صراع خليجي على الأدوار في البلاط الأميركي

د. وفيق إبراهيم

يتفاقم الصراع بين السعودية وقطر إلى حدود الانتقال إلى إعلان حرب، وسط لا مبالاة أميركية تكتفي بإرسال مواعظ حول إيجابية الحوار بين المتخاصمين!

هناك أيضاً ثلاثة أطراف معنيّة بالموضوع، لكنّها لا تفعل له شيئاً: مجلس التعاون الخليجي الذي تأسس في 1981 للتنسيق السياسي والاقتصادي بين دوله، ويرى بأمّ العين قطع علاقات دبلوماسية بين أربعة من أعضائه الستة وحالة حصار، ولم يصدر حتى مجرّد بيان، ولم ينبس ببنت شفة. فالسعودية تمسك بقراره، لذلك فهو مجلس وهمي لم ينتج في 36 عاماً من التأسيس قراراً بأي تعاون استراتيجي بين دوله، مكتفياً بأداء دور تحشيدي يتبخّر بعد اتخاذه مباشرة.

الطرف الثاني هو جامعة الدول العربية المتأسسة منذ سبعة عقود، وظلّت تؤدّي دوراً يعكس الإجماع العربي «التقليدي» على مواقف غير عملية، لكنّها لم تكن مؤذية حتى انتهى دورها العربي مع ذهاب الرئيس المصري أنور السادات إلى «إسرائيل» في 1979. وابتدأ دورها كجامعة دول عربية برعاية الكاوبوي الأميركي وبأمين عام فعلي لها، يخضع للنفوذَين السعودي والقطري وبتشجيع مصري.

أمّا الطرف الثالث، فهي منظمات العالم الإسلامي التي كان يمكن لها أن تتحرّك، لكنّها أُصيبت بفائض أمركة أخضعت كلّ المؤسسات الدولية والإقليمية لها منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989، لذلك فوسائل الوساطة مغيّبة بقرار أميركي. وواشنطن لا تتحرّك على رغم أنّ الصراع يندلع في ملعب الجيوبوليتيك الخاص بها.

لهذه الأسباب، لا يمكن تبرئة السياسة الأميركية من الوقوف خلف الصِّدام القطري السعودي الذي ابتدأ بمناوشات إعلامية ثقيلة، سرعان ما تطوّرت إلى قطيعة دبلوماسية بين الدوحة من جهة، وكلّ من الرياض والمنامة والإمارات ومصر وجزر المالديف. أمّا الأطرف، فإعلان هادي عبد ربه اليمني قطع علاقات اليمن مع قطر، وهو الذي لم يتمكّن من العثور على مقرّ في بلاده، وحفتر في ليبيا الذي لا تعترف به الأمم المتحدة.

لقد أدرك الصراع حدود محاولة خنق قطر بفرض حصار جوّي وبرّي وبحري، قد يؤدّي إلى تطوّرات اقتصادية وسياسية خطيرة. أمّا أسباب الصراع فليست جديدة، قد تتّخذ عناوين برّاقة مثل التورّط في دعم الإرهاب والتعامل مع إيران ودعم الإخوان المسلمين، لكنّها اتهامات لا تنجو منها دول الخليج بكاملها. فأميركا اتّهمت السعودية وتركيا بدعم الإرهاب أيضاً، وأوروبا فعلت الأمر نفسه. أمّا مع إيران، فيكفي القول إنّ علاقاتها الاقتصادية مع الإمارات تصل إلى حدود 14 مليار دولار، وكذلك مع عُمان والكويت!

فلماذا لم تهاجم السعودية هذه الدول كما فعلت مع قطر؟

هناك إذن أسباب أخرى تتعلّق بالدور السياسي، علماً أنّ السعودية تعاملت بشراسة مع دول الخليج كلّها وبشكل متتابع. ابتدأت بالكويت، وكان الملك فيصل يتهكّم عليها قائلاً إنّ هناك ثلاث مرجعيات دولية هي أميركا والاتحاد السوفياتي والكويت، وظلّت تهاجمها حتى توقّفت الكويت عن محاولات بناء دور سياسي مستقلّ لها مع العالم. وطبّقت الأمر نفسه مع الإمارات حتى طوّعتها من خلال واشنطن التي بنت فيها ترسانة عسكرية، وحاولت أن تمارس وصايتها على عُمان فلم تنجح، لأنّ هذه الأخيرة دولة تاريخية قديمة تجيد اللعب على التوازنات ونسج التحالفات مع أطراف متناقضة. وسيطرت الرياض على اليمن لنصف القرن الأخير، ومنعته من أي تطوّر سياسي أو اقتصادي، في محاولة منها لترسيخه عند عتبة القرون الوسطى. هذا ما جعل قطر تفهم أنّ عليها إمّا أن تنصاع لوليّ الأمر السعودي الذي لن يتورّع عن ضمّها إلى حماه عند تشكّل الظروف السياسية المؤاتية، وإمّا أن تنسج علاقات إقليمية ودولية تؤمّن لها الحماية، خصوصاً أنّ الرياض تعتبر قطر جزءاً من ولاية الإحساء السعودية.

ولا بدّ من سرد صدامات عسكرية وسياسية نشبت بين البلدين، وأوّلها في 1992، عندما ضمّت السعودية كلّ الأراضي «البرية» التي تربط قطر بالإمارات وزعمت أنّها جزء من دولتها، وانتهت بقتلى عديدين من الطرفين مع انتزاع السعودية للأرض. وتبادل البلدان أيضاً قطع العلاقات بينهما في 2015، لكنّها خلصت إلى ما يشبه الإقالة الأميركية للأمير القطري السابق وتغيير إدارته.

إنّ أحداً لا يصدّق أن قطر المتواضعة حجماً، وبالتالي طموحاً، أدارت مشروع الإخوان المسلمين من دون طلب أميركي، ودعمت الإرهاب السوري والعراقي والليبي والصومالي والتونسي واليمني حتى بلغت ميانمار، من دون طلب من المخابرات الأميركية. وهذا مرتبط بإدارات أميركية ابتدأ تحرّكها في العالم الإسلامي بمحاولات إنشاء كونفدرالية بزعامة الإخوان لوضعها في وجه إيران الشيعية. وهذا ما أدّى إلى تنسيق عميق بين الدوحة وتركيا، لأنّ القطريين استنتجوا أنّ التعاون مع أنقرة مفيد ولا يؤدّي إلى مرحلة ضمّ قطر إليها بسبب البعد الجغرافي، واعتقدت أنّها أصبحت محمية من القاعدة الأميركية في «العِديد» والدور التركي الكبير، فأُصيبت بتضخّم سياسي أتاح لها اللعب الإرهابي في مناطق العالم الإسلامي كلّه، إنّما برعاية أميركية.

وإذا كانت الرعاية الأميركية موجودة، فلماذا هذا الانقلاب عليها بغضّ طرف أميركي؟

واظبت الدوحة على تأييد «الإخوان» ودعم «فتح الشام» في مصر وليبيا وسورية، بعد سقوط الإخوان في مصر، لاعتقادها أنّ أميركا «أوباما» لم تحسم بعد أمرها. لذلك حاولت بالتنسيق مع الحليف التركي مواصلة دعم الإرهاب المتناقض مع قوى إرهابية أخرى تدعمها السعودية والإمارات، وسط صمت أميركي لم يذهب إلى حدود تغليب فئة على أخرى.

وجاءت النتائج كارثيّة على الرياض، فكاد دورها السوري أن يلغى تماماً مقابل حصرية الدور التركي، وكذلك الحال في العراق وليبيا، ولولا الدعم المصري للّواء حفتر، لكانت ليبيا اليوم تحت حكم الإخوان المسلمين ومعها تونس. هذا ما أدّى إلى تراكم حقد سعودي إماراتي على قطر التي كانت منتشية باتّساع دورها وتعتقد أنّ هناك استحالة التعرّض لها، وهي المحمية من قِبل واشنطن وأنقرة.

لكنّ مجيء ترامب إلى البيت الأبيض أحدث تبديلاً في السياسة، فبدلاً من التوازن بين الحلفاء وضع الأميركيون معادلة جديدة: «ادفع تنجُ»، وهذا ما استوعبه وليّ وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، فذهب وعاد بترامب إلى الرياض، حيث قبض 500 مليار دولار مع وعود بمبالغ مشابهة من الكويت والإمارات. لذلك يبدو أنّ آل سعود اشتروا من الأميركيين زعامة الخليج حتى باب المندب، مع الموافقة على تأديب آل ثاني في قطر وصولاً إلى حدود تغيير الأمير الحالي بأمير آخر من سلالته، إلا إذا تمكّن من دفع مبلغ كبير للرئيس ترامب يجعله من الناجين ويشتري به حكمه.

المعركة إذن هي داخل البيت الأبيض الأميركي، ما يعني استحالة تورّط أطراف معادية لأميركا فيها مثل روسيا وإيران والصين، إلا في حدود المبادلات التجارية، وهي أيضاً صراع من أجل احتكار آل سعود لزعامة الخليج تحت الراية الأميركية طبعاً، توهّماً منهم أنّ هذا الأمر يجدّد زعامتهم على العالم الإسلامي برعاية الكاوبوي الأميركي.

فهل تصل الأمور إلى هذا الحد؟

لن تسمح واشنطن لايّة دولة بأن تصبح زعيمة متفرّدة في العالم الإسلامي، فالولايات المتحدة تتعمّد إثارة تناقضات بين الدول العربية والإسلامية على قاعدة حصرية مرجعيّتها بحلّ الخلافات مع الإبقاء على أدوار متنوّعة لمنع التضخم في الأحجام.

هذا ما فعلته مع تركيا، ولن تسمح للرياض بالانتفاخ إلا في حدود الحاجة الأميركية ومتطلّباتها في قيادة العالم الإسلامي في وجه منافسيها الروس والصينيين والإيرانيين.

إنّ مجمل المذكور يؤكّد أنّ واشنطن لن تسمح بذهاب الأمور إلى صدامات عسكرية، ويبدو أنّها همست للكويتيين للتقدّم بمشروع وساطة يُبقي الجميع تحت معطى الكاوبوي الأميركي الباحث أبداً عن كنوز الذهب في رمال جزيرة العرب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى