدولة.

على عكس الجدية الروسية سارعت سورية وإيران إلى التهكّم على التهديد السعودي التركي «مزحة نكتة جنون سنعيدهم في صناديق خشبية»، قد تكون تهديدات الرياض وأنقرة مجرد حماقة لا يقبلها الواقع، لكن من قال إنّ الحكمة والتعقل تتحكّمان بالعلاقات الدولية؟

إنّ استقراء سريعاً للعلاقات الدولية منذ الثورة الفرنسية 1789 على الأقلّ يؤكد أنّ حضور الحكمة كان نادراً في هذه العلاقات، بل إنه كان معدوماً إنْ أردنا الدقة. جيوش نابليون تدخل فيينـا في بداية القرن التاسع عشر، وعام 1870 تدخل الجيوش الألمانية باريس، وتعيد الكرة عام 1941. عشرات الحروب أزهقت أرواح مئات الملايين من البشر مع ما رافق ذلك من تدمير، وكلّ ذلك حصل في «العالم المتمدّن» فما بالك «بالعالم المتخلّف»؟ فهل يمكن الحديث عن العقل في هذا التاريخ البائس كلّهم؟

التجربة العالمية إذاً، تؤكد سيطرة الحماقة على العلاقات الدولية، ولكن ماذا عن الحرب على سورية؟ السيادة هنا للحماقة منذ البداية، فمع كلّ إنجاز للدولة السورية وجيشها كان أعداؤها يرفعون مستوى الحماقة والتصعيد وليس العكس. الانتصار السوري على المتظاهرين المسلحين في بداية الأزمة قابله الطرف الآخر بتشكيل مجموعات إرهابية مدعومة بعدد كبير من المرتزقة وبتسليح نوعي، تحرير حمص والحصن والقصَيْر دفع بهؤلاء إلى تنظيم عاصفة الجنوب. الانتصار على هذه العاصفة قابلوه بحضور تركي شبه مباشر في احتلال إدلـب وجسر الشغور وأريحا والقريتين وتدمر. فما الذي يجعلنا اليوم آمنين من شرّ التصعيد بعد الانتصارات الواسعة للجيش السوري؟

إنّ ما يمنع حماقة سعودية تركية عوامل موجودة وقوية. لا شك في ذلك. لكن هناك أيضاً عوامل تجعل الخطر محتملاً…

عوامل الردع

أهمّ عامل لردع الخطة التركية السعودية وجعلها مجرد «جسّ نبض» أو رغبة مكبوتة هو أنّ «الطير الروسي» موجود في سماء سورية، وأنّ الحوار الروسي الأميركي المتوتر ما زال مستمراً باعتراف الطرفين. إضافة لذلك فإنّ أيّ فعالية سعودية أو تركية لا يمكن أن تتمّ دون ضوء أخضر أميركي، ما يعني توريط الناتو والمعسكر الغربي بكامله في مواجهة مباشرة مع روسيا.

كما أنّ التحذير الإيراني للسعودية لا شك في أنه يلعب دوراً رادعاً، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ طهران عادت إلى «الحظيرة الدولية» وتتعزّز علاقاتها وتأثيرها باستمرار مع أوروبـا.

حضور أوروبـا الغربية مهمّ أيضاً هنا، فألمانيـا وفرنسـا لا تريدان مقاطعة جديدة مع روسيا وإيران، ولا تحبّذان الانجرار إلى مثل هذا الوضع الذي لا يخدم مصالحهما…

ومن جملة الروادع أيضاً الحضور المتزايد للدبلوماسية السورية على الساحة الدولية مرة عبر الدور الروسي وأخرى عبر المشاركة في اللقاءات الدولية كـ«جنيف 3». ثم هناك الحضور القوي للعامل الميداني على الأرض السورية، فالجيش يتقدّم في حرب عصابات منهكة، وتقدّمه الواسع بغطاء جوي سوري روسي. وقد يكون هذا الجيش أول جيش نظامي ينتصر في حرب عصابات بعد فشل الجيش الأميركي في فيتنام والفرنسي في الجزائر. الأميركيون والفرنسيون كانوا يحاربون على أرض ليست لهم، بينما الجيش السوري يحارب على أرضه…

عوامل تفعيل «الحماقة»

في المقابل هناك عوامل تجعل التهديد السعودي التركي ممكن التنفيذ لو أدّى ذلك إلى وصول المنطقة والعالم إلى حافة الهاوية. هناك شيء في العلاقات الدولية اسمه التوريط، أيّ عندما تضطر القوى العظمى للانجرار إلى حرب بسبب حماقة أتباعها الصغار. فعلتها «إسرائيل» عام 1967 عندما كذب زعماؤها على الرئيس الأميركي ليندون جونسون ووعدوه بأنّ «إسرائيل» لن تكون البادئة بالحرب. بلع الرئيس الأميركي الطعم فقام بطمأنة بريجينيف بأنّ «الإسرائيليين» لن يكونوا البادئين، وعليه طلب بريجينيف من عبد الناصر ألا يكون بادئاً بالحرب. لكن «إسرائيل» فعلتها وبدأت الحرب فانتصرت بخداعها قبل أن تنتصر بقوتها. جونسون هذا نفسه ورّط الكونغرس بالموافقة على الحرب الأميركية ضد فيتنام الشمالية. أما بيغين وشارون فقد ورّطا ريغـان عام 1982 عندما اجتاز الجيش «الإسرائيلي» نهر الليطاني باتجاه بيروت والشوف دون موافقة أميركية مسبقة. «لقد ورّطونا لكن علينا دعمهم» اعترف ريغـان ثمّ أقصى وزير خارجيته الكسندر هيغ واستبدله بفيليب حبيب.

الدوافع التي تشجّع أنقرة والرياض على توريط المعسكر الغربي تندرج تحت عنوانين، الأول هو أنهما يخدمان في المحصلة الاستراتيجية الأميركية التي لا تريد أن ترى أسـداً وبوتينـاً في بلاد الشام، والثاني هو أنّ التطرف السعودي التركي له أنصاره في «الايستابلشمنت» الأميركي، أيّ في الإدارة والكونغرس على حدّ سواء. لا ننسى أنّ وزير الدفاع الأميركي كارتر جاء وزيراً مطيعاً لأوباما بعد أن أقال الرئيس الأميركي ثلاثة وزراء دفاع قبله كانوا يرون أنّ أسـداً قوياً في دمشق أقلّ سوءاً من فوضى قد يتكوّن خلالها في غياب الدولة «حزب الله سوري» جديد. كان هؤلاء يقولون ما دمنا غير قادرين على إزاحة الأسـد فلنتعامل معه «كشرّ لا بد منه». الوزير كارتر أكثر خضوعاً لرئيسه، وهذا الرئيس يبدو ضعيفاً أمام كونغرس يسيطر عليه الجمهوريون…

أخيـراً

بين عوامل الردع والعوامل المشجعة على حماقة قد تقود المنطقة والعالم إلى حرب لم يشهد مثلها التاريخ، بين هذا وذاك يتكوّن الواقع. وفي الصعاب يكون الحذر من الحمقى أهمّ كثيراً من الفرح بإنجازات الحليف… السؤال الذي بقي مفتوحاً هو: هل تتحوّل سورية إلى أرض تقع عليها «أم الحروب» وأبشع ما شاهده التاريخ؟

وزير وسفير سوري سابق

mahdidakhlala gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى