كيف ضاعت فلسطين وصار أهلها مشرّدين لأنّ القادة كانوا مشتتين خونة متآمرين…؟ ١

اياد موصللي

كيف ضاعت فلسطين؟ هل صحيح انّ قرار التقسيم بعد وعد بلفور هو السبب؟ كلا الوعد والقرار كانا الوسيلة وصكّ التطويب لتسجيل الاستملاك عبر الأمر الواقع.. لكن الحقيقة هي انّ «الرزق الداشر يعّلم الناس الحرام»..

كيف ضاعت فلسطين؟ سؤال طرحته أجيال مضت وها نحن أيضاً نطرحه ولسوف تطرحه أيضاً أجيال قادمة، أما الجواب فتعطيه مجريات الأحداث التي حصلت آنذاك والتصرفات التي ارتكبها بعض القادة الذين تواطأوا خيانياً ولا يمكن ان يوصف ما حصل بغير ذلك…

فإذا استطلعنا الموقف في الجانبين لدى اليهود ولدى العرب وقارنّا الصور يتبيّن بوضوح انّ نتائج حرب فلسطين ما كانت لتكون غير الذي كانته… ذلك انّ العرب بما لديهم من إمكانيات حربية واقتصادية ومالية كانوا قادرين على تحقيق ما يريدون لو أرادوا، ولكن قادتهم لم يريدوا لذلك وحجبوا كلّ الإمكانيات المتوفرة في زمن حرب لم يشعر بها أحد ممّن كانوا يأتون ويذهبون إلى البلاد العربية، فلا أهلها ولا زوّارها الغرباء شعروا بانّ هذه البلاد تواجه حرباً نتائجها مصيرية على أمّتهم ومستقبل أجيالهم. فملاهيها وحياتها الليلية كما هي، إجراءاتها الأمنية كما هي، تدابير الوقاية والاحتياطات والإجراءات لم تتبدّل. ولم تتخذ الإجراءات الخاصة بمثل هذه الظروف والأحوال.

أما في الجانب اليهودي فقد أعلنت التعبئة وجنّد كلّ قادر على الحرب من الرجال والنساء ونظم العمل بالبطاقات التموينية وفرضت الضرائب الاستثنائية وحصر كلّ نشاط بالحرب ومقتضياتها.

لقد سيطر في الجانب العربي الارتجال والاستهتار وساد التفكك والريبة والتواطؤ ضدّ مصالح الأمة وتدليلاً على واقع السياسة النفعية المتواطئة، لنقرأ المقال الذي كتبه طه باشا الهاشمي رئيس وزراء العراق والقائد البارز في جيش الملك فيصل. ومفتش عام جيش الإنقاذ في ما كتبه في جريدة «الزمان» العراقية عدد 15 أيار 1952:

إنّ القوات العربية لم تحارب بالمعنى الصحيح حتى يُقال إنها خسرت المعركة. وإذا كانت النتيجة بعد القتال الذي جرى بين العرب واليهود انّ هؤلاء نجحوا في تأسيس دولتهم فإنّ مردّ ذلك في نظري إلى أسباب سياسية وليس عسكرية. من المعلوم عندما تبدأ الحرب يترك القلم شأنه للسيف، وبمعنى آخر تنتهي سياسة القول والكتابة وتبدأ سياسة السيف والمدفع وتصبح السياسة خاضعة للأغراض العسكرية. والتاريخ مملوء بأمثلة تدلّ على انّ السياسة حينما تتدخل في توجيه القتال في الحروب يخسر الجيش المعركة. وعلى الرغم من انّ الجيوش العربية لم تشترك في قتال فلسطين بقوات كافية فإنها لو استخدمت الأغراض العسكرية البحت من دون أن تصبح الأغراض السياسية هي المسيطرة لكانت تلك القوات على قلتها قد حالت دون تأسيس تلك الدولة ولم يحدث في الحروب التي نشبت أن تخضع الجيوش لغير قيادة عامة تديرها حسب الخطة الحربية بينما كانت حركة القوات العربية في حرب فلسطين تجري من دون قيادة موجودة وتتحرك من دون الاستناد إلى خطة حربية.

ومن البديهي ان يصيب حركة القوات الفشل. والواقع انّ الحركات التي سبقت الهدنة إذا استثنينا حركات القوات المصرية لم تكن عمليات تجري لاستهداف أغراض عسكرية وإنما كانت السياسة النفعية مع الأسف هي التي تفرض إرادتها على سير الحركات .

إنّ ما أشار إليه طه الهاشمي هو تشخيص واقعي صادر عن رجل عايش المسألــة وعاناها من موقع الخبير المســؤول، كان العسكريون يلحّون ويشدّدون على ضرورة وجود قيادة عامة عليا موحدة تسيطر على جميع القوات ولها وحدها الأمر بتوجيه التحركات وقـد رفع العسكريون تقريراً بعد اجتماع عقدوه في عمّان في أواخر شهر نيسان 1948 بدعــوة من اللجنة السياسية للجامعة العربية وقد ضمّ هذا الاجتماع رؤساء أركان الجيوش العربية مــع عدد من كبار ضباط القيادة فيها وبعد اطلاعه على التقرير قرّر الملك عبد الله أن لا يشارك الجيش الأردني في الحرب إذا لم تعــط القيادة له وتمّت مسايرته والنزول عند رغبته فأعطيت القيادة له. هكذا جرت الأمور وكأنها عمليــة زواج عشائرية، زعل الملك فارضيناه بتزويجه قضية تساوي وجودنا! وبعد أن نال منها وطراً طلقها ولكنه لم يعدها الى بيت أهلها بل سلمها لأهل البغي…!

انّ قادة العرب لو تصرّفوا بوعي وإدراك لما وقع هذا الذي ادّى الى الكارثة القومية الكبرى، وإلى هذه الساعة لم تجر لهم محاكمة تاريخية لتدينهم وهم في قبورهم ولتلعنهم في كتب التاريخ وذاكرة الأجيال.

هل يُعقل أنّ أمة تآمر بعض قادتها مع أعدائهم على بلادهم لتسهيل احتلالها من عدو خطته إزالة شعب كامل من الوجود، وهذا الشعب هو شريان من شرايين الحياة في أمتنا وأرضه هي عنوان عنفواننا القومي والروحي والوجداني، ثم لا يحاسب هؤلاء المتآمرون ولا تدينهم أية جهة لا حكومية ولا قضائية مكتفية بلعنة الشعب وغضبه عليهم.

انّ المؤامرة والمشاركة فيها واضحة والبيّنات مثبتة بالوثائق والمدونات… ومع هذا لا زالت الكتب المدرسية تدرس اسماءهم وتطبعها في عقول أجيالنا كقادة! وقد يعتبرون أشرافاً تجنياً على الواقع ومجريات التاريخ، ولا يزال الكثيرون ممن ينعتون بالقادة هذه الأيام يمارسون نفس أدوار الذلّ تلك ويتلاعبون بمصير الأمة بيعاً وأهداء عبر التآمر الخياني سياسياً ومالياً وإعلانياً… إلى متى يبقى العار يكلل هاماتنا بسبب أهل الخيانات من عناوين القيادات؟ ألا يكفي ما جرى في ليبيا واليمن ومصر والسودان وتونس وما حاولوه في سورية بالشام والعراق؟ إلا يكفي كلّ هذا لإيقاظ وجداننا وحفر القبور لدفن العار فيها. لو فعلنا بعضاً مما يمليه الواجب بحق القادة الخونة لما كان تجرأ أحد اليوم على اتباع خطاهم كما نرى ونشاهد و»نترحّم» على خونة ذلك الزمن أمام ما يفعله أعراب اليوم أشباه الرجال.

لو سلّحت الدول العربية أهل فلسطين وأعانتهم وتركت لهم معالجة هذه المسألة لحققوا المُراد وحموا بلادهم بإرادتهم مع المتطوّعين من إخوانهم المجاهدين العرب، ولكن حتى هذا لم يحصل، لا لضعف أو عجز، بل بسبب التآمر ايضاً ولتتمّ صفقة تسليم فلسطين دون اية عوائق…

المجاهدون لا يطيعون الأوامر المشبوهة عكس الجيوش النظامية التي تتلقى التعليمات وتنفذها.

إنّ الحقائق واضحة ومنشورة في الكتب والصحف والمؤلفات وموقعة ممّن عاشوا الأحداث وكانوا شهوداً فيها وعليها… ولو أنفق العرب عشرة بالمئة مما أنفقوه وينفقونه اليوم في الشام والعراق من مال ورجال لتفتيت وحدة الوطن لزالت «إسرائيل» من الوجود ولكنها الخيانة. ولا أدلّ على تلك الخيانات مما كتبه عبدالله التلّ العسكري الأردني المعروف في مؤلفه «كارثة فلسطين» كقائد تسلّم مدينة القدس.

كتب فقال: «اجتمع الملك عبدالله ووزير خارجية اسرائيل شرتوك في نيسان 1948 بعد قرار الزحف الرسمي العربي وتوافق معه على قبول الطرفين لمشروع التقسيم والعمل على تنفيذه. وانّ غولدا مائير التي تولت وزارة الخارجية في ما بعد زارت الملك عبدالله ليلة 11/12/1948 وتحدّثت معه في ما اعتزمت عليه الدول العربية من الزحف على فلسطين وذكرته بما بينه وبين شرتوك، من اتفاق وعرضت عليه استعداد إسرائيل للاعتراف بضمّ القسم العربي الى تاجه مقابل عدم اشتراك جيشه الذي كان أقوى الجيوش التي زحفت وأكثرها عدداً في الزحف، وانّ الملك اعتذر عن عدم الزحف لأنّ في ذلك خروجاً على الإجماع العربي ولكنه تعهّد بأن لا يحارب الجيشان العراقي والأردني اليهود! وان يقفا عند الحدود التي رسمها التقسيم .

ولم يكن هذا موقفاً شخصياً ناشئاً عن مطامع شخصية للملك عبدالله تغلب على المصلحة القومية العليا، وإنما هو موقف وسياسة لقادة وسياسيّي ذلك الظرف في الأردن، حتى أنّ رئيس الوزراء توفيق ابو الهدى لدى اجتماعه مع مستر انوريه بيفن وزير خارجية بريطانيا أجرى محادثات احيطت بالسرية والكتمان في شهر كانون الثاني 1948 والذي تسرّب عن ذلك الاجتماع يعطينا صورة وطن كان أشبه بسلعة تطرح في مجال المساومات بيعاً وشراءً ولا يرفّ جفن لدى السماسرة والباعة الذين يحملون صفة ملوك ورؤساء والذين باعوا فلسطين بشكل واضح ومفضوح وحتى الآن لم تلعن ذكراهم ولم يدنّس مثواهم ولم تمح آثارهم ولم ينعتوا حتى وصفاً بالخيانة…

إنني لأتساءل هل خيانة القادة لشعوبهم في أمتنا هي أحد شروط القيادة؟

قال أبو الهدى رئيـس وزراء الأردن مردّداً صوت سيّده الملك عبدالله! هنالك احتمالان احدهما ان يحتلّ اليهــود جميع فلسطين وثانيهما ان يعلن المفتي نفسه حاكماً عاماً على فلسطين، وانّ هذا وذاك ليس من مصلحة الأردن وبريطانيا، ولا سيما انّ المفتــي يعتبر من الأعداء لبريطانيا وعدواً للأردن والمنازع الوحيد للملك عبدالله! رأوا المفتــي عدواً ولم يروا اليهودي الصهيونـي عدواً!

وتابع أبو الهدى انّ الملك يتلقى عرائض كثيرة من زعماء فلسطين يطلبون فيها إرسال الجيش الأردني لحماية عرب فلسطين بعد خروج القوات البريطانية، وانّ الملك يعتزم ذلك، فقال بيفن انّ هذا حسن شرط ان لا يذهبوا أكثر من ذلك ويحتلوا المنطقة اليهودية، وتعهّد ابو الهدى لوزير خارجية بريطانيا ان لا يتخذ الأردن أيّ خطوة إلا بعد مشاورة الحكومة البريطانية… وفقاً لنصوص المعاهدة معهم . يا سلام كم كان هذا الخائن مؤمناً وأوفوا العهد انّ العهد كان مسؤولاً .

لم يقف الأمرعند موقف ملك الأردن وحكومته بل انّ ذلك امتدّ إلى موقف الحكومة المصرية، وكلا الحكومتين تخضعان للنفوذ البريطاني وتعملان تحت تأثيره بولاء مطلق دون ايّ وخز للضمير الوطني او تأنيب وجداني او مشاعر قومية، ولم يقتصر هذا الأمر على حكومات هاتين الدولتين ولكنه ينطبق على الكثير من رؤساء العرب لأنّ الأقوال التي صدرت عنهم والتلكّؤ والتباطؤ في اتخاذ المواقف والقرارات والاستهتار والارتجال أظهر ضعف البنية القومية والعربية وترك أثراً جارحاً وأليماً امتدّت آثاره إلى مختلف نواحي الحياة في جميع البلاد العربية، ولم يكن هذا ناجماً فقط عن تداعيات المسألة الفلسطينية أو بسببها إنما كانت هذه المسألة هي التي أزالت الستار وكشفت العورات السياسية وتفكك البنى الفوقية والتحتية لأنظمتنا الكرتونية التي يرسم عليها الأجنبي بقلمه ما يشاء من صور لم نكن نتصوّر قبل هذه المسألة أن يكون رجالات العرب زعماء ورؤساء بهذه الطوعية وهذا الرضوخ للإملاءات الانكليزية والأجنبية وهذا التآمر معهم الى المستوى الذي فتح الطريق أمام قيام الدولة اليهودية وتثبيت أقدامها…

يكفي ان نذكر انّ النقراشي باشا رئيس الحكومة المصرية سجل في اجتماع اللجنة السياسية في دورة الجامعة العربية الذي انعقد في عاليه لبنان في تشرين الأول 1947، تحفظه على موضوع الاشتباك المسلح فقال: «إني اريد ان يكون معلوماً من الجميع انّ مصر إذا كانت توافق على الاشتراك في هذه المظاهرة العسكرية… مظاهرة يا ما شاء الله فإنها غير مستعدّة قط للمضي أكثر من ذلك. وتفسير هذا انّ مصر توافق على الحشد العسكري على الحدود ولكنها ترفض الاشتراك في حرب فعلية…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى