قراءة في رواية «صهيل الصمت» للتونسية إلهام بو صفارة مسيوغة

أمين الديب

في الشكل، تتصدى رواية «صهيل الصمت» للروائية التونسية إلهام بو صفارة مسيوغة، بشكل حاد ومتطرّف وعميق، لمعضلة المكبوت والمكنون والمقموع والمكتوم لجسد المرأة في المجتمعات العربية، الحرّية التي لا يمكن بلوغها على مستوى المجتمع، المسألة تقع في التقاليد والعادات والقيم والدين، حرية الجسد، لغة الجسد، في مواجهة المجتمع الذكوري، الذي يُبيح لنفسه ما يُنكره على المرأة.

الرواية تهدف في سردها الفكري والفلسفي والنقدي الاعتراضي، للتنظير إلى ثورة تقوم على وعي الذات، تمهّد لحرّية التعبير عن مكنونات الجسد، الجسد بدلالاته التعبيرية عن مدارات وأفلاك الروح التائقة إلى السطوع كحركة تعبيرية عن المشاعر التي تقود إلى السعادة. بمعنى أن تحقيق الرغبة واللذة تقود إلى السعادة، أنه اصطراع بين العقل المتوارث الذي يمثل القمع لصالح القيم السائدة، ولذّة الجسد التي تعبّر عن الحرية والانعتاق من الماضي البليد الساكن.

أكاد أتلمس بوضوح محاولة الكاتبة المقارنة بين مفهومين، مفهوم أوروبي غربي، تحرّر فيه من التمييز بين إنسان وإنسان، رجل وإمرأة، ومفهوم شرقي ذكوري بالمطلق.

في المضمون، العنوان بحدّ ذاته تعبير مختصر عن أحداث الرواية، الصهيل الذي انتقته الكاتبة هو لغة مكتومة ولكن ذات دلالات تعبيرية عن إطلاق المشاعر الناجمة عن حالات نفسية ورغبات، فالخيل الذي رافق مسيرة الإنسان وكان وسيلته أوشريكه المتفهم في التنقل والحروب والسفر والمفاخرة، وصهيل الخيل قابع في ذاكرتنا كلغة محملة بالتعابير وحالات الخوف والشجاعة والوفاء والفخر والغضب والإقدام، صهيل الصمت في مقاصده الدلالاية يرمز إلى الإنفجار الحاصل في نفس المرأة المكبوتة، بتعبيريته الثورية الغاضبة والتي تجنح إلى ساحات مُشرّعة على نهايات غير معلومة تعبيراً عن إطلاق مكنونات الصمت وخوض غمار معركة الحرية وصولاً إلى الحرية والسلام الداخلي المتوازن مع الرغبات التي حرّمها المجتمع، تأسيساً لحياة جديدة بمفاهيمها وقيمها وأبعادها الإنسانية الراقية.

في الدلالات السردية، تصدّت الكاتبة بلغة غير مألوفة في الفن السردي، ربما ذلك يعود لجلل الحدث الذي تناولته، وهذا بارز في الأبعاد الثلاثية في العناصر السردية المباشرة وفي الابعاد الفكرية الفلسفية التقريرية غير المباشرة، في معالجة الأحدات التي تدور حولها الرواية.

البعد الأول، لا أدري حتى الآن، لماذا أوكلت الكاتبة الخيال السردي لامرأة مريضة ينتابها الشلل بين الفينة والأُخرى على سرير المستشفى، وهل بذلك استنتاج بأن الثورة المتوخاة لتحقيق السعادة عبر الجسد قد فشلت واستحالت إلى رمزية تعاني سكرات الموت على فراش مركون في مستشفى يترك لقلمٍ وقع مراراً أن يخطط ويكتب ويبتكرالأحداث؟ هل في ذلك إحالة واعية لعجز الحاضر عن الانتصار وترك المسألة مُرحّلة إلى المستقبل كحالة صراعية مفتوحة يفرضها الحاح الضرورة كرافعة تحررية وكقوة دافعة لمسار التقدم الانساني؟

البعد الثاني، الشكل السردي، الذي يخرج عن المألوف، لا حبكة، لا مفاجآت، إنه سياق ثوري حقيقي يبتكر أدواته وشكله السرديين، حيث ينصهر الشكل بالمحتوى، بمعنى، أي فكر جديد يحتاج شكلاً جديداً للتعبير عن تجاوزيته وثوريته، إنه عملية استنطاق لمكنونات النفس، الإفصاح عن ما يعتبر في المجتمعات العربية، في سياق آخر، نرى أن الأحداث جرت في مدينة سوسة، مستشفى، جامعة، منزل، شعر، عشق صامت، صراع بين العقل والروح، أي المشاعر والرغبات، كل هذا الضجيج الصهيل لم يمنع القلم الراوي أن يتغافل أو يهمل مسألة الصراع العربي ـ «الإسرائيلي»، والصراع مع المفاهيم الاستعمارية المتغلغلة في العقول العربية. إن المغرب البعيد جغرافياً عن المشرق، ولكنه يرى إلى هذا الصراع جزء أساس من كل يشكل المعاناة التي تنعكس على شعوبنا ومجتمعاتنا، هذا الامتداد النابض يحمل هوية صراعية يؤمن بها، كمسألة تحرّر قومية، من دون إغفال التجربة الإنسانية وامتدادها في وعينا وفي لاوعينا، والدليل أن هذه التجربة الروائية الفذّة والجريئة، حصلت في مكان وزمان محدّدين، إلا أنها تجربة لها امتداداتها التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في بيئة ممتدّة، لها قيمها وتقاليدها وعاداتها ومفاهيمها المحكومة جميعها بالمقدس.

البعد الثالث، استدارة واسعة حققتها الكاتبة في أحداث روايتها، من الطبيعي عندما يكون البثّ داخلياً، أن يتّصف بالغموض والحشرجة، لارتباطه الوثيق بالمشاعر، الألم، الرغبة، السعادة، في ظلّ سقف محدّد من المفاهيم الاجتماعية التي ترفض الجنوح وإطلاق الحالة الإنسانية على سجيتها، كون ذلك يهدّد استقرارها الاجتماعي المزعوم، فالمجتمعات الراكدة المستقرّة في السائد والمكتفية به، ترهقها الحيوية الشعورية المتمردة وتهز كينونتها النائمة في ما يشبه ختان المشاعر. وإذا استعرضنا شخصيات الرواية، نجد أن «عمر» الشاعر الذي تحوّل إلى تاجر، والذي شكّلت صفاء في لاوعيه حالة حب، أو رغبة دفينة في البقاء لا يدرك مغزاها، فهو لم يستوعب تساؤلات صفاء، هل الحب حالة شوق تموت بالوصال كونها حققت غايتها؟ هل فكرة الحبّ أجدى شعورياً من الحبّ ذاته؟ و«سليم» الذي هرب من أنثى تمارس أنوثتها بطلاقة، لم تحتمل رجولته المتوارثة أن يرى امرأة متمرّدة، تمارس فرحها علناً في مقهى يكتظّ فيه الرجال، رجل مثل «سليم» لا يحتمل امرأة خارجة عن طوعه، امرأة أقوى منه، حكماً يصنفها في مخزونه الثقافي امرأة داعرة.

أما «مراد»، فهو التجربة الوحيدة المفتوحة على كافة الاحتمالات، تجربة ما زالت غامضة حتى بعد موت «صفاء»، يصغرها عمراً، انجذبت إليه، ذهبت إلى منزله، هو رسّام يعيش في النمسا مع والده التونسي، أروى شهوتها، عرض عليها بموروثه الذكوري مالاً، رفضت، رسمت صورة والدها الذي تركهم وهاجر إلى النمسا. ماذا لو تعرّف «مراد» إلى صورة والدها؟

في السياق ينتظر القارئ أن يرى «مراد» في رسمها صورة والده، ولكن ذلك لم يحدث. إن الثورة الحقيقية التي أُسّست في قناعاتها بعد أن غادرها «مراد»، هي أنها عاجزة عن فهم النفس البشرية، وعاجزة عن خلق قيم أخرى غير التي أُسّس عليها الكون.

الخلاصات، مُحاكاة مُغايرة للأنماط الروائية السائدة، النمط السردي عندها يُغري بالمتابعة، تبنّت الخوض في مسألة حياتية يتحاشاها معظم الكُتاب، تصدّت بشاعة وهتكت غشاء بكارة التابو، أوصلت أفكارها بلغة رائدة مقدامة، جمل بسيطة لكنها معبّرة جداً، طرحت مشكلة المرأة العربية ورغائب جسدها، وطرحت مسائل متنوّعة من الحرّية، وربطت بين تحرّر المرأة المرهون بتحرّر الرجل الشرقي.

«صهيل الصمت» طرح معادلة جديدة في السرد، وفي ضرورة الثورة المعاكسة للراهن.

«صهيل الصمت»، طبعة ثانية، تقع في 143 صفحة من القطع الوسط، للروائية التونسية إلهام بو صفارة مسيوغة، وهي روايتها البكر، حيث صدرت لها مؤخراً رواية بعنوان «النسّيجة».

ناقد وشاعر

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى