سورية الموحَّدة وبقاء الأسد رهان الجميع…

سناء أسعد

الملف السوري هو من أكثر الملفات تعقيداً وتشابكاً وضخامة.. وبالرغم من أنّ نتائج هذه الحرب الكارثية تكاد تدخل موسوعة غينس، على كافة المستويات الإنسانية منها والأخلاقية والمعيشية والاجتماعية والدينية والسياسية… ولكن المشرفين والمخططين لهذه الحرب والشركاء والمنفذين، باتوا على قناعة مطلقة بأنهم يخوضون حرباً خاسرة في عمقها وأطرافها وبكافة المقاييس…

فنجدهم يختلقون إحداثيات جديدة للبلبلة والمماطلة… أو يعودون إلى أساليبهم القديمة واطروحاتهم «الذكية» في ما يعتقدون أنها معالجة من المرض العضال الذي استشرى في جسد الأمة العربية كلها وعلى وشك أن يصاب الغرب بالعدوى به، فيصير وباء هذا العصر.. أو يعتقدون أنّها المفتاح الوحيد الذي يمكن أن يفك شيفرة الحلول التي طال انتظارها من قبل الجميع، فيكثفون الجهود والضغوط، ويبعثرون الأوراق على أكثر من طاولة، ولا فرق لديهم أن تفك الشيفرة بالاحتيال والتزوير والتشويه… فالغاية عندهم تبرر الوسيلة، والوسيلة عندما تعجز وتشيخ لا بدّ من عصا تستند عليها تمشي متكئة.. فيصير الطريق طويلاً، والوصول مستحيلاً…

كيري المتعاون تحوّل فجأة إلى طاووس مغرور يغضب ويهدّد، بأنه لم يعد لصبره حدود وقد أعذر من أنذر… والجبير المأزوم عاتب بشدة لعدم تحقيق مطلبه بشأن رحيل الأسد، حتى كادت أفكاره ومطالبه تصير معلقات تاريخية غرّدها سابقاً دون صدى والآن يعزفها مجدّداً على أوتار ممزقة.. مذكراً علّ الذكرى تجدي نفعاً وتصير طريقاً جدياً للحلول…

وبين غضب كيري وعتب الجبير هناك نقاط عديدة مشتركة أهمّها…

أولاً: على الأسد أن يرحل.

ثانياً: لا يمكن التفاوض في شأن الحكومة الانتقالية ولا مشاركة لممثلين عما يسمّى بالمعارضة السورية في الأجهزة الحكومية إلا بعد رحيل الأسد، وهذا ما أكد عليه رياض نعسان آغا المتحدث باسم الهيئة العليا للمفاوضات التي تمثل ما يسمّى مجموعة الرياض في حديث لوكالة انترفاكس الروسية.

ثالثاً: قصف سورية عسكرياً مطلب سعودي قديم، وتتجدّد بوادره ويلوح به دائماً، كما أنه قيد الدراسة كما صرّح جون كيري بناءً على مذكرة قدّمها 50 دبلوماسياً في وزارة الخارحية الأميركية، مضمونها توجيه ضربات عسكرية إلى الدولة السورية وجيشها ومقراتها سواء بغارات جوية أو بصواريخ كروز بعيدة المدى أو طائرات بدون طيار، بالرغم من أنّ البيت الأبيض يرى أنّ الخيار العسكري ليس حلاً وما هو إلا رهان فاشل وسباق خاسر… وهذا ما أكد عليه أوباما سابقاً بل أشاد بحنكته وحكمته بالتروّي في عدم الإصغاء لحلفائه الإقليميين بضرب سورية…

طلب رحيل الأسد تعوّدنا عليه، وليس بجديد سمعناه من قبل أطراف كثيرة منهم من رحل ومنهم من ينتظر الرحيل، بل كأنّ أشخاصاً تمّ تعيينهم في مناصب مهمة وقد حصرت مهامهم فقط بالنطق بهذه العبارة… كالجبير وأمثاله..

في الحروب يصير كلّ أمر جائزاً وممكناً حتى أنّ التصريحات والقرارات الملغومة وقلب الحقائق وتحريفها تعتبر جزءاً لا يستهان به في رسم الخطط الكبيرة كمحرك وغطاء وكشرارة نار تخمد تارة.. ويعاد إشعال فتيلها تارة أخرى، عندما تتطلب الحاجة والضرورة…

حقيقة صبر كيري الذي نفّذ، تشابه كثيراً حقيقة مذكرة موظفي الخارجية الاميركية المجهولي الهوية، والذين لا نعرف أين كانوا كلّ هذه السنوات وإذا كانوا بهذا القدر والأهمية فالأحداث المأساوية لا تعدّ ولا تحصى.. فلما لم نلمس طبيعة مواقفهم اتجاه كلّ ما جرى سابقاً وما يجري الآن… ولا سيما ما شهدته بلادهم في هجوم أورلاندو مؤخراً… فا جدر بهم التنديد بالإرهاب الذي يمكن أن يطالهم في أيّ وقت، بدلاً من المطالبة بضرب بلد لم يبق سلاح إلا وضرب به… ولم تبق معاناة ومأساة إلا والتصقت بالشعب السوري.

سورية ضربت وتضرب في كلّ يوم بالتوازي مع كلّ حركة لعقارب الساعة.. عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً ودينياً وأخلاقياً وإنسانياً… ضربت من بلاد ادّعت الحرية والديمقراطية، وبلاد ادّعت العروبة والإسلام، من المارقين السارقين والمتشدّقين باسم الوطنية العابرة لحدود الوطن… ومن كيان قائم على أنقاض الاغتصاب والاحتلال وانتهاك الحقوق والحرمات…

سورية واجهت ولا تزال تواجه حرباً من أخطر الحروب وأكثرها شراسة وضراوة… هي حرب ولادة لحروب كثيرة انبثقت وتفرّعت من صلبها، حرب استنزاف وحرب شوارع… حرب بأطماع استراتيجية إقليمياً ودولياً… ولأهداف استعمارية واقتصادية وأبعاد طائفية بأنياب جائعة تهرش في قلب الجسد السوري وتقطع أوصاله لتتآكل وحدة أعضائه وتنهار دعائمه الأساسية.

ولكن هذا لن يحصل لأننا وحسب الوقائع والمعطيات الميدانية نقف على تخوم التجهيز والاستعداد لانطلاق بداية نهاية المعركة التي تدار على الأرض السورية، والتي بدأت ملامحها تتضح منذ أن عادت أميركا بأساطيلها التي تمركزت قبالة سواحل البحر الأبيض المتوسط دون توجيه أيّ ضربة عسكرية، رغم أنّ حجة الكيماوي والاتهامات المفتعلة والتي نسبت زوراً وباطلاً إلى الحكومة السورية آنذاك كانت دافعاً قوياً وذريعة للإقدام على هكذا خطوة…

الدخول الروسي إلى الارض السورية ودوره الفعّال.. والذي أغضب أميركا وتركيا والسعودية… وزادت وتيرة الغضب وحدّته الآن أميركياً لعدة أسباب منها…

أولاً: لأنّ روسيا بقيت ثابتة على مواقفها بشأن مصير الأسد، وتستمرّ في دعمه ودعم الجيش السوري ميدانياً بما يتعارض ومصالح أميركا…

ثانياً: لم تأبه روسيا لما يُحاك في الغرف السوداء مجدّداً من مخططات… ولم تضعف أمام جموع الضغوط الهائلة التي تعرّضت لها على كافة الجبهات…

ثالثاً: رفض أيّ اقتراح روسي على واشنطن كان يقابله زخم أقوى وحسم ميداني متسارع، وهذا ما حصل في الرقة.. وما سيحصل في حلب قريباً…

وما غضبُ كيري، وما تلك المذكرة التي تمّ طرحها بشكل مفاجئ وإسلوبها الغريب، في ظلّ غياب ما يستدعي صدورها من حيث الوقت والظروف والمناسبة.. وما ذلك التناغم السعودي الأميركي المخادع إلا عبارة عن رسائل ضغط موجهة إلى روسيا بالدرجة الأولى.. ورداً على الاجتماع الثلاثي لوزراء الدفاع الإيراني والسوري والروسي في طهران بالدرجة الثانية… وعلى خطاب الرئيس الأسد في مجلس الشعب عندما أكد على تحرير حلب واستمرار القتال حتى يتحرّر كلّ شبر من أرض سورية بالدرجة الثالثة.

فما جاء في هذه المذكرة لا يمكن أن يكون جدياً.. لأنها لا تمسّ في مضمونها حكومة الأسد وجيشه فقط.. بل تشمل روسيا وإيران وحزب الله المقاوم كتحالف استراتيجي تمكن من كسر الهيمنة الأميركية ورجحان كفة القوة المتعددة الأقطاب على كفة القوة الأحادية القطب.

على كيري أن يحتفظ بقليل من الصبر ويهدّئ من روعه.. وأن يخفص الجبير من وتيرة حماسه ويعود إلى جحره وينتظران، فالآتي أعظم، ويستحق من الغضب وعدم الصبر والتخبّط أكثر بكثير مما مضى، لأنهم جميعاً كما أردوغان سيقعون في فخ الخيارات المتعددة، وسيكون خيارهم الأفضل والذي سيخدم مصالحهم وسلامهم وأمنهم، وبقاءهم هو بقاء سورية دولة موحدة بقيادة الرئيس بشار الأسد.. وهذه حقيقة يجب على الجميع أن يدركها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى