الكتابة مسؤولية!

شكيب كاظم

ذات مرّة، طلب منّي مسؤول في إحدى الصحف اليومية المرموقة، الكتابة إليهم بشكل دائم وثابت، أي كتابة ما يشبه العمود الأسبوعي أو نصف الشهريّ. فاعتذرت قائلاً: إني على استعداد للكتابة إليكم والتعاون معكم بعيداً عن الكتابة المقنّنة والمحدّدة بموعد ثابت، لأنّي أرى الكتابة مسؤولية، والذي لا يحترم قارئه سيخسر احترام القرّاء له ولقلمه، فضلاً عن أن الكتابة كما أراها مزاج واستعداد، لذا فأنا أعجب، إذ أقرأ في سِيَر وحيوات الكتّاب أعجب من ميكانيكية بعضهم، إذ تراه يذكر انه يكتب من الساعة كذا حتى الساعة كذا من كل يوم من أيامه، ترى أهذا الكاتب جنديّ حراسة أو شرطي يؤدّي واجبه المعتاد؟!

مرات عدّة، قد لا يكون لك الاستعداد الكافي لكتابة شيء مفيد وجميل، يضيف إلى رصيدك لدى القرّاء والمتابعين شيئاً، فالكتابة شأنها شأن القراءة، يحصل ان يلتمع في ذهنك عنوان كتاب فتبحث عنه في مكتبتك حتى إذا وجدته بعد لأي، بدأت القراءة بفرح وحبور، في حين تطالعك عناوين كتب في مكتبتك لكنك لا تجد المزاج والرغبة في قراءتها. لذا، فأنا أعجب من هذا الإصرار على كتابة العمود الأسبوعي أو نصف الشهري وحتى الشهري لأنّ الكتابة عند ذاك ستتحول إلى واجب وظيفي، لن تكون جالبة لقارئ يحترم وقته وذائقته.

قد يكون لمحرّري الصفحات الثقافية أو الصفحات المتخصّصة عذر، فالعمود الذي يكتبونه جزء من عملهم الوظيفي، فضلاً عن أنّ المحرّر بحاجة إلى إبداء الرأي ومواكبة الأمور الثقافية والمعرفية، ولكن الذي يؤسف له هذا الإصرار على الكتابة المحدّدة والظهور الأسبوعي الذي أسمّيه «الكتابة الوظيفية».

بعض المجلات الشهرية، وحتى الصحف اليومية تكلّف بعض الأسماء، ومنها أسماء مهمة، لا بل مهمة جدّاً للكتابة بموعد ثابت، رغبة من هذه المطبوعة في جلب انتباه القراء واقتناء المطبوع، لرغبة القارئ في متابعة كاتبه الفضل.

كنا نتابع ما تكتبه الصحافية اللبنانية والقاصّة ليلى البعلبكي، في مجلة «الأسبوع العربي» اللبنانية أو ما يكتبه الشاعر نزار قباني في مجلة «بيروت المساء»، أو كتابات غسان كنفاني في مجلة «الهدف» الناطقة بلسان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أيام مؤسسّها الدكتور جورج حبش، الذراع العسكرية لحركة القوميين العرب، ومقالات أستاذي الدكتور علي جواد الطاهر في صفحة «آفاق» في جريدة «الجمهورية» العراقية، التي كان يتولى الإشراف عليها الناقد ماجد السامرائي، وكانت من أرقى الصفحات الثقافية في العقد السبعيني، لكن علي جواد الطاهر ما واصل الكتابة طويلاً لأنه يشعر بمسؤولية الكتابة ويحترم قارئه، توقف عن كتابة مقاله الأسبوعي الموسوم بـ«ما وراء الأفق»، من أجل مزيد من القراءة ومن أجل ديمومة العلاقة مع قارئه، وجمع هذا المكتوب ونشرته له وزارة الإعلام العراقية في كتاب سمّاه «وراء الأفق الأدبي»، صدرت طبعته الأولى عام 1977.

واستوجب الحال ـ كما يقول الطاهر ـ شيئاً من الاستجمام، يرى الكاتب فيه المدى الذي يستطيع ان يصل إليه والمادة التي يمكن ان يتناولها، من دون أن يجور على مخطّطه … . أجل، فقد كان يريد لمداها ان يكون أبعد من الخبر الصحافي، الذي ينتهي بانتهاء اليوم الزمني الذي تصدر فيه الجريدة، ويريد لها قدر المستطاع أن تجمع الطرافة إلى رصد الحاضر، والاهتمام بالغد.

لقد كان بمعنى آخر يخطّط لأن ينشرها لدى أوّل مناسبة في كتيّب خاصّ.

ويتكرر الحال، مع مجلة «ألف باء»، إذ تكلّفه المجلة بكتابة حديث ثقافي أسبوعي اختار له عنوان «الباب الضيّق»، كتبتُ عنه حديثاً نقدياً عنوانه «محاولة لولوج الباب الضيق»، نشرته جريدة «العراق» يوم الإثنين 20 نيسان 1992، في العدد 4954، وأعدت نشره في كتابي الثاني الصادر عام 2001 والموسوم بـ«الضفة الثانية. في نقد القصة والرواية».

ما أقلّ من هم على هيئة الطاهر وتوجهاته، فالكتابة المتواصلة إذا لم تردفها قراءة جادة ومتواصلة، تجعل الكاتب يقدم لنا لغو صيف، أو سحابة صيف لا تلبث ان تنقشع من ذاكرة القارئ. وكثيرون من الكتّاب لا يقرأون بشكل جادّ وجيد، لذا ما هي إلا إغماضة عين وانتباهتها، حتى يظهر الكاتب الوظيفي، أو ما أسمّيه «المتحدّث الخافر»، إذ تراه في كل ندوة ومناسبة، يتحدث الحديث ذاته، مع تغييرات بسيطة تناسب المقام. وقد رأيت أكثر من متحدّث، ما ان يكمل حديثه الفارغ، حتى يغادر الجلسة، لأنه مدعو إلى ندوة أخرى، وكأنه «متعهّد» أحاديث أو «قنطرجي».

أقول: ما لبث هذا الكاتب الوظيفي، أو الناقد المتحدّث الخافران يظهر على حقيقته الخاوية خالي الوفاض، إلا من كلام مزوق منمق.

فقد قال كل الذي يريد قوله، وسيصبح «صاقولاً» كما أطلق الدكتور علي الوردي على نفسه هذا الوصف ـ وكان جريئاً وصادقاً ـ أي أنه يعيد و«يصقل» ما سبق أن كتبه وتحدّث به، لأنه لا يقرأ، كي يضيف إلى ثرائه المعرفي ثراء جديداً.

الكتابة مسؤولية، بل صعبة كما يصفها إبراهيم الجرادي في مقال جميل عنوانه «استدراك الأمر بصريح العبارة» نشرته جريدة «المنتدى» الأسبوعية الثقافية الرائعة، التي تذكّرني بجريدة «البلد» المحتجبة التي أصدرها الصحافي الرائد عبد القادر البراك منتصف العقد الستّينيّ الفارط. لقد كانت جريدة «البلد» واحة وارفة الظلال، تتفيأ فيها أقلام كتاب ذلك الوقت، ولعلها أوّل صحيفة كان الهمّ الثقافي والكتابي فيها يعلو على صوت السياسة، أقول: قرأت في جريدة «المنتدى» في العدد المرقم 157 الصادر في يوم الأربعاء 16/11/2011 ما يشبه الاعتراف الصريح بضرورة الإيفاء بالتزامات هذه الكتابات الوظيفية المقننة، في مواجهة من يستسهلها، الذي يرى انه يكتب بدوافع لا علاقة لها بقيمة ما يكتب، وهذه هي الكارثة والداهية الدهياء، يقول الجرادي إبراهيم: لم يصدقني صاحبي حين قلت له: إنني استصعب كتابة الزاوية الصحفية أكثر من سواها، ولم يصدقه أصدقاؤه والحاضرون، حين أعترف صاحبه انه يكتب وهو الاسم المعروف، بدوافع لا علاقة لها بقيمة ما يكتب، لأن في الأمر بواعث مرتبطة بالذات الكاتبة، ورغبتها في الظهور والحضور وتأكيد الذات.

بصراحة، أنا لا أقرأ الأعمدة الثابتة، لا بل أقرأ نتفاً منها وسطوراً، حتى للكبار أمثال: أدونيس، وعبد السلام المسدي، وجابر عصفور، وصلاح فضل، وغيرهم، لأنني بمقارنة هذه الكتابات الوظيفية الوجائبية ومقارنتها بما كتبوا خارج هذه الأطر المحددة، أرى البون شاسعاً بين الكتابتين والنهجين، قد يكون الكاتب محتاجاً إلى المال، لكني أراه بحاجة كبرى إلى هذه الآصرة بينه وبين القراء والتي سداها ولحمتها الاحترام المتبادل، وليس رغبة في الحضور وتأكيد الذات، فهذه الكتابات المنبتة الصلة والمقطوعة الآصرة، لن تجلب لك حضوراً وتأكيد ذات، لأنها صادرة عن خواء نفسي، واستغفال قد يبدو متعمدا للقارئ، وان يضع في حسبانه ان ليس الكاتب منتج النص وكاتباً له، بل القارئ من خلال خزينه الثقافي، وذائقته القرائية، هو الآخر منتج للنص ومفسر له، وأنه ليس من المجدي ـ من أجل ديمومة العلاقة وبقائها بين وجهي العلاقة هذه، وأعني الكاتب والقارئ ـ أن يظلّ هؤلاء يبثون لغوهم الفارغ، فالباث أو الكاتب بحاجة إلى الركن الثاني من عملية البث أو الكتابة، أي المبثوث له، القارئ والمتلقي، فهل يجوز لهؤلاء ان يواصلوا بثّ فارغ القول، أو المبثوث الفارغ، يصدعون به أدمغة قرائهم؟!

المسألة أخيراً بحاجة إلى مراجعة للذات، أنريد علاقة احترام مع القارئ وللقارئ، أم علاقة استغفال له وتدليس عليه؟!

فالقول الصادر من القلب يدخل القلب، أما القول الصادر عن اللسان، فلا يكاد يصل إلى الآذان، أذن القارئ السامع!

كاتب عراقيّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى