كوني لي وطناً

د. ادمون ملحم

فعل العقيدة القومية الاجتماعية وأثرها في النفوس نراهما في نضال القوميين الاجتماعيين وبطولات الشهداء الأبرار على مرّ السنين، ونراهما في أعمال كثيرين من المفكرين والباحثين والأدباء والشعراء والصحافيين والموسيقيين و المسرحيين والفنانين الذين آمنوا بدعوة سعاده أو تأثروا بها، فأنتجوا أعمالهم من خلال الرؤية التي قدّمها سعادة. ومن هؤلاء كان الرفيق الشاعر فؤاد شريدي الذي شهدنا على توقيع ديوانه الأول: «كوني لي وطناً».

ومَن يقرأ هذا الديوان يتعرّف إلى هوية الرفيق فؤاد. فهو شاعر شريد حمل في قلبه آلام النزوح ووجع الاقتلاع من جنوب الوطن من فلسطين.. وراح يجوب العواصم والبلاد ويبحث في صقيع المنافي عن الدفء والأمان وعن نجمة الميلاد، عن نبي «سوري» يوحّد البلاد ويقتلع من صدر أمته كل الخناجر والأوتاد…

هذا الشاعر التائه في عتمة المنفى الذي راح يعدّ السنين ويمزق روزنامة عمره ويلقي بأوراقها… هذا الشاعر المتشرّد في أقبية الحرمان الذي تحوّل قلبه مغارة أحزان… بدأت تتكّوم في رأسه الأحلام.. أحلام العودة إلى الجليل والقدس التي يحاصرها جناة التاريخ بنو صهيون الغرباء الذين صلبوا المسيح وقتلوا الأنبياء.. بدأت تراوده أحلام العودة إلى الوطن الذبيح الذي صلبوه وزرعوا فيه الموت والقتل والدمار إرضاءً لإله الرعب الطوطمي، إله الشر والحقد والشعوذة والتجديف..

ويتعرّف الشاعر على الحركة القومية الاجتماعية وعقيدتها فيجد فيهما بريق الأمل والحب والحياة ويتراءى له الوجه المضيء، وجه فتى الربيع السمح، فتى آذار الرجل الجريء، يتراءى له معلماً وقائداً فريداً واثقاً من نفسه ومؤمناً بشعبه وأصالته.. يتجلى له سعاده الزعيم المعبّر عن حقيقة الأمة وتطلعاتها أصفى تعبير.. يسمعه يعلن بكل عزم وإرادة وتصميم انبلاج فجر الأمة الجديد، فجر نهضتها القومية الاجتماعية وانبعاثها من قبر التاريخ.

ويبدأ الشاعر بالاطلاع على تحليلات سعاده وكتاباته عن القضية ومأساة التجزئة القومية، عن داء الطائفية وخطر الصهيونية، عن الشعر والقضية الأدبية، عن نظرته الجديدة إلى الحياة والكون والفن وعن دعوته للأدباء والشعراء السوريين للأخذ بهذه النظرة لينتجوا على ضوئها أدباً جديداً خارجاً من صميم حياتنا ومعبراً عن مطامحنا ومثلنا، أدباً صحيحاً يعكس جوهر نفسيتنا الجميلة التّواقة للإبداع والتقدم والجمال ويرافقنا في سيرنا وتطورنا فيكون لنا منارة هادية بأنوارها وليس مرآة تعكس ما في مجتمعنا من حالات الفوضى والاستكانة والذل.. هذا الأدب الجديد الذي دعا إليه سعاده ليساهم في نهوض الأمة وفي التغلب على أمراضها وانقساماتها هو ليس أدب الكتب القائم على التقليد والتشويش والغموض والسطحية، بل هو أدب الحياة الذي يشعّ بالحب والحكمة والجمال والأمل بمواد تاريخ أمتنا ومواهبها وفلسفات أساطيرها وتعاليمها.. وهو ليس الأدب الرجعي الذليل، أدب المديح والتوسل والاستعطاف والبكاء وغير ذلك مما يحسنه الندّابون والنوّاحون، وليس أدب التعصب والتجاهل للحقائق العلمية بغاية الشهرة الشخصية والولع بالخلود، بل هو أدب المنتجين المبدعين الرفيع، أدب النوابغ والعباقرة الجدير بتقدير العالم وبالخلود… وهو ليس الأدب الفئوي الرخيص القائم على التحريض وإيقاظ العصبيات المذهبية وبثّ النعرات المفرّقة الذي يقضي على آمال الشعب ويقتل ثقته بنفسه بل هو أدب الحياة الجميلة الذي يدعو للوحدة والتسامح والتآخي في حياتنا الاجتماعية والذي ينشر الوعي ويضيء الظلمات وينبذ الجهل والتعصب والانقسامات.

هذا الشاعر، أيّها الحاضرون المحترمون، الذي تشرّب مبادئ الحياة الجديدة بدأ يبدع شعراً فيه فيض من الحب والحياة وفيه الأمل والإيمان، شعراً مجبولاً بالأوجاع والجراح الغاضبة التي لا تنحني ولا تلين، وممزوجاً بالعشق والحنين إلى حيفا.. إلى يافا.. إلى بيسان وإلى جنين.

ويعترف الرفيق فؤاد بالتحول الكبير في شعره وقصائده بعد انتمائه لمدرسة النهضة القومية الاجتماعية. فها هو يقول:

«قبل انتمائي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، كان قلبي يشبه شجرة محروقة ترمّدت أغصانها ويبست أوراقها، فكان شعري شعر الرماد واليأس. وكانت القصيدة أشبه ما تكون بخيوط دخان يطلقها بحّار قذفته الريح إلى جزيرة نائية فوجد نفسه وحيداً».

ويضيف،

«بعد انتمائي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي بدأت الحياة تعود إلى الشجرة المحروقة، وبدأ الأمل يزهر على الأغصان اليابسة، وصارت قصائدنا القومية الاجتماعية نفير الحياة في وجه الموت.. نفير الدم يعلن فجر النهضة السورية وانتصارها».

وبعد انتمائه إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي لم يعد شعر الرفيق فؤاد شعر اليأس والرماد.. بل أصبح شعراً مصارعاً متوهجاً بنار الغضب والتمرّد والثورة على الظلم والباطل والطغيان في زمن الخائفين والوجوه المستعارة، زمن الصمت والعبودية والاستسلام، زمن التمزق والتشرذم والضياع.

لقد طلّق لغة البكاء منذ تعرّف إلى صبية من بلادي اسمها سناء… و«منذ أن عرفتك يا تموز»، يقول شاعرنا، «صار لي وجه وصار لي هوية»… وأصبحت لشعره نكهة جديدة هي نكهة نبيذ الجراح المعتق في خوابي الألم، جراح الوطن التي تنزف دماً في العراق الأسير، في لبنان الجريح وفي الضفة الغربية والقطاع وحيفا ويافا وعكا وكل فلسطين..

وفي شعره نجده يعزف لحن الكرامة والفداء ويغني أجمل القصائد التي تحمل الأمل والرجاء… وتبشّر بفجر الحرية لأمته السورية، لأطفال الحجارة في فلسطين ولمدينة ترفض أن تنحني أو تموت، مدينة اسمها بيروت…

ونراه ممتطياً حصان نبوخذ نصر ورافعاً سيف سنحاريب ليمسح الحزن عن وجه العراق الحبيب روضة الحب ومهد الحضارة وجنة العشق والنخيل..

ونسمعه صوتاً صارخاً «انتفضوا وامتشقوا سيف محمد وكرباج المسيح»، صوتاً ملتهب الهدير في مقولة الحق والعدل والضمير وناقوساً يدق وجدان الجماهير… ينشد شعره انتصاراً لجرح تموز… لسعاده كي لا يبقى في وطنه عبيد أو سادة، سعاده حلم البطولة وعلامة الولادة العائد فكراً ومشعلاً وزوبعة ترفرف في ذرى صنين.

ديوان «كوني لي وطناً» يتضمن أجمل القصائد التي تعتصر القضية وتشرح قصة الوطن المصلوب.. قصائد مكتوبة بلغة الجرح والحنين وممزوجة بالحب والأمل في المستقبل وفي التحرير… قصائد كتبها عاشق أدماه العشق لمحبوبة تجسّدت في أرض المحبة والأنبياء وأرادها أن تكون له وطناً موحد الأجزاء، وطناً حراً ترتفع فيه قيم الحق والخير والجمال.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى