الاستقلال والطرابيش!

منذ مدّة ليست ببعيدة، قرأت لجبران خليل جبران كتاباً ممّا جاء فيه: «أنّ أديباً قام يعترض ويحتج على ربّان وموظفي باخرة فرنسية أقلته من سورية إلى مصر، ذلك لأنّ هؤلاء أجبروه أو حاولوا إجباره على خلع طربوشه أثناء جلوسه إلى مائدة الطعام»، وكلّنا يعلم أن خلع القبعات تحت كلّ سقف عادة مرعية عند الغربيّين.. وقد أُعجبت بهذا الاحتجاج الذي يؤكد تمسك الشرقي برمز من رموز حياته الخاصة. أجل أُعجبت بتمسكه ببعض مزاعمه قابضاً ولو على ظلّ من ظلال عاداته القومية. ولكنّ إعجابي هذا لا ولن يمحو ما وراءه من الحقائق الخشنة المستتبة المتشبثة بذاتية الشرقي ومنازع الشرق ومزاعمه. لو فكّر ذلك الأديب الذي استصعب خلع طربوشه في الباخرة الإفرنجية بأنّ ذلك الطربوش الشريف قد صنع في معمل إفرنجي لهان عليه خلعه في أيّ مكان وفي أيّة باخرة! لو فكّر أديبنا بأنّ الاستقلال الشخصي في الأمور الصغيرة كان وسيكون رهن الاستقلال الفكري والاستقلال الصناعي. وهما كبيران، لخلع طربوشه ممتثلاً صامتاً! لو فكّر صاحبنا بأنّ الأمة المستعبدة بروحها وعقليتها لا تستطيع أن تكون حرّة بملابسها وعاداتها! لو فكّر أديبنا بأنّ جدّه السوري كان يبحر إلى مصر على ظهر مركب سوري مرتدياً ثوباً غزلته وحاكته وخاطته الأيادي السورية لما تردّى بطلنا الحرّ إلّا بالملابس المصنوعة في بلاده ولما ركب سوى سفينة ذات ربّان سوري وبحّارة سوريين! مصاب أديبنا الشجاع كمصاب معظمنا فقد اعترض على النتائج ولم يحفل بالأسباب، فتناولته الأعراض قبل أن يستميله الجوهر. وهذا شأن أكثر الشرقيين الذين يأبون أن يكونوا شرقييّن إلّا بتوافه الأمور وصغائرها مع أنهم يفاخرون بما اقتبسوه من الغربيّين ممّا ليس بتافه أو صغير! فالحياة ليست دوماً أحلاماً ميتافيزيقية خدّاعة، هناك مَن أجاد التعلم من الدروس السابقة وجعل من حياته قدوى للغير. في الشرق اليوم موكبان: موكب من عجائز محدودبي الظهور يسيرون متوكئين على العصي العوجاء، ويلهثون منهوكين مع أنّهم ينحدرون من الأعالي إلى المنخفضات، وموكب من فتيان يتراكضون كأنّ في أرجلهم أجنحة، ويهلّلون كأنّ في حناجرهم أوتاراً، وينتهبون العقبات كأنّ في جبهات الجبال قوّة تجذبهم وسحراً يختلب الألباب. نقول لأديبنا ولجميع المتطربشين: ألا فاصنعوا طرابيشكم بأيديكم ثمّ تخيروا ما تفعلونه بطرابيشكم على ظهر الباخرة أو على قمّة الجبل أو في جلسة مجلس الأمن أو حتى تحت قبّة البرلمان الذي تمثلونه ويمثلكم. والشائع والمتعارف عليه أنّ من بيدهم الحل وأغلبهم يرتدون الطرابيش مشغولون بحسم الصراع وتحديد ماهيته مستقبلاً، وهذا واجبهم ولا تثريب على عملهم، ولكنهم لا يضعون في حساباتهم النتائج المستقبلية لتداعيات ما بعد انتهاء الازمة، مع أنّ هذه التداعيات هي الفصل المؤجل من الأزمة والذي سيفرض نفسه ولا محالة على الجميع متى بدأ بإزاحة الطرابيش…

صباح برجس العلي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى