الكاردينال الفاتيكاني عند الأسد بركة كاثوليكية تمهّد لمنعطف تاريخي

هتاف دهام

تعاطت الدولة السورية مع زيارة السفير البابوي في دمشق ماريو زيناري للرئيس السوري بشار الأسد، لأول مرة برتبة كاردينال، بكثير من الاهتمام لما لها من دلالات قويّة في هذا التوقيت بالذات.

نقل السفير البابوي إلى الأسد رسالة من الحبر الأعظم البابا فرنسيس عبّر فيها عن تعاطفه العميق مع سورية في ظلّ الظروف الصعبة التي تمرّ بها، مؤكداً إدانة الفاتيكان الصريحة للإرهاب بأشكاله كلها.

في الأشهر الماضية، أوفدت الفاتيكان وزيراً مستشاراً للشؤون الأمنية الى دمشق. وفي تموز الماضي، عبر طائرة حكومية إيطالية، من مطار بيروت وإليه، زار وفد أمني سوري رفيع المستوى روما برئاسة مدير إدارة المخابرات العامة اللواء ديب زيتون. التقى الوفد كبار المسؤولين الأمنيين الإيطاليين. لكن المؤكد أنّ هذه الزيارة الكاردينالية إلى قصر الشعب أمس، تؤكد أنّ الفاتيكان بموقفها تمثل الوعي المسيحي المدرك أهمية دور سورية من خلال صمودها وبقائها كدولة، للحفاظ على ما تبقى من مسيحيّي الشرق، من حيث انها مهد المسيحية المسكونية.

يؤكد الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط الأب ميشال جلخ لـ «البناء» أنّ الزيارة تحمل رسالة استراتيجية إلى قادة العالم قبيل التسليم والتسلّم في الولايات المتحدة بين الرئيسين باراك اوباما ودونالد ترامب، وفي فرنسا بين الرئيس فرنسوا هولاند والرئيس الأسبق للحكومة فرنسوا فيون، أكثر مما هي رسالة للرئيس السوري.

يُعتبر زيناري أول سفير بابوي بتاريخ الفاتيكان يُرفّع إلى رتبة كاردينال ويبقى في موقع عمله. لم يسبق أن حدث هذا. في العادة عندما يُرقّى السفير البابوي يُنقل إلى عاصمة الكثلكة. يعني ذلك أنّ البابا فرنسيس يضع الوضع في سورية بمكانة خاصة، فهو أكد في رسالته دعمه الكامل للشعب السوري بأطيافه كلها، ولأهمية محاربة التطرف.

لا تتحرك الفاتيكان، وفق جلخ، إلا من خلال الديبلوماسية. أُعلنت عن الرسالة الخاصة، لكنها لم تُنشَر بحذافيرها حتى في الصحف الإيطالية ، وكأن رأس الكنيسة الكاثوليكية يريد أن يبعث من خلالها بشيفرات الى الدول الغربية بضرورة الحديث مع الرئيس الأسد الذي يحظى بالشرعية.

لا شك، كما يقول الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط، في أنّ التحرك العلني سبقه حراك ديبلوماسي غير معلَن واستمرّ بعيداً عن الأضواء لفترة وجيزة . يؤكد ذلك أننا على منعطف تاريخي في ما يخصّ الحرب في سورية، تهتمّ الفاتيكان بأن تلعب دور وسيط السلام تماماً كما فعلت مؤخراً في كوبا.

حملت الرسالة الكثير من الثناء على دور الدولة والرئيس والجيش. فلو سقطت الحكومة السورية لما استطاعت كلّ جيوش الغرب والحلف الأطلسي منع تنظيم داعش وجبهة النصرة وأخواتهما من أن تبلغ الشاطئ اللبناني الممتدّ من العريضة حتى الناقورة. يدرك الضالعون بالعلم هذه الحقيقة، على ضوء التجارب التي حدثت مع هذه المنظمات ومسلّحيها.

إنّ الموقف الفاتيكاني سيشكّل البوابة والمعبر الطبيعي والأخلاقي لعودة الغرب الأوروبي عن أبراجه العالية التي صعد عليها تجاه الأزمة السورية على مدى السنوات الخمس الماضية.

عندما تأخذ الفاتيكان موقفاً بهذه الجرأة والوضوح، فهذا ضرب لكلّ الخطاب الإعلامي والسياسي المستخدم في الأجندة الأميركية وبعض الأجندات الأوروبية، وجعله في موقع المفضوح أنه خطاب تآمري.

شكلت زيارة الكاردينال السفير لـ«حاضرة الأسد» مع تحرير آخر أحياء حلب من الإرهابيين بركةً من رأس الكنيسة الكاثوليكية وبطريرك الكرسي الرسولي، للجيش السوري ولليد التي تضرب المجموعات التكفيرية بكلّ متفرّعاتها.

يترابط الموقف الفاتيكاني لكنيسة الكثلكة في العالم، مع موقف الكنيسة الأرثوذكسية في موسكو واليونان. ويترابط أيضاَ مع موقف الكنيسة الانجيلية الثانية من حيث الحجم في الولايات المتحدة، ومع موقف مرجعية قُم ومرجعية النجف الشيعيتين.

أبدت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية مخاوف من أن تقضي موجة الإسلام الأصولي بعد العام 2011 على الأقليات المسيحية في المشرق. واعتبر بطريرك موسكو وسائر روسيا، كيريل، أنّ طرد المسيحيين من الشرق كارثة حضارية، فنصف مليون من مسيحيي سوريـة اختفوا، من دون أن يُعرف مصيرهم. هذا كله دفع كيريل والبابا فرنسيس بعد قطيعة طويلة الى الاجتماع في شباط الماضي للبحث في ملف وحيد ورئيسي هو حماية المسيحيين. كذلك زار وفد من الكنيسة الانجيلية الأميركية سورية العام 2014 والتقى الرئيس السوري وعاد بانطباع مختلف عن سياسة الإدارة الأميركية.

تدرك روما جيداً أنّ بلدة ربلة السورية ويبرود والقصيْر بكنائسها وحلب الآن بكنائسها كافة وأحيائها الآرامية – السريانية، وصيدنايا ومعلولا وصدد وكسب وغيرها… ما كانت لتبقى لولا حلف حزب الله الأسد. كلّ ذلك ينسحب على موقف المقاومة من لبنان المتميّز بالموقع المسيحي الأوحد رئاسة الجمهورية ، ويعمر بالكنائس والقيم المسيحية وتتفاعل فيه الحضارات الإسلامية والمسيحية معاً. هذا ينسحب أيضاً على رأي البطريرك الماروني بشارة الراعي في موقفٍ رفض أن يقوله جهاراً، لكنه همس به عندما نقل عنه مرة أنه لولا حزب الله لكانت داعش في جونية.

الإقرار بهذا الأمر، يجافي المنطق السياسي المسيحي العلني كحال رئيس حزب القوات سمير جعجع ورئيس حزب الكتائب سامي الجميّل، لكن يبقى أنّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون كان ولا يزال من أكثر المتنبّهين لهذه النظرية منذ بداية الأزمة السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى