حين نرمي بذور التصدّي نحصد بيادر نصر وتنبت في ساحة المواجهة مليون رصاصة عماد مغنية… ذاكرة حياة عُمّدت بالشهادة

عبير حمدان

أن تكتب عن عماد مغنية، كأنك تحاول إمساك خيط رفيع قد يصل بك إلى مشارف المجد. لكن فكرة استلال القلم ليرتحل حبرك في ذاكرة التاريخ المقاوِم الذي لم تنتهِ فصول تدوينه بعد، فيها من المخاطرة ما يكفي لتفكّر كثيراً وتقرأ أكثر كلّ ما يمكن أن يطاله عقلك ويلامس قلبك من قصاصات ورقية حاكت سيرته ومسيرته، ويبقى في جعبة الزمن بماضيه وحاضره كمّاً هائلاً من السطور التي لم ولن تخرج إلى العلن. ربما لأن ما يختزنه التراب من حكايا يتخطّى فرضية النشر ويلغي إمكانية الإبداع الإنشائي، وربما لأن فعل المقاومة يقارب القداسة ليصبح سرّاً متصلاً بلحظة الانبعاث الأخير.

عماد المقاومة، قائد الانتصارين، الحاج رضوان، تسميات تختصر ذاكرة حياة عُمّدت بالشهادة لتزهر في ساحة المواجهة مليون رصاصة. تكبر الساحة إلى ما خلف الحدود التي فرضها المستعمر، وكلّما ارتفعت راية الحقّ نشعر أننا نتنشّق هواء فلسطين بعيداً عن جدار العزل ورائحة البترول المتصهين والبيانات الأممية التي لا تحترف إلّا القلق.

يقترن المبدأ بلحظة الولادة، كمن يخرج من رحم الأمومة إلى رحم الحياة، بيده كتاب السموات ليتلو آيات العدالة رحمة بالمظلومين على امتداد الجرح من المحيط إلى الخليج. وكأنه يرسم وطناً لا يمكنه سلخه عن محيطه وقضاياه المحقة. يسكن ملامح مزارعي التبغ وعبق الزعتر البرّي، ويشرق بين سنابل السهل الواسع. لم ترقبه العيون، فهو كالضوء المشذّى يخترق العتم ويمضي وقوفاً. كان الضوء الذي لا يأسره إطار الصورة. فالأفعال تتفوّق على الأقوال، والنهج المقاوم يتعارض والاستعراض.

ثماني سنوات من عمر الرحيل إلى المدى الأرحب، حيث تصبح الابتسامة مواسم عزّ ولم تزل الشعلة متّقدة. على الثغور يعبر طيفه ليمسح جباه أبنائه فتصبح تلك الثغور روضة من رياض الجنان، حيث لا يلمس صقيع الشتاء قلوبهم ولا يحرقهم الصيف بقيظه. هم أبناء عماد وتلامذته وروحه، تقيم في قبضاتهم فيرمون العدو بنار من سجّيل.

وللمقاومة وجهها الثقافي أيضاً، لذلك اختارت جمعية «قاف» الثقافية أن تحفر ذاكرة الزمن المُعمّد بالدماء من وحي الجهاد وتسميه العماد… في سعي جدّي لتخليد الذاكرة الحيّة للشهيد عماد مغنية مع أشخاص عاشوا معه تفاصيل حياة عامرة بالمجد والإباء وزاخرة بالتضحيات وحافلة بالانتصارات، مطلقة حملتها الإعلامية تحت شعار «يكون… حيث نكون».

خيط الصوف وعبق الليمون

أصدرت جمعية «قاف» عام 2015 كتاباً مصوّراً بثلاث لغات: العربية والإنكليزية والفارسية، يوثّق لمحطات من حياة القائد الشهيد عماد مغنيّة ضمت فيه صوراً حقيقية وشهادات لمن عاشوا معه معظم مراحل حياته. ولعلّ الأبرز تمثّل بأقوال والدته التي باتت مثالاً يُحتذى به من جرّاء إيمانها المترسّخ بالقضية التي لأجلها عاش عماد مغنية وبقى حياً فيها بعد استشهاده.

صوَر من الطفولة بما تختزنه من براءة وآمال كبيرة خرجت للنور بعد الغياب الجسدي. إنه الطفل الذي أبصر معالم المدينة قبيل اشتعالها ورفع المتاريس الرملية بين مناطقها. فنراه ممسكاً بإكليل عُلّق على تمثال الشهداء في الساحة البيروتية التي كانت لكلّ الناس، ونراه في «حرج العيد»، وعلى كورنيش المنارة وفي كل مكان يُشكّل مساحة لضحكات الأطفال. هو لا يختلف عن أقرانه في تلك المرحلة، كأيّ طفل ينتظر ثياب العيد وتقول الحاجّة أم عماد: «… كنت أحيك ثيابه بنفسي، أذكر مرّة أني كنت أعدّ لعماد وفؤاد ثياب العيد. كنت أحيك لهما كنزتَين صوفيتين، وكان قد بقي جزء من كنزة عماد لم أكمله بعد، عشية العيد، أذكر أنني سهرت الليل بطوله لأنجز له الكنزة».

أنهى دراسته الابتدائية في مدرسة «الصادق العاملية» عام 1973 ناجحاً في جميع المواد المدرسية المقرّرة للتعليم الابتدائي. فكانت خطوته الأولى نحو آفاق أوسع، وبدأ يميل أكثر إلى الالتزام الديني ويناضل بشكل غير معلن لخدمة معتقداته. ولرفيقه الشيخ حسين غبريس تعقيب على هذا النضال إذ يقول: «انطلقنا في العمل في المسجد من خلال تأسيس حركة سمّيناها آنذاك الشباب المؤمن في طيردبا، كان عماد عماد هذه الحركة. اقترح يومذاك أن نقوم بطلاء المسجد ليعطيه روحاً. لم يكن المال متوفراً معنا، وكنّا نعرف حينذاك أن أحداً لن يتجاوب إذا ما طلبنا مساعدة. حين افترقنا لم نكن بعد قد وجدنا حلّاً لهذه المشكلة. وبعد أربعة أيام جاءنا عماد بالطلاء وعدّته، وطلب منّا مساعدته في إنجاز المهمّة! لم يفصح عن مصدر المال، لكنّنا عرفنا لاحقاً أنه عمل في قطاف الليمون لمدة أربعة أيام ليجمع ثمن الطلاء، وهو عمل مضنٍ لطفل في مثل سنه!».

بدا هذا الطفل متمسّكاً بقناعاته متطلّعاً إلى ما بعد القطاف ليزهر فكراً يافعاً وقادراً على الثورة المنبثقة من الذات الإنسانية، لعلّه مزيج إيماني بالله والقضية.

فلسطين والخيط القطني

لم تكن صورة المقاومة بهيئتها الحالية قد تشكّلت حين قرأ الشاب الفتيّ حكاية فلسطين وثورتها. ومما ذكره مدير مركز «أمان» الدكتور أنيس النقاش حول تلك المرحلة: «أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، تقدّم إلى أحد مكاتب الثورة الفلسطينية شاب هو عماد مغنيّة، كنت عضواً في حركة فتح. وعرّف عن نفسه بكونه عضواً في مجموعة مؤمنة. وهم بحاجة إلى التدريب على السلاح لأنهم مقتنعون بالجهاد من أجل فلسطين … لاحقاً تقرّرت إقامة معسكر في منطقة الدامور لتدريب مجموعات لبنانية متنوّعة، واستوعب مجموعات كثيرة بينها المجموعة التي تحدّث عنها عماد، وخلال التدريب توطّدت العلاقة بيننا، وأظهر اهتماماً كبيراً بالعلوم العسكرية، في حين كان رفاقه يتابعون دروساً دينية عند السيد محمد حسين فضل الله».

لكن مغنيّة المقاتل لم يُغلّب العسكر على طلب العلم، إذ نال شهادة البكالوريا للتعليم الثانوي ـ فرع العلوم الاختبارية عام 1980 .

فلسطين، المسجد الأقصى، همّه الأساس حتى حين كان يذهب لأداء فريضة الحجّ. وعن ذلك تقول والدته: «سافر زوجي للعمل في المملكة العربية السعودية. أرسل لنا لزيارته وأداء فريضة الحجّ، رافقنا في الحملة الشيخ راغب حرب، والتقيت عماد هناك. لم تكن رحلة عماد إلى الحجّ مجرّد رحلة لأداء الفريضة الدينية فحسب، بل كان يعمل مع رفاقه على توزيع المنشورات، بمبادرة منهم لاستنهاض الثورة ضدّ الظلم وضدّ انتهاك حرمة المسجد الأقصى في فلسطين، لم يهدأ طوال الرحلة حتى أننا تعرّضنا للتفتيش أكثر من مرّة. في إحدى المرّات كنت أقرأ الدعاء جالسة، وإذ بالشيخ راغب حرب يطلب منّي أن أقف مسرعة ففعلت، وكنت ما زلت في حيرة من أمري، فرأيته يحفر بسرعة ويدفن مجموعة من الأوراق ثم طلب منّي الجلوس مكاني. ما أن أتممت جلوسي حتى دخلت فرقة من الشرطة وفتشوا المكان. عند خروجهم، طلبت تفسيراً لما يجري، فقال لي الشيخ ممازحاً هذا من أفعال ابنك!».

وكأنه أدرك مبكراً خطر ما يسمّونه «الاعتدال العربي»، وسعى إلى نشر ثقافة المقاومة حيث يسيل المال النفطي خدمة للمشروع الصهيوني.

أوّل الغيث… بصمة العماد

كانت عملية الاستشهادي أحمد قصير العملية الاستشهادية النوعية الأولى للمقاومة من «ابتكار» القائد عماد مغنيّة. إذ خطط وجهّز وأشرف على تنفيذها. وقد أسفرت عن مقتل 76 ضابطاً وجندياً صهيونيااً. ويؤكّد نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم أنّ عماد مغنية أعدّ هذه العملية بتفاصيلها، وتابعها بدقائقها، وحرص على تصويرها من أجل أن تكون هناك وثيقة تعرض في يوم من الأيّام.

لقد سجّلت هذه السنة تحوّلاً كبيراً في عمليات المقاومة ضدّ العدوّ الصهيوني: انطلاق العمليات الاستشهادية.

وتُعتبر عمليّة الاستشهادي أحمد قصير باكورة العمليات النوعية للمقاومة، فقد أدّت إلى تدمير مقرّ الحاكم العسكري في مدينة صور بتاريخ 11/11/1982. سجّلت هذه العملية اللحظة الأولى لولادة «المقاومة الإسلامية» في لبنان. وقد اعتبر أوري أور، قائد المنطقة الشمالية في جيش الاحتلال أنها «كانت الصدمة الأولى، والأقوى للجيش الإسرائيلي في لبنان». ومع عملية فاتح عهد الاستشهاديين، بدأ عصرٌ ممهورٌ ببصمة عماد مغنية.

هذا العصر الذي رسم ملامح المرحلة بخيطها العسكري المتقن وزرع أرض الجنوب ناراً ونوراً قوامه الشهادة. وتوالت الاتهامات الأميركية، إذ اعتبر ماثيو ليفينت، كبير محلّلي الشأن الأمني في «معهد واشنطن» أنّ مغنية مسؤولٌ عن تفجير محطة وكالة الاستخبارات الأميركية «CIA» في بيروت، وعن اختطاف وليام باكلي مبعوث الاستخبارات الأميركية بُعيد الانفجار.

لم يثن عماد مغنية أيُّ اتهام، فبعد سنة على تنفيذ عملية الاستشهادي أحمد قصير، وانتقال مقرّ قيادة جيش الاحتلال إلى مكان آخر. هاجم استشهاديّ بوساطة سيارة «بيك آب» مقرّ الاستخبارات «الإسرائيلية» في صور، حاول الحرّاس الصهاينة إيقافه، فلم يمتثل واندفع بآليته لتستقرّ أمام المبنى وتنفجر. وقد اعترف كيان العدو حينذاك بمقتل 29 من جنوده.

كان مغنية يزداد صلابة كلّما أوغل الجرح في وجدانه وقلبه، وهو رأى أخاه الأصغر جهاد مسجّىً أمامه بُعيد قصف مدفعي على منزل السيد محمد حسين فضل الله في منطقة بئر العبد في الضاحية الجنوبية لبيروت، وعاين استشهاد الشيخ راغب حرب قبل ذلك. كان شيخ المجاهدين يرى في عماد شاباً استثنائياً. كان معجباً بحركته الخفيفة، والذكية، وكان يرى فيه أملاً واعداً.

حزب الله وظلّ العماد

مع الإعلان عن ولادة حزب الله برسالته المفتوحة إلى المستضعفين في الأرض، أصبح لمغنية مرجعية علنية، ورغم ما أُثير من جدل حول هذا التنظيم في لبنان حينذاك، إلا أنه رسخّ حضوره بشكل فاعل على مستوى العالم العربي. حينذاك اختفى عماد مغنية، ومع اختفائه صار أكثر قدرة على التحرّك داخل منظومة المقاومة، وأكثر فاعليةً في تنظيم العمل العسكري، وتدعيمه. كلّما أوغل في الاختفاء، كلّما ظهر أكثر حضوراً في الميدان.

أدّت العمليات المتلاحقة في المناطق كافّة إلى انسحاب الصهاينة آب 1985 إلى المنطقة الحدودية، وإنشاء ما عُرِف بالحزام الأمني. كان هذا الانسحاب أولى تباشير هزيمة «إسرائيل» التي كان يراها عماد واقعة لا محال.

كان العدو مدركاً أنّ رجل الظلّ يسكن في التفاصيل، ويعرف مسار الرصاصة جيداً، ويعرف كيف يوظف إنجازاته في سياق إعلامي يزعزع ثقة العدو بقدرته على التحكم بالحرب الطويلة معه. إذ إنه كان يعمل على تصوير كلّ خطوات العمليات العسكرية وتوثيقها لتصبح مادة حسّية مساهمة في تحقيق التوازن المطلوب. وكان الحاج رضوان قادراً على رفع سقف التفاوض في مختلف صفقات التبادل على جثامين رفاق السلاح، ويشهد عبورهم من مكان قريب من دون أن تلمحه العين.

لم يقطع مغنية علاقاته مع المقاومين الفلسطينيين الذي عرفهم في بدايات العمل المقاوِم. وكان يتقصّى أخبار الداخل الفلسطيني على الدوام ليعرف مجريات الميدان ومتطلباته بهدف تعبئة المخيّمات ودعمها بالإمكانيات اللّازمة، وتدريب المقاومين ومدّهم بالخبرات.

كونه يعتبر أنّ إزالة «إسرائيل» ليست أمراً غير واقعي، فإلى جانب القناعات الدينية، «لدينا الكثير من الأسباب العلمية التي تدفعنا إلى الاقتناع أكثر بأنّ زوال إسرائيل مسألة مرتبطة بما نفعله نحن، أهل فلسطين داخلها وفي محيطها وفي العالم العربي».

استشهاد الموسوي… والحساب المفتوح

الضربة المؤلمة التي تلقاها حزب الله يوم اغتيال أمينه العام السيّد عباس الموسوي، أتاحت لصواريخ «كاتيوشا» ظهورها الأول ردّاً على عملية الاغتيال., ولم يرضَ مغنية أن تنكسر المقاومة، وفتح حساباً جديداً بين الكيان الغاصب وحزب الله ليخوضه مغنية بشخصه وعقله وقلبه، على امتداد العالم بأسره. تلك الحرب المفتوحة مع الكيان الصهيوني تجاوزت حدود الوطن وصارت المعادلة «إن قصف المناطق والقرى الآهلة بالسكان، سيلقى الرد عليه بالمثل». منذ ذلك الوقت، أضحت التجمّعات الصهيونية هدفاً مشروعاً لصواريخ «كاتيوشا». وقد شهد عام 1991 مواجهاتٍ يومية مماثلة، كما تخلّل تلك الفترة نشاطٌ لافتٌ في عمليات القوى الفلسطينية، خصوصاً الإسلامية منها. وقد كان ذلك ثمرة التنسيق مع الجهات الفلسطينية بهدف توحيد الجبهات والجهود الرامية إلى دحر العدو. وهو ما سعى إليه القائد عماد مغنية، لأنّه آمن أنّ العدو واحد، وعلى البندقية أن تكون… واحدة.

صار مغنية منذ استشهاد الموسوي مسؤولاً عن أمن المقاومة، وفي ذلك تحدّ لم يرفضه. وفي المقابل وجد العدو نفسه في مواجهة العقل والروح القادرين على تهديد وجوده.

وأتت عملية تصفية الحساب، «حرب الأيام السبعة، تموز 1993». حينذاك تمكّن مغنية من فرض التوازن من خلال الضربات الحاسمة ليثمر تفاهماً شفهياً عُرف بِاسم «تفاهم الكاتيوشا» لحفظ حقّ المقاومة في القيام بعمليات ضدّ مواقع الجيش الصهيوني، ومنع كيان العدو من استهداف المواقع المدنية خلال العمليات العسكرية. شكّلت هذه المعركة التي خاضها الحاج عماد وإخوانه المجاهدون الخطوة الأولى في سبيل إضعاف التفوّق الصهيوني.

تكرّر مشهد التوازن عام 1996، حيث شنّ العدو عدوانه على لبنان ذات نيسان تحت عنوان «عناقيد الغضب»، لكنه واجه المصير ذاته. فكان تفاهم نيسان 1996 مكتوباً هذه المرّة.

زمن الانتصارات

توالت العمليات النوعية، وبدأ العدوّ يعمل على تعداد الخسائر. وكان مصرع قائد القوات الصهيونية في الشريط المحتل الجنرال آيرز غيرنشتاين، صاحب أرفع رتبة عسكرية في المنطقة، ومساعده وسائقه والمراسل العسكري للإذاعة العبرية، صفعة مدوية تردّد صداها في الكيان الصهيوني.

كان غيرنشتاين 35 سنة «الرجل الأسطورة» لدى الجيش الصهيوني، ومن أبرز المعارضين لانسحاب جيش الاحتلال من جنوب لبنان! وباغتياله، أثبت عماد مغنية مجدّداً أنّه الأقدر، وبلا منازع، على الإمساك بمجريات الصراع.

وأشرق فجر التحرير في آيار 2000. كان الصهاينة يلملمون خيبتهم ويخرجون من القرى الجنوبية على إيقاع فرحة الجنوبيين بنزع الأسلاك الشائكة وتحطيم أقفال الاعتقال التعسّفي. مشى مغنية بين الناس. لم يعرفه أحد، حمل طفولته ومرحلة التدريب الأولى وثقل مسؤولية القيادة على عاتقه وسار نحو الحدود الفلسطينية، ليحقق أمنيته بالوصول إلى مشارف فلسطين ويتنشق هواءها للمرّة الأولى. ووسط فرحته العارمة، قام بقصّ جزء من السلك الحدودي، ولدى سؤاله عن السبب، ردّ باسماً: «هذا جزء من التحضيرات لعملية أسر محتملة!».

الانتصار العربي الأول منذ نكبة فلسطين أتى ممهوراً بتوقيع مغنية، حينئذ سقطت كلّ بيانات الاستنكار والتخاذل. وشهد العالم كله بيارق التحرير التي زرعها شبابٌ من لبنان عاهدوا رفاق لهم على الثأر لجراحهم ولدموع أبناء الشهداء وصبر أمهاتهم.

لم يكن لبنان الساحة الوحيدة بالنسبة إليه، فالساحات كلها مرتبطة بالقضية المركزية. وصلت بصمته إلى العراق في مواجهة الاحتلال الأميركي. وإلى جانب العمليات العسكرية، أَولى اهتماماً بالمعلومات كونها حرباً من نوع مختلف، فسعى إلى كسر احتكار الغرب للمعلومات، خصوصاً الأمنية منها، فأسّس وحدة متخصّصة بالعمل على رصد الدراسات الأمنية العلمية والتقارير البحثية والإعلامية الغربية والعبرية وترجمتها.

نصر أيار لم يكن نهاية المطاف، إذ إنّ مغنية بدأ يتحضّر للحرب المقبلة معلناً التعئبة العامة من خلال تدريب الطاقم البشري وتطويره على المستويات: العسكري، الأمني، الثقافي والروحي. كما عمل على تطوير الأسلحة التي تمتلكها المقاومة وأثمرت جهودها مفاجآت في تموز 2006، إبان العدوان الصهيوني على لبنان وكان تدمير البارجة «ساعر5» أولى المفاجآت، وصولاً إلى مجزرة الميركافا في وادي الحجير. كما عمد على تأسيس البنية التحتية اللازمة من حفر للأنفاق وتطوير شبكة الاتصالات والمعلوماتية… ودأب على زيارة مواقع عمل المجاهدين ليسأل عن احتياجاتهم الخاصة، وكان يدوّن ملاحظاته على دفتر صغير، وجميعهم عرفوه باسم «الحاج رضوان». وأتى انتصار تموز 2006 ليكرّس القائد عماد مغنية قائد الانتصارين بحقّ، بحسب تعبير أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله.

شهيداً… في نبض المقاومة

في 12 شباط 2008، ارتقى عماد مغنية شهيداً على أرض سورية، بصمة الصهاينة بدت واضحة المعالم في ضواحي دمشق وبعد مطاردة على مدى ثلاثة عقود ظهر «قائد الظلّ» إلى العلن. لكنه في شهادته كان أكثر قوّة من العدو، إذ انبعث في قلوب الشعوب الحرّة رمزاً لمواصلة المسيرة وأثمر صموداً ومواجهة نوعية عام 2009 على أرض فلسطين. فكانت غزّة تشرق شباناً وشيباً وأطفالاً على درب تعاليم العماد في وجه «الرصاص المصبوب»، وانتصرت كنتيجة طبيعية لثماني سنوات من التنسيق الفعّال مع المقاومة اللبنانية بقيادة قائد الانتصارين.

وجه عماد لم يغب عن المشهد السوري الدامي، إذ إنّ طريق القدس يعبر في تلك القرى التي يفتك بها الفكر التكفيري كوجه ثانٍ للعدو الصهيوني. اختار تلامذة مغنية عبور الحدود لردّ العدوان عن قرى البقاع. وبين الحدود الشمالية والحدود الشرقية حكاية أرض أنبتت شعباً مقاوماً بالفطرة.

سار الابن على خطى والده، على طريق القدس حمل جهاد عماد مغنية لقب الشهيد، شابه أباه قلباً وقالباً، وكثرٌ كما جهاد يحثّون الخطوات ليلاقوا عمادهم ويسلّموه مفتاح القدس، كيف لا؟ وهو الذي زرع في نفوسهم الثقة والمقدرة على الصمود والوعي للمطالبة بما هو حقٌ لهم وللأجيال التي ستليهم. هي ثقافة المقاومة بالصوت والصورة، بالرصاص الذي يواكبه العلم والمعرفة والإيمان، وبالتصميم على أن يكون… حيث نكون.

«قاف»… وجه المقاومة الثقافي
تعمل جمعية «قاف» الثقافية على جمع ذاكرة الشهيد عماد مغنية من خلال التواصل مع الناس الذين عايشوه، أقرباؤه، أصدقاؤه، رفاق النضال. ويعتبر القيّمون عليها أن مغنية هو ابن قضية إنسانية عالمية عنوانها «الدفاع عن المستضعفين»، لا يحدّه مذهب أو عرق أو دين.

بعد الكتاب المصوّر الأول الذي أرخت فيه لمحطات من حياة الشهيد، أنجزت الجمعية فيلماً وثائقياً مدّته عشر دقائق يتناول علاقة الشهيد عماد بفلسطين سيتم عرضه هذا المساء خلال برنامج «بانوراما اليوم» مع الزميلة منار صباغ، إضافة إلى إعلانات مرتبطة بالحملة الإعلامية التي تحيي ذكراه. كما إن الجمعية طبعت مفكرة تحمل اسمه، أرّخت لجميع الانتصارات التي حصلت على مستوى العالم العربي، وأعادت تعريف الأحداث والإنجازات الدائرة في فلك الصراع العربي ـ الصهيوني. وطبعت أيضاً كتاباً يضمّ مختارات من كلمات الإمام الخامنئي عن الشهيد والشهادة، وهو هدية إيرانية.

وقد تم تصوير كليب أبطاله أطفال بعمر ثمان سنوات، وذلك كان مقصوداً. إذ إن هؤلاء الأطفال سيؤدون نشيداً بعنوان «ما هذا الذي فوق الجبل؟» هو لا يتوجّه إلى الشهيد عماد مغنية بشكل مباشر، إنما يشير إلى المقاوِم الذي عمل بصمت لأجل هؤلاء الأطفال.

كما أن الجمعية أطلقت الموقع الإلكتروني الرسمي الخاص بالقائد عماد مغنية. ويشكّل الموقع مرجعاً توثيقياً يضمّ بعضاً من سيرته الذاتية وبعضاً من صوره وآثاره الشخصية. يعتبر الموقع مرجعاً توثيقياً للإطلاع على المواد الخاصّة بالشهيد عماد والتي أُنتجت عنه في المجالين الإعلامي والفنّي.

يذكر أن عمر الجمعية من عمر الإصدار الأول لها، أي سنة واحدة. وفي جعبتها الغزير من الأفكار والمشاريع المرتبطة بالمقاومة، تحمل بصمة عماد المقاومة، وتنطلق إلى فضاء رحب، حيث يصبح الرمز مرجعاً للساعين إلى حرّية الفكر والمعتقد على امتداد المساحة الكونية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى