عزل ترامب: حتمي أم تكهّنات ورغبات؟

تنامت في الأيام القليلة الماضية الدعوات المنادية بالبدء في إجراءات عزل الرئيس الأميركي دونالد ترامب من منصبه، بعد تضييق السلطات القضائية الخيارات المتاحة أمامه لتورّطه بالفساد وانتهاك القوانين، عزّزها تصريح ترامب ولأول مرة بتحذيره من «مغبة» إقدام الأجهزة المعنية على تلك الخطوة مهدّداً بانعكاساتها السلبية على مجمل الإقتصاد الأميركي.

في المقابل، تراجعت حدة الاتهامات له بالتورّط مع روسيا بعد إدانة كلّ من مدير حملته الانتخابية السابق بول مانافورت، ومحاميه الخاص مايكل كوهين، في ذات اليوم وما كشفت يومية «وول ستريت جورنال» النقاب عن «تعاون» كاتم أسراره المالية آلان وايسيلبيرغ، مع سلطات التحقيق القضائية.

تسليط الأنظار على إدانة كلّ من «بول مانافورت ومايكل كوهين» وما واكبها من استنتاجات تنال من شأن الرئيس ترامب وتقوّض ما تبقى له من مصداقية كانت الحجة التي حجبت خلفها جائزة «السمكة الكبيرة» في مؤسسة ترامب التجارية، والتي تملك كنزاً عميقاً من الأسرار، كما تبيّن سريعاً.

تربط وايسيلبيرغ بالرئيس ترامب علاقة وثيقة بدأت منذ عام 1970، وقبوله العمل مع ترامب الأب، فريد، عقب تخرّجه الجامعي، ومن ثم تدرّج تلقائياً للعمل مع دونالد ترامب في منصب «المسؤول المالي الأول». كما أنّ نجل وايسيلبيرغ، باري، يعمل بالتوازي في أحد أفرع مؤسسة ترامب بينما نجله الثاني «جاك» كان مسؤولاً في إحدى كبريات المؤسسات المالية في نيويورك، لادار كابيتول، والتي كانت المرجع الأول لتمويل نشاطات دونالد ترامب التجارية بعد انكفاء مؤسسات أخرى عن التعامل معه «على خلفية إعلانه مراراً عن الإفلاس».

وايسيلبيرغ الأب يعدّ «السمكة الكبرى،» كما وصفته أسبوعية «ذي نيويوركر»، 24 آب الحالي، في جعبة سلطات التحقيق القضائية لما يمتلكه من معلومات موثقة «قد تدين» كبار رجال الأعمال ومحامين وآخرين، والذين بدأوا يستشعرون منبت الخطر على استدعائهم للتعاون مع إجراءات التحقيق ضدّ ترامب ومؤسسته التجارية.

في غضون أيام معدودة اتخذت المطالبة بالبدء في إجراءات عزل الرئيس عن منصبه قوة دفع جديدة «حقيقية،» تنبئ بانهيار مؤسسته الاقتصادية والمشرفين عليها، بمن فيهم أنجاله. بيد أنّ المضي في ذلك أمر محفوف بمخاطر متعدّدة، ليس في أبعاد السمعة والهيبة الأميركية على الصعيد العالمي فحسب، بل لما تستحضره من إجراءات مماثلة تمّ بموجبها قبول الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون التنحّي، 1973، عوضاً عن مواجهة تداعيات عزل ومساءلة غير محدّدة الأفق.

في هذا الصدد، يرجّح البعض بقاء الرئيس ترامب في منصبه لحين جولة الانتخابات الرئاسية المقبلة، 2020، وحظوظه في الفوز مرة أخرى لا زالت واردة بحكم تماسك كتلته الانتخابية مقابل تشظي وانقسام وتردّد المعسكر المناويء له.

ما يعزز فرضية فوزه بالانتخابات المقبلة هو التصريح الذي أدلى به رئيس لجنة الانتخابات الفيدرالية، برادلي سميث، جازماً بأنّ ما نسب للرئيس ترامب بدفع رشاوى لعشيقاته لا يعدّ انتهاكا للقوانين السارية، حتى في ظلّ اعترافات محاميه مايكل كوهين بالذنب.

وأوضح سميث ليومية «واشنطن بوست»، 22 آب الحالي، أنه بصرف النظر عن حقيقة «الصفقة» التي عقدها كوهين مع السلطات القضائية، فإنّ الأموال التي ذهبت لهاتين العشيقتين «لا تصنّف بأنها مصروفات للحملة الانتخابية.. ولا تندرج تحت بند الإغراء بهدف التأثير على نتائج الحملة الانتخابية».

يُشار إلى أنّ القوانين الحالية الناظمة للحملات الانتخابية وطرق صرف أموالها يشوبها الكثير من الضبابية لا سيما أنّ تعريف «الاستخدام الخاص.. يشير إلى أيّ عمل يؤدي إلى استيفاء وإنجاز التزامات ووعود أو تكلفة لشخص ما..» لصالح الحملة الانتخابية فضلاً عن الثغرات المتعددة التي تتيح للشركات والمؤسسات الخاصة إنفاق أموال لا يحدّها سقف على ايّ مرشح للحملة الانتخابية.

في هذا الصدد بالذات، سبق للجنة الانتخابات الفيدرالية أن وجهت تهماً مشابهة، بانتهاك القوانين السارية، لرؤساء سابقين من بينهم بيل كلينتون وجورج بوش الإبن وباراك اوباما، وتمّ تسوية الأمر بدفعهم غرامات مالية مقابل التراجع عن تقديم لائحة اتهامات جنائية.

سيناريوات عزل الرئيس

يستند فريق المؤيدين لإجراءات العزل على نصوص مادة الدستور الثانية التي تجيز «عزل الرئيس .. إذا وُجّهت تهم بارتكاب الخيانة العظمى أو تلقي رشاوى أو التورّط في جرائم كبرى أو جنح خطيرة، وتمّت الإدانة وفق تلك التهم». الحلقة المركزية المفقودة في هذه المرحلة هي دور المحكمة العليا المنقسمة عمودياً، 4-4، والتي لم تبتّ من قبل فيما إذا كان ممكناً توجيه اتهام لرئيس البلاد وهو على رأس منصبه.

إضافة لذلك القدر من «ضبابية» النصوص حصّنت المؤسسة الحاكمة نفسها بمذكرة أعدّتها وزارة العدل عام 2000 أوجزت فيها أنّ «الإجراءات الجنائية ضدّ الرئيس ستتعارض على نحو لا يمكن السماح به مع قدرته على أداء مهام وظيفته».

القرار النهائي بشأن العزل من عدمه يعود لمجلسي الكونغرس: تبني مجلس النواب بأغلبية بسيطة 50+1 الدعوة للعزل ورفع توصية بها لمجلس الشيوخ، الذي إنْ وافق على النظر بها فيحتاج لأغلبية ثلثي الأعضاء 67 للبت فيها. في ظلّ التوازنات الراهنة، أغلبية المجلسين هي بيد الحزب الجمهوري، فمن المستبعد أن يقدم الحزب على تسجيل سابقة قانونية بأنّ رئيس البلاد المنتمي له يقف مهدّداً بإجراءات العزل، فضلاً عن عدم التيقن من توفر الأصوات المطلوبة للمضي بذلك.

لو ذهبنا بعيداً في الافتراض فإنّ المنصب الرئاسي سيعود تلقائياً إلى نائب الرئيس مايك بينس، بعد تكليفه رسمياً بذلك من الكونغرس. لا تختلف الرؤى حول توجهات مايك بينس السياسية والفكرية بأنه ينتمي إلى التيار الديني المتشدّد من «الانجيليين،» وينفذ أجندة التطرف والتعصب ضدّ كافة الشرائح الاجتماعية التي لا تجمعه بها قواسم مشتركة.

المؤرخ الأميركي الشهير آلان ليكتمان، واكب الانتخابات الرئاسية عن كثب منذ عام 1981 وتنبّأ بصحة نتائج الانتخابات منذ ذاك التاريخ، مما أكسبه مصداقية داخل المؤسسة السياسية. أنجز ليكتمان كتاباً جديداً بعنوان «شروط العزل»، استعرض فيه جملة الأسباب الموجبة بالعزل لا سيما «تضارب المصالح بين الأعمال التجارية والسياسية.. وما قد يؤدّي إلى تدفق فائدة مالية من دولة أخرى» يعدّ انتهاكاً لدستور البلاد. وأضاف ليكتمان أنّ نحو 20 بلداً أجنبياً هي شريكة في مؤسسة ترامب.

ليكتمان «يرجّح» إنجاز إجراءات العزل، هذه المرة، ضدّ ترامب، على الرغم من تحذير شبه إجماع بين أوساط المحللين السياسيين لصعوبة تنفيذها «إلا في حال اقترافه جرائم جديدة»، والتشديد هنا على «جديدة» إذ لا يوجد أيّ دلائل تشير إلى اقتراف ترامب «جرائم» تستدعي العزل، كما يعتقدون. وذلك على الرغم من أنّ القيادات التقليدية في الحزب الجمهوري لا تعتبر ترامب «جمهورياً كلاسيكياً»، وغير مفيد لها على المديين القصير والمتوسط، بيد أنها ليست على استعداد لعزله عشية الانتخابات التشريعية المقبلة، تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.

كما تدرك تلك القيادات في الحزب الجمهوري التداعيات السياسية في حال المضيّ بإجراءات العزل لما تختزنه ذاكرتها من تجربة ليست بالبعيدة نسبياً، حينما أصرّ الحزب على بدء الإجراءات القانونية ضدّ الرئيس بيل كلينتون آنذاك، 1998، وما أظهرته القاعدة الانتخابية في الانتخابات التشريعية/ النصفية من ضيق ذرعها بتوجهات الكونغرس لتسجيل نصر سياسي ضيّق الأفق عوضاً عن تنفيذ سياسات تعالج التحديات التي يواجهها المجتمع. وبالنتيجة، خسر الحزب الجمهوري أغلبيته النيابية في لحظة تشدّد سياسي غير مبرّر.

«خيار نيكسون»

من بين الخيارات الأخرى المتوفرة، نظرياً على الأقلّ، ما يعتبره البعض «خيار نيكسون»، أيّ تقديم الرئيس استقالته طوعياً. بيد أنّ التداعيات السياسية آنذاك على الحزب الجمهوري كانت بمثابة إعصار ضرب بنيته وهز سمعته جراء تضافر قيادات الحزبين بمطالبة نيكسون بالاستقالة.

أما حظوظ رضوخ الرئيس ترامب لمطالب الاستقالة فهي ضئيلة في أفضل الأحوال، فضلاً عن غياب أيّ عضو كونغرس من الحزب الجمهوري يدعم تنحية أو عزل الرئيس عن منصبه بخلاف الظروف السياسية التي رافقت استقالة نيكسون.

الخيار الآخر بعيد المدى يكمن في تلبية مطالب تردّدت مراراً بضرورة تطبيق مادة التعديل الدستوري الخامسة والعشرين، التي من شأنها تفادي الجدل السياسي والضغائن الدفينة المرافقة لإجراءات العزل.

صادق الكونغرس بمجلسيه على تلك المادة في أعقاب اغتيال الرئيس جون كنيدي والتي تتيح الانتقال السلمي للسلطات الرئاسية من الرئيس إلى نائبه على الفور «في حال الوفاة، أو العزل، أو الاستقالة، أو العجز عن القيام بمهامه».

أما تطبيق المادة فقد تمّت تجربتها سريعاً بعد فضيحة ووترغيت: تعيين جيرالد فورد نائباً للرئيس بعد تنحية النائب المنتخب سبيرو آغنو تسلّم فورد غير المنتخب مهام الرئيس بعد استقالة نيكسون وتعيينه نيلسون روكفلر نائباً للرئيس بعد شغر المنصب.

الاحتمال الأقرب للتطبيق، في حال قرر الحزب الجمهوري المضي بعزل ترامب، هو التعويل على مبادرة يقوم بها نائبه مايك بينس لإقناع أغلبية وزراء الحكومة الحالية إعلان الرئيس ترامب غير مؤهّل للقيام بصلاحياته، واستجابة الكونغرس لذلك بتعيينه رسمياً رئيساً للبلاد. أما إقدام بينس على تلك الخطوة المحفوفة بمخاطر جمّى لا تتعدّى الفرضية السياسية ليس إلا.

في ثنايا مادة التعديل المذكورة يكمن نقيضها العملي: تسمح للرئيس مواجهة الاتهامات له بفقدان أهلية التحكم بالمنصب، مما يضع الرئيس ترامب، في نظر قاعدته الانتخابية المتماسكة، في موقع الهجوم بدل الدفاع.

الخيار الأخير، نظرياً، هو العمل خارج نطاق القانون والأسس الدستورية، وهو خيار مستبعد في أغلب الأحوال، مما يقتضي تحشيد الشعب الأميركي للتظاهر ضدّ الرئيس ترامب والتداعيات المرافقة له وعلى رأسها فقدان السلطات زمام التحكم بالأمور، فضلاً عن الدور المناط بالقوات العسكرية التي لم يجرِ امتحان ولائها ضدّ ركن محوري من أركان السلطة من قبل.

بل ويمكننا القول إنّ الدعم والتأييد الذي تكنّه المؤسسة الأمنية، العسكرية والاستخباراتية والشرطة المدنية، للرئيس ترامب أمر لا يختلف عليه أحد وإنْ كانت غير شاملة مما يقوّض نجاح تداول الفرضية عينها. هذا فضلاً عن رفض المؤسسة الحاكمة برمّتها مواجهة احتجاجات واضطرابات اجتماعية قد تفضي إلى ما لا يحمد عقباها.

أمام تلك اللوحة من الفرضيات والخيارات من المستبعد جداً تجاوب الرئيس ترامب مع دعوات الفريق الآخر له بتقديم استقالته، أو نجاح الفريق المناوئ له في النيل منه قبل الانتخابات التشريعية. أما ما يخبّئه القدر في ما بعد، فلكلّ حادث حديث والتغيّرات الظرفية عينها ستفرض معادلات جديدة. خلاصة الأمر أنّ الرئيس ترامب باقٍ في منصبه لأجل قريب، على أقلّ تقدير.

مركز الدراسات الأميركية والعربية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى