نبتة الغصن اليَتِيم لساحِر الأبجديّة المُبْدِع الكاتب طلال مرتضى

د. فايزة حلمي

أستعير رصاص قلمه، لأرسم بعضاً مِن ملامِح روحه، التي أبَى إلا أن يُهِمْهَا في طُرقات الغُربة الممتدة عُمْرا، مَنْزُوعَة الدسَم، مَفطومَة قَبْل أن تُولَد، مِن حَنان أم لم يَلِس حُبّها، إلا في غيابات جُب احتواه تِسعة أشهر، رُوحه المَقْطورة لكل ما مِن شأنه إيصالها لِبَر أمان، لم تَصِله بَعد حتى اللحظة.

غُربة روحه التي بدأت منذ الصرخة الأولى التي نَعَى فيها مدفأته، وحمايته وملاذه، والتي نزعت عنه الريش الزُغبي النابت بطفولته، طَيّرَته دون سابِق إخطار، لهذا الصغير الذي جلدت روحه الأحداث، فتناثرت شظايا جارحة، ولكن بالحيّز الهلامي الخارجي نفسه الذي سرعان ما مُنِحَ طبقة جليديّة خاصة مانعة لتناثرها خارجياً، فظلّت رهينته، وكأن عِناية إلهيّة أرادت لهذا الكيان البلّوري المُتفَتّت، الحياة بِحَضانِة انكساراته.

هذي الروح حامِلة آهاتها المكتومة المُوُجِعة، مضت مُتطايرة بمسارات الحياة، كورقة خريفيّة الألوان، بعضها زاهٍ وأجزاء منها مُحْتَرِق تُطيّرها رياح الأحداث الشديدة أحياناً كصفعات لا تستطيع لها رَداً حينما تأتي مِن أسياد السُلْطة… سُلطة مَن يَملك المَصِير، سُلطة القوّة، سُلطة الغِواية، سُلطة الظروف، وبكل تنّوّعاتها لا تستطيع رَداً لطغيانها الحُلو أو المُرّ، وأحايين أخرى تستطيع الروح المُثْقَلة بمعاناتها مقاومة الزَفْرات الهوائيّة بوجهها، وتتحمّل برودتها أو سخونتها.. بِفِعل نشاط كُرَات الدم البيضاء التي تكوّنت كجهاز مناعي خارجي.

طلال مُرتضى الورقة التي تُرِكَت لكثيرين، يستغلّون أسْطُرها مُنْذ عجينتها الأوّليّة، حتى امتلأت، دونما شكْوَى أو تَمَلمل، مِن وخزات السنين الحادة، المُنتَهِكة لِكل أعراف المَخْطوطات، وكأن الألوان الطيفية التي تَظهَر بأفق الروح الطفوليّة تعمل كإلهاء تنويري لآلام، ما لها تَحَمّل إلا ممزوجة بِخَمر النشوة، التي أبْكَرَت حَصَاد حقول الخِبرة، فسابَق شبابَه – صِباه وسَبَقه، حتى وَشَت بَردِيّة ملامِح الصَبِي بهيروغليفيّة خِبرته، وصدحت وتريّات خطواته المتطاحنة بمنصَهِرات سبائكه الروحيّة، كما لو أكسبته أعراض «البروجيريا» وهي مظاهر التقدم بالعُمر على وجوه الأطفال ، لكنها هنا بسبب جِين بِيئي نادر، انتهى به إلى خِبرات مُتراكمة.

هذه الخِبرات التي مَلّكته أرضاً كالتي داخل جغرافية عَقلِه، وسهوب ما لَها أفق، داخل فضاء روحه، وجعلته مَلكاً بِغيْر صولجان، لكل المُدن النساء التي تَحتل وثير مقاعدها، بِمَسَامه، هي نفسها التي أضحته مُغترباً، ولكن بصحراء روحه، التي لَم تَحِنّ للفِطام يوماً عَن هَجِير ذكرياتها، ولَم تستظل منها، بل استأنستها وروّضتها حتى صارت بَرْداً وسَلاماً، فحقنتها بأوردة الأوراق. أحباراً زرقاء، مُخَضّبة بِنَوازِف جُدُر الذاكرة، حين تُلامِسها كِسْرِة ذِكْرى، غائرة دَفْنَا بالأعماق، تطايرت كشَظية هاربة مِن مَنْفاها، شَقّت طريقها فاتبعتها ظِلال أحداثها تُوئِدها، كمَن خَطفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَه شهابٌ ثَاقِبٌ.

هاتِهِ الروح الآنية، ماسيّة النقاء، فَناريّة الضِياء، أفقِيّة المَدَى، خَيْلِيّة الخُطى، بقدر ما أُلْجِمَت تَحَرّكاتها بالأحداث، وأُسْرِجَت صهْوتها بالخطوب، وكُمّمَ أنينها بِسِياط الأرباب، وألْتُهِمَ صِباها بالمتتاليات والمتناوبات، بِقَدْر ما أطلقت آهة بركانيّة الحِمَم، كَمِهماز حُرّيّة، لِعبور حدود ما يباغتها مُطاوَلةً أحد، سابَقت الروح المُتألّمة، مُطارديها الكامنين بسراديب أوْجاعها، بِغْيَة أن تَقْتات حياتهم لِتُحْيي نبتتها مِن يقين مَوات سابَقَتْهم، سابَقَتهم فَسَبقَتْهم، وصَدَق القَول «جَرْى المُذَكِّيَاتِ غِلاَبٌ».

ونَبـَت الغُصن يتيماً وتتوأم مع الليل قبل اشتداد حلكته، فاستملحته الأقمار، مُتوسّدة مُتّسعات فضائه، وأسْقَته عصارة حياة.. لبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِّلشَّارِبِينَ… ألْحَقَه بقاطِرة النُضْج، بَكّيراً عَن أوانه، اشتد بالأيّام رغماً عن إثقالها على كاهله، بكل مُصادفاتها التي كانت دانية قطوفها، فأكل مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ، وامتصّ رحيق كل منها حتى مُنتهاه، وسَاقتَه إحدى صُدَفِه لِرَوض به مِن زهور المؤلّفَات، ما أكْنَزَه بشَرَابٍ مخْتَلِفة أَلْوَانُهُ، أمْكَنه أن يَسْحِر حروف الأبجديّة فتُدْخِلَهُ مغاراتها وتُسْلِمَهُ مفاتيح أسرارها، فيغْدُو حارساً أميناً مُخْلِصاً لها، حينئذ تُسَجّل لآلئها باسمه المُضيء ظِلّه بِكل حَد جُغْرافي، وَشْماً مُتَفَرّداً سَرمَدِيّ الأثر يحمِل اسم طلال مُرتضى.

طلال مرتضى:

الاسم الحَرَكي لسَاحر المَعاني التي تُطوّع نَفْسَها انصِهاراً داخل بَوْتقة أحباره، دوُنَما بادِرة استدعاء منه لتنساب مُصَافِحة الأسطر في تشكيلات أسطوريّة البداوة كأشبه ما تكون بالاختبارات النفسية الإسقاطية تلوح لكل روح كما تبغى لولا ترانيم حَريريّة الأوْتار كإشارة إرشادية إلى مغاريّة المعاني أو كناقوس المطر يدِنّ بأرواحنا أن ها هنا بعيداً عن متاهات الدروب التوهّميّة أن ها هنا دَوَال الحكاية، ومَقْصد المرويّة.

طلال مرتضى… بكلّ زواياه الإنسانية والفنية اسم في المَجاز لكلّ ما هو مُهيّأ للسمو.

مستشارة نفسية وتربوية/ مصر

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى