العنقاء تنهض من رماد الذاكرة!

مشلين بطرس

«إنّ عالم القمع، المنظّم والعشوائيّ الذي يعيشه إنسان هذا العصر،؟ هو عالمٌ لا يصلح للإنسان ولا لنموّ إنسانيته. بل هو عالمٌ يعمل على حيونة الإنسان، أي تحويله إلى حيوان». وهذا ما رآه ممدوح عدوان.

وبالعودة إلى قول كازانتزاكيس «إنّ الكتابة مهمةٌ جسيمة غرضها تحريض الإنسان على بذل قصارى جهوده لتجاوز الوحش الكامن في أعماقه»، يأتي ديوان «رماد الذاكرة» للشاعر العراقي كاظم الواسطي في قصائد تحاول مقاومة النسيان في زمن تلعْثَم فيه الكلام، في زمن القهر والانحطاط، لنجد أن الوقتَ يمرُّ سريعاً:

لم يفعل شيئاً بعد

وهذا الثقل من الكابوس

يتخطّاه

ذراعاً مفزوعة من قبضته

رهينةَ زمنٍ غائب!

ليصنع الشاعر زمنه الخاص في قصيدته «حياة بالأقساط»، فيكون الزمن التخييلي في القصيدة. إنه زمن تجسيد الرؤية، وزمن انفتاحها المتخيّل. إنه زمن الظلّ والتلاشي، ليرسم الشاعر من خلال كلماته شكلاً للمكان الشعريّ في قصيدته «معادلة». ولأن إدراك الشاعر ـ الفنان حتمية الموت يجعله أكثر وعياً بالزمن، نجد الشاعر الواسطي يعيش ازدواجية اللحظة وهي الزوال والبقاء على قيد الحياة في آن. ومنه جاءت نظرته إلى الزمن الممتد إلى زمنين إما الموت وإما الحبّ وهزيمة ذاك الجلاد في معادلة الحياة الصعبة.

وهنا يطرح السؤال نفسه: أليست الحياة عينها ذاك الجلاد الذي يرسم صوراً فاضحة للموت في زنازين الظلم والعفن؟

ففي الدفتر المدرسي القديم للإنسان تتالت شموسٌ، وأقمار، تلمس واحداً، كان ثقباً، في جدار. ويفوح عطن الانكسار من قصيدته «خيبة» فيتوسّد الشاعر جدار وحشته واقفاً يفترش برودته بوجهٍ ناعسٍ غريب وسواد ليله. أكثر قتامةً من إغلاق الجفن…

في قصيدته «وحيدٌ في ليلة باردة» يترجى الشمس أن تستيقظ قبل الوقت.

إبحارٌ في هشيم الذاكرة

لتولد قصيدة «كلام متأخّر» وتطغى عليها بنية السرد الوصفي الذي يسرد الأحداث، بلغة سردية أقرب ما تكون إلى الأسلوب القصصيّ منها إلى الأسلوب الشعريّ، وذلك من خلال دينامية الصورة وانفلاتها في نطاق التذويق الشعري المستحدث. فقد جاءت الصور والأحداث من واقع الحال لتنطق بما في داخل الشاعر من مثيرات تدلّ على اليأس والقسوة والشعور بالتشظي والخيبة بسبب وحشٍ من جنس الإنسان هدم بيوتاً آمنة، حيث قال في قصيدته «ذاكرة أنقاض»:

والغصّة في حنجرة الطير

بحجم الأميال الألف

نحو بيوت آمنة

هدّمها وحش من جنس

الإنسان!

ومنه أتوجّه إلى الوحش الرابض داخل كل منّا: إن لم تتحطّم المرآة أمام قبح باطنك، فحتماً سيتلاشى زيف حقيقتها أمام صدقها، لأن الماء التي كوّنتنا عطشى للمحبّة، ولن يطفئ ظمأها سوى الإنسانية الحقّة. وإلا سنكون كمثقّفين:

وجهاً يرغب بما لا يستطيع

ويفعل ما لا يريد

حاول مرّة أن يجد في الزحام

قبعةً

فقيل نبيّ منبوذ

فكان تحت السماء وحيداً

غيمةً كاذبةً

وشمساً من جليد.

لتبقى جدلية القناع والوجه هاجساً يعتمر قلب الشاعر وعقله كما جاء في قصيدته «وجه». ويتساءل في أخرى عنوانها «طبيعة غير صامتة»:

لماذا قتلتَ فيك ما يدل عليك؟

وهنا تكثيف لدلالة السؤال في نهاية القصيدة، ويبقى السؤال معلقاً بالإنسانية الضائعة، متى سيعيش كوكبنا بسلام ومحبّة؟

لنجد أن الشاعر الواسطي يراكم الأسئلة في ثنايا عددٍ من قصائده لتدفع المتلقّي إلى إعمال فكره في تأمّل مداليل هذه الأسئلة وإجاباتها المفتوحة، كما جاء في قصيدته «تحت ظلال القيلولة»:

فكيف نسبر أسرار النهر

حين نكون بعيدين عن الزنبقة؟

وما همّنا من أسرار السماء

حين لا تترك

ضوءاً على أجسادنا؟

نيرفانا القديسين والشعراء

وباعتبار أن تراكم الأسئلة يستدعي مدلولات شتّى، ورؤى متعدّدة تحتاج إلى درجة كبيرة من الوعي والتأمّل والإدراك لمدلولها الفكري وبُعدها النفسي وجوهرها الفنّي، فقد طرح الشاعر رؤاه الجديدة من خلال تساؤلاته في قصيدته «إيقاع التضادّ»:

فمن يُبقي الخائف بعد الآن

أكثر وضوحاً

في ذاكرة الأشياء؟

ولم لا تهمل هذه المحنة

إن كان بالإمكان

أو نصبح معنى آخر

في قاموس لا تخطئ فيه الكلمات

ويقرأنا، بشكلٍ مضبوطٍ معناه…

لنجد أنّ قصيدة «يقظة الموتى» تُبقي سؤالها مؤرجَحاً على أعتاب واقعنا البائس، فهل نحن أموات، أم أننا أحياء حقاً؟

لماذا تشبهوننا؟

نحن لم نكن ميتين

أحببنا بيوتنا

مدننا

وقهوة الصباح

وحين شاهدنا

جريان الصدء

وهبنا دماءنا

كي تبرق الحياة

وتصفّى الساقية

من الطحلب!

فما بالكم، وأنتم الأحياء

تتركون

كلّ هذا الغبار

على أبوابكم؟

اسمحوا لنا بتبادل الأمكنة.

طقوسُ كلماتٍ وترميمُ الخراب

في قصيدته «جمر الأعوام» يقول:

سماسرة السوق أكياس

منفوخة في بطون الشاحنات

تلتهم طوابير الشراء

بأنوف تشمّ توت العورات

تستكثر الشَعرعلى أجسادنا.

وهي صور شعرية مكثّفة تتمحور حول الصورة المفصلية: الإرادة ترتدي جلد الحمار/ كبرياءً. فهذه الصورة ترتكز عليها صور القصيدة كافة على اختلاف مؤثراتها البلاغية ومثيراتها الدلالية. فالإرادة التي ترتدي جلد حمار، هي صورة للإنسان المشبع بالقهر، والمفعم بالتحدّي والمقاومة، وهي مقاومة الإنسانية «لحيونة الإنسان» بارتداء جلد حيوان أو كما يقال بالعامية «التمسحة» المصطنعة أمام سوط الجلاد.

لينغمر الشاعر انغماره السرّي بعري اللغة وشهوة تقشيرها، حيث ساح في عوالمها مسكوناً باستعارات تحتاج إلى غواية النصّ في قصيدة «رماد المفعول به»:

الأفعال الناقصة

تنتعل السماء الموصولة

بالغياب

تستهلك ميقال

على أرصفة القيل

تضمّ بقوّة الإشارة

الساكنة في عقولنا

وتجعلنا

مفعولاً فيهم

على قاعدة التمثال!

ويستخدم الشاعر البياض للإحساس بكثافة الصمت وضجيج السكون في قصيدته

«محاولة خارج الصمت» ليكون البياض كلاماً لا يستطيع الشاعر بثّه لأنه يشي بحالة من الامتلاء الشعري. فعندما تتّسع الرؤية تضيق العبارة، كما يقول النفري.

وبذلك يتجلّى إيقاع اللغة من خلال رصد التحرّكات الباطنية للنصّ الشعري، لتشتعل ظاهرة النقط والبياض في معظم قصائد الواسطي بأسلوبها الفني وبعدها الدلالي، الذي تبثّه بين الجمل والكلمات، فيما تعجز الكلمات ذاتها عن القيام به كقوله:

أنتم الجاثمون على أحلامنا ليل نهار

القابعون تحت ظلال الطرائد

النابحون، منذ البدء، على أبوابنا

المتربّصون في ثنايا العتمة

لكلّ ما هو متحرّك

المدجّجون بالنار في مدن البراءة

والنار ال… ال… ال…

ليعود إلى الكلمات ويقول:

الساقطون من غربال صمتنا

أنتم الغرباء

لن يكون لكم عند بدء الكلام

سلام.

وبهذا، تلعب ظاهرة الحذف دوراً كبيراً في انزياح المعنى لإعادة إنتاجه واستحضاره من قِبل المتلقّي، فيولد المعنى المغمور في البنى النصّ العميقة.

لحظة التخلّي

يقول بول ريفردي: «منذ اللحظة التي تتخلّى فيها الكلمات عن معناها القاموسي يستحصل الذهن المفكّر قيمتها الشعرية».

فـ«قصيدة النثر هي قصيدة التحوّل لا الثبات، قصيدة الحركة لا الجمود، وليس لها قانون أبديّ»، بحسب قول أنسي الحاج. لنجد أن عناوين المجموعة الشعرية «رماد الذاكرة» لها حساسية دلالية تؤطّر النصّ وتحدّد ملامحه، فالشاعر يركّز مدلول قصائده إما على عناوين فردية كقصيدته «ظل» و«انتظار» و«معادلة» و«علاقة» و«خيبة»، وإمّا على عناوين مركّبة تركيباً إضافياً أو تركيباً وصفياً يفعّل مداليلها الشعرية مثل قصائده «أضداد متزامنة»، «كلام متأخّر»، «ذاكرة أنقاض»، «قلاع الكتمان»، «أحران شائكة»… وغيرها الكثير من القصيدة اللوحة أو القصيدة المتكاملة وهي القصيدة التي تتفاعل مقاطعها الجزئية محققةً تضافراً نصّياً على المستوى المقطعي من جهة، وعلى المستوى النصّي العام من جهة ثانية مثل قصائده: «إيقاعات متنوّعة»، «وقفات»، و«آب 90»، ما يجعل لقصائده فضاءً دلالياً مفتوحاً لا يفتأ يتحوّل باستمرار.

تتّسم قصائد الواسطي بالبنية المترابطة التي تمسك بتلافيف الصور المؤسِّسة بنية القصيدة والمحرِّكة إيقاعها النفسي الدلالي على المستويات كافة. فالشاعر يدرك أنّ القصيدة لُحمة متكاملة ينبغي ألّا تتصدّع كتصدّع الذات وانكسارها في بعض الأحيان، ما يكشف عن شعرية البناء وحركة القصيدة تناغماً، وتقاطعاً، وتفاعلاً.

«تبقى وظيفة الشعر الكبرى أن يجعلنا نستعيد مواقف أحلامنا»، كما قال غاستون باشلار، فـ«الشاعر لا يطلب الإعجاب أبداً، بل يودّ أن يصدّقه الآخرون» بحسب رأي كوكتو.

كاتبة سوريّة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى