«مرداد».. فكرة صراع أنا الذات معها أولاً!

مجدولين الجرماني

كيف يمكنك التسليم بفكرة وجوديّة الكون المسيّر، أو تجعل من أناك الباحثة تتغلّب على أناك الزاهدة، من دون التمزّق بينهما وضياع اتجاه طريقها الواحدة؟ كيف يمكن للمرء التوحّد مع أنا منزهة، قادرة على التخفيف من عبء المتاهات التي نحياها ونتوالد بها ونتجدّد، ثم نغفلها على حين فجأة لنعود لأنا الحرب والشرّ؟ ليبقى السؤال الأعلى، كيف تسمو لمصافي النور الأعظم، لتجد نفسك في الذات الإلهية مستقرة مستكينة؟

أما ترى… إن ما نحتاجه لينفتح قلبنا على الكلّ، في أنا يتصالح مع مرايا أناه أولاً ليصار أنا كاملة متحدة مع الكلّ؟ أم أنه رنين الذهب يُطرب توحّش «الأنا» ويذيقها طعم التلذّذ بدم بعضها، أتخيل كيف يمكن لإنسان كيف ينهش ذاته وهو لا يشعر بمأساته معها ولا يدرك توحّده بها في أتون هذا العالم… إذاً، ما السبيل لمحاباة الروح لتفصل بين قماطها والمقموط؟

ما من محبة مستطاعة إلا محبة الذات، وما من ذات حقة إلا ذات الله التي هي الوجود بكامله، لذلك كان الله محبة صافية يحبّ ذاته…

«مرداد» الكتاب الجديد القديم للكاتب ميخائيل نعيمة، القديم في حكاية مرور السنين، والجديد في الفكرة التي لا تنفك عن ولادة فكرة من لدنها كمسار حقيقي تنفتح بالمجاز الروح اقتراباً من لكنة تصوّف الذات ونزوحها ونزوعها.

تدور قصته في الفلك الذي يستقرّ بها عدد من العباد للربّ الواحد، هذا كخيط أولي من حكاية جمع كل الخيوط بالنهاية في يد واحدة من خلال الهيمنة الدينية التي تتحوّل في ما بعد لسلطة المرجع الأوحد والأقوى.

تنكشف فضاءات الكتاب لتفضي إلى حواريات بين الرهبان وشخصية «مرداد» الخادم البسيط الدائم الصمت، الخادم للجميع بالطبع، وما تفضي إلينا مناوراته مع «شمادم» رئيس الفلك… لنستشف من خلال هذه الحواريات وليتضح لنا فكر الكاتب الذي يوغل في البحث عن الروح الإنسانية وأساسيتها وطريق انتمائها للنور الأعظم.

يقول: «الإنسان إله ما يزال في القمط، و»الأنا» هي القمط والطفل المقمّط بها معاً، فعندما يقول الإنسان أنا، يشطر الكلمة إلى شطرين أحدهما القمط والمقمّط بها وثانيهما ذات الله التي لا تموت».

من باب أن، مَن كان في وسعه أن يخلق، كان في وسعه أن يمحو ما خلق.

وما أنتم أيها الرهبان سوى مقاطع في كلمة الله، ذات المقطع الواحد فلا حياة لكم إلا منها.

بهذه الإشارة ندرك ما يوحي عن فكرة الوجود والتعمّق الفلسفي الكونيّ، ليدلنا إلى انحيازه الروحي ككاتب، بمدلول أنه يذكرنا بنظرية نيتشه حول البقاء للأقوى، حيث يحدثنا الكاتب بالقول: «الضعيف عبء للضعيف، كما يحمل الجبل الحصباء والبحر الساقية، لذلك فتشوا عن الضعفاء فمن ضعفهم قوتكم».

على مبدأ أن الإنسان يمتد إلى اللانهاية، لأن جذوره في الأزليّة ممتدة. فما بين الماضي والحاضر، هي مسافات العقل الثرثار ما قبل اكتمال حالة الوعي السامي، الذي يجعلنا نتوقف عند كثير من المعاني التي تتصل بالنفس البشرية والرضوخ لجملة أسئلتها تساؤلاتها… ترى هل شخصية «شمادم» رئيس الفلك هو العين الناظرة لنا على مرّ العصور، على العالم المادي، أم هي مفتاح حكاية إنسان، و»مرداد» هو النبي المنتظر؟

كما في كل الأساطير مثل ملحمة جلجامش البابلية، أو ككلّ حكايات الشرق، أو المهدي المنتظر.

ألسنا وبعد كل هذا نتلمّس بأننا ندور سيراً داخل دوامة الحضارات المتصادمة التي قابلها الكاتب معاً بخيط فكره ووعيه بلمسة ناعمة تعايشنا معها، على الرغم من إيماننا المطلق بأن مرد نتيجتها واحدة.

«مرداد» الكتاب هو فكرة التواقين لجمح نهم الذات والتغلّب عليها، عبر ترتيب كل أوراق الحياة فوق الطاولة وتفنيدها إلى قوانين، من قوله: «العين حاجبة للحقيقة… والشفاه خاتمة للحقائق»، لمدلول حاجة لعين بصيرة، مفتاح فكّ الحجب للوصول إلى مرامي «الكلمة» الخلاّقة التي تنحو بالتحفيز للجم تعاظم «الأنا» في داخلنا، ليُصار إلى طردها بعيداً، فمن استطاع أن يسلّح باستطاعته نزع السلاح.

فـ»الأنا» هي الخالق والمخلوق معاً، الدائرة الكونيّة التي نطلق عليها اليوم «العالم»، الذي قال عنه الكاتب: «العالم الذي أنا به من مهد إلى لحد ولحد ينقلب إلى مهد»، كأنه يُخبرنا بنظرية التقمّص، بطريقة فلسفية كما الحضارة الفرعونية، وبوذا وكريشنا في حضارة الهند، ويبين لنا بأنه عالم متناقضات ما نحيا به وانعكاساته لا تنتهي. سلم يشهر الحرب، وحرب تطلب السلم، بسمات تعوم ببحر الدموع ودموع تشع بالبسمات، «إنه لعالم في حالة مخاض وقابلة بجانبه الموت». في النهاية، تبدأ رحلة البحث عن خلاص تحدّ من هذا الخلل المحيط، من فكرة السؤال، كيف للعالم أن يعرف التوازن ما دامت «الأنا» فيه مختلة أصلاً؟ الحلّ موجود طبعاً، فكان على لسان «مرداد»، فكرة الوقوف على ثلاثيته المقدّسة، الضمير الأولّي، الكلمة، روح الفهم، هذا هو ثالوث الوجود والديمومة، وغير هذا فأنتم الطوفان وأنتم السفينة، وأنتم الربان، أما الطوفان فشهواتكم، وأما السفينة فجسدكم، وأما الربان فإيمانكم وهذه كلّها تتخلّلها إرادتكم. ومن غير الشروح المبسّطة، فشخصيات «مرداد» المتواترة ترسم وحدها معالم لحياة دون الحاجة لتفنيد دور كل منها على واقع الكتابة.

كاتبة سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى