هل شجبت الجماهير والأحزاب الانقلاب تأييداً لأردوغان أم للشرعية والديمقراطية؟

ميشيل حنا الحاج

منتشياً بالنصر الذي تحقق في تركيا بعد فشل الانقلاب العسكري، انطلق صوت أردوغان المعتقد بأنّ شجب الانقلاب التركي حتى من قبل الأحزاب المعارضة للنهج السياسي للرئيس، قد شكل تأييداً له يصل الى حدّ التفويض المطلق… منتشياً بهذا الاعتقاد، انطلق صوته عالياً مطالباً بإعادة فرض حكم الاعدام الذي ألغي من القوانين التركية منذ عام 2004، والذي ألغي آنئذ استجابة لمتطلبات القوانين المعتمدة في الاتحاد الأوروبي الذي تسعى تركيا للانضمام تحت مظلته.

ولكن بسرعة فائقة، انطلقت الأصوات المعارضة لذاك المطلب. وقد انطلقت عالية من الداخل التركي، ومن الاتحاد الأوروبي، بل ومن الولايات المتحدة التي ذكره سياسيوها بوجوب احترام حدود القانون.

واذا كان رئيس حزب الشعب الجمهوري في كلمته أمام البرلمان، قد هنأ الشعب التركي وأردوغان على إفشال الانقلاب العسكري، لكنه ذكر أيضاً في كلمته بوجوب احترام القانون ومبادئ الديمقراطية، فإنّ رئيس حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، قد ذهب أبعد من ذلك، إذ أكد رفض حزبه لهذا المقترح، كما رفضته وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبية، وكذلك وزير خارجية ألمانيا ووزراء آخرون من دول الاتحاد الأوروبي. وأكدت وزيرة خارجية الاتحاد فيديريكا موغيريني، أنّ إقرار قانون كهذا سيؤدّي الى توقف المباحثات الجارية بين تركيا والاتحاد الأوروبي بخصوص انضمام الجمهورية التركية للاتحاد.

هناك مبدأ هام في مفهوم القوانين وإصدارها، وهو أنها تسري على ما يليها من مخالفات لنصوص القانون الجديد، ولا يفترض به أن يسري على المخالفات للقانون السابقة على تشريعه. أو هذا على الأقلّ ما درسته في كلية الحقوق عندما كنت طالباً فيها حتى عام 1974، عندما تخرّجت وانقطعت صلتي بدراسة النصوص القانونية، نتيجة تفرّغي للعمل في حقل الإعلام المرئي. ومع ذلك فإنّ المبادئ الأساسية للقوانين، وبطبيعة الحال وجوب مراعاتها لمبادئ حقوق الانسان التي لا تستطيع القوانين المشرعة إغفالها، يعني أنّ صدور قانون كهذا حتى ولو تضمّن نصاً على كونه يسري بأثر رجعي، أيّ على الجرائم المرتكبة قبل صدوره كقضية المشاركة في الشروع بانقلاب عسكري لتغيير نظام الحكم ، حتى ولو تمّ إقراره بأكثرية خاصة متميّزة… سيظلّ قانوناً مرفوضاً من المجتمع الدولي، ومن نسبة عالية من الأتراك على صعيد الداخل التركي.

ويحاول رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، التخفيف من حدة المطلب الأردوغاني، بالتذكير أنّ هذا القانون بحاجة لمناقشة طويلة في البرلمان. ولكن أردوغان، الذي يبدو بأنه قد أعدّ مسبقاً، وقبل وقوع الانقلاب الفاشل، قائمة بأسماء من ينبغي اعتقالهم، ومن يكتفى بتسريحهم من الخدمة، من عسكريين وقضاة وحكام ولايات وموظفين حكوميين، يبدو مندفعاً بحماس الى التوجه نحو تشريع وإقرار قانون يعيد فرض عقوبة الإعدام، رغبة منه بعدم الاكتفاء باعتقال البعض، بل التوجه أيضاً نحو تعليق بعضهم على المشانق.

ورجح العديد من الكتاب والمحللين، أنّ قوائم إعفاء آلاف من القضاة، كانت معدّة مسبقاً. كما كان العمل جار منذ فترة من الزمان، عبر مكتب أميركي للمحاماة، على إعداد المستندات اللازمة لمطالبة الولايات المتحدة بتسليم تركيا الداعية فتح الله غولن. فالأمر لم يكن إفرازاً للانقلاب الفاشل، بل نتيجة مساع أردوغانية سابقة على الانقلاب، وجاء الانقلاب كـ»هدية» ليعزز المطلب الأردوغاني القديم الجديد.

والواقع… فإنّ إعفاء أكثر من 2750 قاض واعتقال بعضهم، ومنهم أحد قضاة المحكمة العليا من أصل خمسة قضاة في المحكمة العليا تمّ عزلهم، أثار دهشة العالم لعدم وجود صلات مباشرة بين القضاة والانقلاب الفاشل. وفي الوقت الذي كان فيه أردوغان ووزراؤه يعلنون أنّ من نفذ الانقلاب مجرد حفنة صغيرة من العسكريين، فوجئ المجتمع الدولي بأنّ أكثر من ثلاثة آلاف من الجنود والضباط، وبينهم 34 ضابطاً برتب عالية وصل بعضها الى ضباط برتبة لواء وكان من بينهم نائب رئيس هيئة الأركان، تمّ تسريحهم أو اعتقالهم على عجل، مما يرجح أيضاً بأنّ الاعتقالات بين العسكريين قد تمّت بناء على قائمة معدّة سلفاً، ساعية لتطهير الجيش من كلّ من يشتبه به، بكونه غير مؤازر أو مطمئن للنهج الأردوغاني، ولم تكن بالضرورة اذن، نتيجة مشاركة هؤلاء في الانقلاب الفاشل أو المزعوم. والغريب في الأمر، أنّ الفئة الصغيرة التي قالت تصريحات المسؤولين بأنها قد شاركت في الانقلاب، توسّعت فجأة لتنسب تهمة المشاركة لقائد الجيش الثاني، وقائد الجيش الثالث، وآميرال السلاح البحري، اضافة الى قائد حرس الحدود، وقائد سلاح الجو. فهذا التوسع المفاجئ بحجم المشاركين في الانقلاب، يبدو وكأنه مجرد عذر يبرّر إبعاد واعتقال أولئك، نتيجة توجه سابق لإبعادهم عن مواقعهم، وقبل حصول الانقلاب المذكور، وكانت كما يبدو قد أعدّت قوائم بأسمائهم سواء وقع انقلاب أم لم يقع.

وامتدّت قوائم الإعفاء والاعتقال أحياناً، لتشمل 34 حاكم ولاية من ولايات تركيا الـ84، ولم يفهم أحد ماهية دور حكام الولايات وهم مدنيون ، بالانقلاب العسكري. فهذه القرارات الغريبة العجيبة بالإعفاء أو الاعتقال لهذه الشريحة الكبرى من الأتراك، عسكريين ومدنيين، ترجح أيضاً التوجه الأردوغاني لتنفيذ مخطط مسبق كان عاجزاً عن تنفيذه خوفاً من ردّ الفعل عليه لو نفذه في ظروف عادية. أما الآن وقد حصل انقلاب عسكري فاشل، وكان هناك تأييد شعبي رافض له ومؤيد للشرعية الدستورية التي يمثلها اليوم أردوغان، سواء كان التأييد من الجماهير أو من أحزاب المعارضة، فإنّ أردوغان كما يبدو، قد وجد في هذه الفرصة النادرة، فرصة تاريخية تساعده على تنفيذ كلّ مخططاته السابقة والتي كان عاجزاً عن تنفيذها. فمستنداً الى التأييد الشعبي والحزبي الذي لاقاه وانتشى به، شرع بعمليات اعتقال وفصل أولئك الذين وردت أسماؤهم في قوائم معدّة سلفاً ولكن كان تنفيذها موقوف بانتظار ميسرة وفرها له الانقلاب العسكري.

ويبدو أنّ الأمر قد اختلط كثيراً على أردوغان، فهو قد اعتقد يقيناً أنّ التأييد الشعبي الذي شهده الشارع والذي ورد من قيادات الأحزاب السياسية، قد جاء تأييداً له شخصياً، ولم يدرك أنّ الشعب والأحزاب لم تنبر للدفاع عن شخص أردوغان، بل عن الشرعية التي يمثلها، وعن الديمقرطية التي خشي الكثيرون أن تنقضي في ظلّ حكم عسكري جديد، خصوصاً أنّ الشعب كان قد مرّ بخمس تجارب سابقة من الانقلابات العسكرية وما أفرزته من حدّ للحريات السياسية.

فالشارع قد خرج اذن دعماً للشرعية وللديمقراطية، وليس لشخص أردوغان. ومثله الأحزاب السياسية التي هرولت تعلن شجبها للانقلاب، وتأييدها للشرعية والديمقراطية، وليس لشخص معيّن هو أردوغان الذي يتطلع الآن، وفي غمار موجة الحماس تلك، الى إجراء تعيلات دستورية طالما حلم بها، وهي التعديلات المتعلقة باعتماد النظام الرئاسي عوضاً عن النظام البرلماني الحالي، وكذلك اعتماد الاسلام السياسي ديناً للدولة، والابتعاد عن العلمانية الأتاتوركية التي طالما حماها الجيش بانقلاباته الخمسة المتكرّرة. أما الآن وقد سقط انقلابه السادس ولم ينجح، فقد بات من الممكن العودة الى المطالبة بالابتعاد عن العلمانية وتثبيت الاسلام كدين للدولة، والشريعة الإسلامية لا العلمانية، كمصدر للتشريع فيها.

ورغم أنّ أردوغان يدرك بأنّ المواطنين والأحزاب قد خرجوا لتأييد الشرعية والديمقراطية وليس شخصه، فإنه يتصرف وكأنه غير عابئ بذلك. فالجيش الذي يمثل القوة الحقيقية الفاصلة، قد وجهت له الآن ضربة حاسمة نتيجة لفشل الانقلاب. ولتأكيد انتهاء أيّ دور للقوات المسلحة مستقبلا،ً فقد شرع في تنفيذ ضربة أخرى له هي بمثابة الضربة القاضية، وتمثلت بتنفيذ قائمة الاعتقالات والإعفاءات التي أعدّها سلفاً، والتي ستساعد على توجيه ضربة أخرى لبناء القوات المسلحة، تبقيها مقعدة لفترة طويلة من الزمان.

ومن هنا يضطر المراقب الى العودة للتساؤل: هل كان الانقلاب انقلاباً فاشلاً، أم تحوّل الى انقلاب فاشل لكونه قد بات انقلاباً مخترقاً بطريقة أو بأخرى؟

مثلا لنقدّر، كمجرد احتمال، أنّ أردوغان قد بات مدركاً لوجود غليان في القوات المسلحة نتيجة استراتيجيته المعقدة التي أدّت الى استعداء العالم كله تقريباً، مما أدّى الى وقوف الكثيرين بالتالي معادين لتركيا. فالعلاقات مع الولايا المتحدة كانت فاترة. ومثلها العلاقات مع الجار، أيّ الاتحاد الأزروبي. أما العلاقة مع روسيا فقد بلغت حدّ العداء المكشوف واقتربت من الاشتباك المباشر، ولو على الأراضي السورية فحسب. أما جيران تركيا العرب، أيّ سورية والعراق ومثلهما مصر، فالعلاقة معها جميعها، كانت في أدنى درجاتها. وكما توقع أردوغان، فقد اكتشفت عيونه داخل القوات المسلحة التركية التي كانت في حالة غليان، أنّ البعض فيها يعدّ لشيء ما. لكنه لم يحاول عندئذ التوجه لإحباط ما يعدّونه، باعتقالهم ومحاكمتهم مجنّبا البلاد إراقة الدم التركي من الطرفين، بل تركهم يمضون في مخططهم، بل والأرجح أنه قد شجع بعض الضباط الموالين له، على الانخراط في صفوفهم وأداء دور المشاركين في الانقلاب، في الوقت الذي كان فيه دورهم الحقيقي، هو المساهمة في إحباط عملية الانقلاب.

وهذا ما يفسّر السذاجة في تنفيذ العملية الانقلابية، حيث ركز المهاجمون على مهاجمة أهداف غير ذات جدوى عسكرية أو استراتيجية كالبرلمان مثلاً، والسيطرة على الجسرين المعلقين اللذين يربطان تركيا الآسيوية بتركيا الأوروبية، دون أن يركز الانقلاب على ملاحقة الرئيس أردوغان الذي كان يمضي إجازة عائلية في مدينة صغيرة على أحد الشواطئ التركية. فرجال أردوغان ضمن المجموعة المتآمرة، قد حذروا الرئيس بأنّ الطائرة قد توجهت لقصف الفندق الذي يقيم فيه، فغادره بطبيعة الحال، قبل قدوم الطائرات. ورجال أردوغان ضمن التنظيم الانقلابي، شجعوا الانقلابيين على عدم جدوى مواصلة ملاحقته في المدينة الساحلية المتواجد فيها، والتركيز على قصف البرلمان كبديل لذلك. وهؤلاء هم من تخلوا عن الاحتفاظ بقناة «تي آر تي» TRT الرسمية تحت سيطرة الانقلابيين رغم أهميته، فانقطع تواصل الانقلابيين مع الجماهير عبر تلك القناة. وهؤلاء من سهّلوا نجاح اردوغان بالعودة الى اسطنبول رغم كون المطار مطار أتاتورك ومطار صبيح القريب منه، كانا تحت سيطرة الانقلابيين.

وفي حوار ضمن برنامج عنوانه «الحدث» على قناة سامراء شاركت فيه الأسبوع الماضي مع الدكتور منذر حوراني، فإنّ الدكتور حوراني قد وصف الانقلابيين أكثر من مرة بأنهم كانوا فاشلين بل وسذج في نهج إدارتهم للانقلاب. وأنا أؤيد هذا الاحتمال، ولكني أقف مندهشاً أمام سذاجتهم التي لم نعتد مثلها في إدارة الانقلابات العسكرية التركية الخمسة الماضية. فما الذي حوّل الجيش التركي الذي احترف الانقلابات العسكرية الناجحة دائماً على مدى أربعين عاماً، الى جيش فاشل في إدارة الانقلابات؟

هناك احتمال واحد يدور في ذهني وفي ذهن آخرين، وهو كون مشروع الانقلاب كان معروفاً لأردوغان، وكان مخترقاً منه كما سيبق وذكرت. وقد تركه يمضي في طريقه ليجد المبرّرات الضرورية لتنفيذ قوائم اعنقالاته المعدّة سلفاً، والتي ما كان بوسعه تنفيذ أيّ منها في الظروف العادية. فالانقلاب الفاشل لم يؤدّ فحسب لتنفيذ مضمون تلك القوائم، بل الى المطالبة أيضاً باستعادة غريمه غولن، وطرح احتمال اعادة حكم الإعدام، اضافة الى احتمالات نجاحه في إقرار تعديل على الدستور يحوّل تركيا نحو النظام الرئاسي، وهو ما يتوق اليه أردوغان، مع إلغاء للعلمانية والعودة للنمط العثماني السابق أيّ اللدولة الدينية، ولعلّ قيامه بتحية الجماهير قبل يومين بـ«إشارة رابعة» التي استخدمها الإخوان المسلمون في القاهرة، وهي التحية التي شاهدها الكثيرون، تشكل الوعد الصريح والواضح للجماهير، بأنّ زمن العلمانية قد انقضى، وانّ عهد السلطنة العثمانية الأردوغانية، قد بات في الطريق اليكم، فهو العرض القادم في مسلسل تضمن فيلماً اسمه «ليلة الانقلاب على أردوغان».

مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب – برلين.

عضو في مركز الحوار العربي الأميركي – واشنطن.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى