بدء المرحلة الثالثة من هزيمة التكفيريّين… والمستثمرين بهم

د. وفيق إبراهيم

ليس هناك ما يدعو إلى الانزلاق في لعبة الدعاية السياسية الرخيصة، لأّنّ المؤشرات المتتابعة تؤكّد هزيمة مشروع لا يزال يعبث باستقرار المشرق العربي منذ عقد تقريباً، مجتاحاً مغربه ومتلاعباً بعالمه الإسلامي.

لذلك، فإنّ توغّل الجيش السوري مدعوماً من حلفائه الروس والإيرانيين وحزب الله ومنظمات إقليمية أخرى، في قلب البوادي والمدن مستعيداً أكثر من 30 ألف كيلو متر مربع دفعة واحدة، ليس من باب الدعاية التحشيدية التي تختفي عادة بعد ساعات من إطلاقها، ونجاح الجيش العراقي مدعوماً من الحشد الشعبي والعشائري في تحرير معظم العراق، ومحاصرته داعش في بؤر محدودة، ينتسب بدوره إلى فئة المعارك التاريخية المحدِّدة لأقدار الشعوب ومصائر الدول.

فهل انطلقت فعلاً الحلقة الثالثة والأخيرة من الحرب على التكفيريين وداعميهم؟

تختلف هذه المرحلة عن سابقتيها، لأنها تحتاج إلى مزيد من «السياسة» وقدرات عسكرية متوسطة، أيّ بعكس المرحلتين الأولى والثانية اللتين تطلّبتا حشداً عسكرياً قوياً ومستبسلاً لتأمين المناطق ودفع التكفيريين إلى الوراء، إلى جانب القليل من السياسة، لأنّ القوى الإقليمية والدولية الداعمة للإرهاب والمستثمرة به كانت تعتقد أنّ الدولتين الوطنيّتين في سورية والعراق لن تصمدا طويلاً. ألم تروّج وسائل الإعلام الغربية والخليجية معلومات تلقّتها من المراكز السياسية في واشنطن وباريس ولندن، أنّ أسابيع عدة كافية لإسقاط الشام والعراق…

لذلك اتّسمت «السياسة» في هاتين المرحلتين بلازمتين تكرّرتا لأعوام عدّة رحيل الرئيس بشار الأسد، وسقوط النظام السياسي، ومن دون القبول بأيّة مفاوضة أو وساطة بهذا الشأن. فالقرار الأميركي كان متّخذاً، والأدوات العسكرية لتنفيذه هي المنظمات التكفيرية وداعموها المباشرون تركيا والسعودية وقطر والإمارات، بحدود مشرّعة على مدى آلاف الكيلو مترات.

بماذا تختلف المرحلة الثالثة المرتقبة عن سابقتيها؟ تختلف بكلّ شيء تقريباً. لأّنّ سبع سنوات من قتال ضروس اتّخذ طابعاً عالمياً أقنع الغرب الأميركي والأوروبي و«إسرائيل» وأصدقائها العرب، استحالة إسقاط سورية والعراق… فخسرت الحرب الكونية على الدولتين مصداقيّتها وقدراتها على الحسم، ما استتبع ضرورة العودة إلى أسلوب التفاوض بديلاً يحفظ ماء وجه المهزومين، وقد يؤمّن لهم الحد الأدنى من المكاسب السياسية.

كما يعتقدون ذلك بسياسة الاستناد إلى أنّ الولايات المتحدة الأميركية المتورّطة في الأزمة السورية مع قوى التكفير، هي الدولة الأقوى في العالم عسكرياً واقتصادياً، ولديها الجيوبولوتيك الأوسع انتشاراً على سطح الأرض والبحار، نحو ألف قاعدة وموقع ومطار ومركز تابعة كلها لواشنطن في العالم، تحصي عبرها كلّ شيء حتى أنفاس البشر.

لذلك فإنّ هزيمة هذه الدولة الأميركية تختلف عن الانكسارات التي تلحق بدول أخرى قابلة للانهيار. أمّا واشنطن، فإنّ هزائمها تبقى ذات «طابع موضعي»، لا يصيب بالعدوى مواقع أخرى لها… وبوسعها معالجة الخسارة بشيء من التنازل مع تطويل المفاوضات بهدف اختلاف عناصر مباغتة تعاود تحسين موقعها المتضعضع، بشكل تغطّي فيه على تراجعها. وتستفيد من هذه الألاعيب الأميركية أيضاً مجموعة من الدول المتورّطة في الإقليم والخليج.

هذه المعطيات تدفع على الاعتقاد بأنّ واشنطن بصدد رفع مستوى التفاوض مع روسيا حول الأزمة السوريّة إلى درجة عميقة، تتجاوز فيها مستوى المفاوضات الدائرة في جنيف وأستانة. وهذا يتطلّب من واشنطن كشف أوراقها المخبوءة، مع محاولة إغراء الروس بالاعتراف بدورهم في «الدولة السوريّة» حتى دير الزور وحدود الأردن والجولان السوري المحتل، وصولاً إلى شمال البلاد.

في المقابل، تريد السياسة الأميركية إلغاء «النفوذ الإيراني» كما تزعم، وذلك بمنع الحشد الشعبي العراقي من الربط بين منطقتي القائم والبوكمال الحدوديّتين بين دمشق وبغداد، ومنع قوات النظام السوري من الوصول إلى معبر التنف، حيث توجد قاعدة أميركية بريطانية عند تقاطع الحدود بين الأردن والعراق وسورية.

ولن تنسى السياسة الأميركية الكانتون الكردي في شرق سورية وكردستان العراق، فهذه المناطق هامّة في حركتها وتعوّل عليها كأدوات تضغط على الدولة السورية من جهة، والعراق وإيران من جهة ثانية، من دون نسيان أثر هذين الكانتونين على الاستقرار في تركيا… خصوصاً إذا استمرّ الرئيس التركي أردوغان في لعبة التمايز عن السياسة الأميركية والأوروبية.

أمّا ما تبقّى من سورية والعراق، فتريد أميركا توزيع ثرواتهما من النفط والغاز بين شركات أميركية وروسيّة، مع موافقة الدولتين على نحو 15 قاعدة أميركية موجودة حالياً وتنتشر من حدود الموصل إلى حدود مدينة الطبقة وإقليم الأكراد السوري. بذلك تُمسك السياسة الأميركية بالأدوات التي تفصل بين سورية والعراق امتداداً إلى إيران وروسيا، وتمتلك أيضاً أدوات تأديب تركيا وإيران، كما تسيطر على التفاعلات الاقتصادية في المنطقة… ألا تبدو هذه المطالب وكأنّ المنتصر في هذه السنين السبع هي الولايات المتحدة؟

هذا ما تريده أميركا، لكنّ الطرف الروسي يرتبط بتحالف مع الدولة السوريّة الرافضة لمثل هذا الإفراط الأميركي في الأحلام، وتفضّل استمرار الحرب في مرحلتها الثالثة على قاعدة أنّ موسكو تعرف أساليب واشنطن، لكنّها تعرف أيضاً أنّ النتائج العسكرية هي المؤدّية إلى الأوضاع السياسية، ولن تقبل بأحلام أميركية غير قابلة للتحقق. أمّا إيران التي تنسّق بدورها مع الجانبين الروسي والسوري، فلن توافق على الطموح الأميركي، وتستعدّ لتعميق تحالفها مع أنقرة تحت ضغط الصعود الكردي الذي يستهدفهما معاً بتخطيط أميركي.

أمّا بالنسبة للخليج، فتمرّ دوله في مرحلة احتراب داخلي فتّتهم بعضها بعضاً بدعم الإرهاب، وتستميت لتأمين مظلّة أميركية لها عبر الإكثار من دفع الرّشى وعقد اتفاقات اقتصادية تكاد تتسبّب بإفلاسها لمصلحة الأميركيين الذين يتلاعبون حالياً بدول مجلس التعاون، فيحدّدون لها متى تنشب أزمة بينها، ومتى يجب أن تنتهي!

ماذا تريد الدول الخليجية المتورّطة في أزمات سورية والعراق إذن؟

إنّ أقصى طموحاتها السياسية، الحدّ من الدور الإيراني في سورية والعراق. وهي هنا تخلط بين السكّان المحليين في الدولتين المؤيّدين للحشد الشعبي وحزب الله، وبين الحرس الثوري الإيراني. لذلك، فإنها تضغط على الأميركيين لتقليص النفوذ الإيراني في هاتين الدولتين، وتدميره في اليمن لما له من تبعات حادّة على الاستقرار في السعودية.

ضمن هذا السياق، تنطلق المفاوضات بين موسكو وواشنطن من جهة، وإيران وتركيا والسعودية والأردن من جهةٍ ثانية، والنظام السوري من جهة ثالثة… أمّا المعارضات فتتمثّل بالأميركي والسعودي والتركي لأنّها تجسّد مجموعة أبواق في خدمة المستعمرين.

بموازاة هذه المفاوضات، تتواصل الحرب العسكرية على إيقاعها «المدوزن»، بشكل يرى المراقبون أنّ الجيش السوري بمعونة روسيا وإيران وحزب الله والمنظمات الداخلية والإقليمية الداعمة مستعدّ لتحرير المزيد من الأرض، وكذلك الجيش العراقي المتأهّب بدوره لتحرير «بؤر داعش»، رغم المعوقات المفتعلة من قِبل واشنطن والرياض وأنقرة، وهي عراقيل تعاود استعمال أساليب الفتن المذهبية… ما يدفع إلى سؤال آل سعود: هل قطر دولة شيعية؟ وهل تركيا مثلها؟ فلماذا تعاديها إذاً؟

لمجمل هذه الأسباب، قد تؤخّر المعوقات الطائفية الجزء الثالث من حروب التحرير، لكنّها لن تتمكّن من إلغائها على قاعدة بناء مشروع سياسي وطني واحد يساوي بين العراقيين من جهة، والسوريين من جهة أخرى، ما يخلق موازين قوى جديدة تقلّص حركة الانهيار العربي نحو «إسرائيل» ويعود للشعوب حقها بتقرير المصير.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى