تيار علم الآثار الجديد في الكيان «الإسرائيلي»

فاطمة الموسى

العهد القديم كوثيقة تاريخية مزعومة، كان مرجعية الدراسات الاستشراقية الغربية بمختلف مدارسها، علّها تستطيع إيجاد شرعية تاريخية لوجود اليهود في فلسطين، وتناسى الكتاب اليهود أنّ اليهود كانوا متناثرين بين الأمم، قبل أن تتمكّن الصهيونية من جذبهم نحو مشروعها، ومن ثمّ احتلالهم لأرض كانت مملوكة ومعمّرة من قبل شعب آخر، حاولوا لسنوات عدة وما زالوا يقومون بتهويد وطمس الآثار في فلسطين، ومعاكسة وتزوير الحقائق التاريخية، لكن الحقيقة لمعت كشمس ساطعة على حدّ السيف «لا توجد آثار يهودية في فلسطين»…

من هنا نسأل: من هم المؤرّخون الجدد؟ وما هي توجهاتهم؟

هل هم منصفون حقاً إذا ما أرادوا صياغة الأحداث مجدّداً بصورتها الحقيقية؟!

هل هم فعلاً منتقدون لسياسة الكيان الصهيوني؟!

بعد سبعين عاماً من الحفريات المكثفة في أرض فلسطين توصل علماء الآثار إلى نتيجة مخيفة، «لم يكن هناك شيء على الإطلاق، حكايات الآباء مجرد أساطير، لم نهبط من مصر، ولم نصعد من هناك، لم نحتلّ فلسطين، ولا ذكر لإمبراطورية داوود وسليمان»… هذه خلاصة ما قاله عالم الآثار اليهودي وأستاذ قسم حضارة الشرق القديم في جامعة تل أبيب البروفيسور زئيف هرتسوغ في تقرير له بعنوان: «التوراة: لا إثباتات على الأرض».

أما الكاتب اليهودي شلوموساند فقد فنّد أسطورة اختراع الشعب اليهودي، فاليهود ليس لهم أيّ ارتباط تاريخي بأرض فلسطين، وهم شيء خيالي تمّ اختراعه بأثر رجعي، مستنداً في ذلك إلى أبحاث ودراسات تاريخية وأثرية مكثفة، كما اعترف بتحريف ترجمات بعض الكتب، بما فيها العهد القديم، التي أظهرت ترجمة لسفر المكابيين الأول عام 2004، ما أسمته «أرض إسرائيل» في المقدّمة وفي الهوامش 156 مرة… وكأنهم شعب آت من الكتاب المقدس.

كتابة تاريخ يهودي جديد، يخرج عن نطاق الرؤية الصهيونية، ليس أمراً سهلاً، فأثناء عملية كتابة تاريخ المنطقة تمّ ادخال مصطلح «أرض إسرائيل» كأداة توجيه، ورافعة للتخيل الجغرافي للاستيطان الصهيوني، وشيفرة خطابية تُستخدم في الكتب المدرسية وأطروحات الدكتوراه، حتى في الأدب الرفيع والشعر والغناء، والجغرافيا السياسية، ناهيك عن مجلدات حول «أرض إسرائيل» ما قبل التاريخ، وحول «أرض إسرائيل» في فترة الحكم الصليبي، المصطفة على رفوف الدكاكين والمكتبات الجامعية، والأمر لم يقف عند هذا الحدّ، فالمحاولات مستمرّة لاستيلاء الدولة الصهيونية العنصرية على فلسطين عام 1948، التي ليست لهم أيّ أصول عرقية في فلسطين التاريخية… كلّ ذلك يدفعنا للبحث في ماهية ذلك الطفل اللقيط، وتلك «الخرافة».

بدأت ظاهرة المؤرخين الجدد أواخر ثمانينات القرن العشرين، ويعود ظهورها إلى إطلاعهم على الوثائق الموجودة في الأرشيف الوطني الصهيوني، فالمؤرّخون الجدد هم مجموعة من اليهود، قاموا بإعطاء رواية جديدة لما حدث في السنوات الأخيرة، والأحداث الحقيقية التي رافقت أحلام دولة اليهود، مناقضين بذلك الرواية الرسمية الصهيونية، ومعتمدين على وثائق ومستندات تمّ كشفها في أرشيف الصهاينة والأمم المتحدة وبريطانيا وغيرها.

يقول جواد الجعبري الباحث الفلسطيني المختصّ في الشؤون الصهيونية، «عام 1988، وبعد أربعين عاماً من إنشائها، كشف الصهاينة عما أسموه «أرشيفهم الوطني»، وهكذا أصبحوا أمام جيل جديد من الباحثين المستندين على وثائق رسمية، وأدّى ذلك إلى أن يراجع بعض المؤرّخين مثل بيني موريس ما قدّمه من رواية حول تهجير الفلسطينيين عام 1948، إذاً ظهر معظم المؤرّخين الجدد، خارج تجمّع الصهاينة في فلسطين، وبعيداً عن المؤسسة الأكاديمية الصهيونية، كما ظهر معهم مفهوم ما بعد الصهيونية، وتزامناً مع ظهور المؤرّخين الجديد، ظهر «علم الاجتماع الجديد»، المتماهي مع ما بعد الصهيونية، والذي اقترح بأن تتمّ إعادة فحص المصطلحات الأساسية للمجتمع الصهيوني .

يتعرّض عدد من المؤرّخين الجدد إلى حملات إعلامية معارضة لهم، كما تلاحقهم إلى الجامعات والمعاهد الدراسية العليا التي يعملون فيها داخل تجمع الصهاينة فلسطين ، وقد أثارت دراساتهم المنشورة خارج «إسرائيل» وباللغة الانجليزية، ردود فعل أكاديمية وإعلامية دفعت بمؤرّخين وباحثين غربيين إلى طرح دراسات جديدة حول أحداث النكبة الفلسطينية في العام 1948.

اصطدم فكر المؤرّخين الجدد مع السياسات الصهيونية الساعية لتهويد كلّ أثر في فلسطين، ولو كان كنعانياً، هذا الحراك القائم الآن يجرّد الدوائر الصهيونية من الشرعية التاريخية، نتيجة انعدام الأدلة الأثرية بشكل قطعي وجازم، فآثار المملكة الموحدة لداوود وسليمان لا أثر لها، وهيكل سليمان المزعوم لا وجود له، ومن هنا نستطيع تقديم إجابات على كثير من الأسئلة الغائبة التي قد تجول في خاطر أيّ باحث عن الحقيقة وجد في اليهودية مبتغاه، فها هو توماس طومسون يقول:

«عندما نبدأ بإسرائيل كما نفهم المصطلح، إسرائيل التي نعرفها من الكتاب، يلزمنا أن نعترف بأنّ فهمنا إسرائيل كشعب وكأمة لا علاقة له بأيّ إسرائيل تاريخية معروفة، إسرائيل التي نعرفها قد تمّ اختلاقها عن طريق الأدبيات التوراتية».

وفي تفكيكه للأساطير الصهيونية يرى الباحث اليهودي أوسيكشن: «إنه ليصعب على روحي الرومانسية أن تقبل بهذه الوقائع/ الوقائع التوراتية لرؤية مملكة داود وسليمان/ أرجو من الملك سليمان أن يسامحني.

أما الباحث أمنون بن تور فقد نقب في موقع مدينة حاصور الفلسطينية وبنتيجة البحث توصل للقول:

إنّ فريقاً من الباحثين لا يكتفي بوصف إنجازات داود وسليمان على أنها نوع من المبالغات النصية في كتاب التوراة… فهؤلاء الملوك كانوا شخصيات خيالية أو على أحسن تقدير مشايخ قبليين محليين.

وإذا ما تابعنا في استعراض دراسات بعض المؤرّخين الجدد، تلفتنا طبيعة الحراك المستمرّ بينهم وبين التيار المحافظ التوراتي، فالباحث نحمان أبيجاد في أطروحته البحثية في موقع فلسطين «نصب يد أبيشالوم»، – وأبيشالوم نجل داود التوراتي، كان متمرّداً على والده، وأقامه النصب لنفسه توصل في أطروحته تلك إلى أنّ ذلك النصب هو أحد أهمّ عشرين موقع أثري مقدس عند اليهود، مستنداً بذلك على الذهنية التوراتية الجاهزة، والتي يسعى الباحثون الصهاينة لإثباتها على أرض الواقع، وبهذا أصبح نصب يد أبيشالوم مزاراً شعبياً لليهود يلعنون فيه الأبناء المتمرّدين على آبائهم.

في إطار ذلك الحراك المستمرّ، جاء على لسان باحث يهودي من كبار آثارييهم هو البروفيسور جدعون بروستر ما ينافي أطروحة بيحمان أبيجاد غير المستندة إلى المعطيات الأثرية، حيث أكد جدعون أنه عثر على معطيات مادية تؤكد أن نصب «يد أبيشالوم» الواردة قصته في التوراة، أوما يطلق عليه الفلسطينيون اسم «طنطورة فرعون»، أنه أثر مقدس للمسيحيين المشرقيين في فلسطين وليس لليهود، وهذا الموقع المسيحي يعود للقرن الرابع للميلاد، يحمل كتابة يونانية، ظهرت ترجمتها رغم محاولات الزمن محو بعض آثارها «هذا هو ضريح القديس زخريا الكاهن، المؤمن، والد يوحنا/ يوحنا المعمدان.

ما بين آمال اليهود في إثبات تاريخية التوراة وبين الحقائق الأثرية التي تتكشف على أرض الواقع، يكشف أحمد الدبش تزوير روبنسون عشرات المواقع القديمة، بمساعدة سميث، الذي وضع أثناء عمله مبشراً، قائمة بأسماء لقرى فلسطين. فقرية عناتا لم تكن فيما يبدو إلا عنتوت الكتابية مسقط رأس النبي إرميا، و جباع كانت جبعة إحدى مدن بنيامين، و مخماس بدت مناسبة تماماً لساحة معركة شاؤل في مخماس ، و بيتن كانت بيت إيل محطة توقف إبراهيم، ومنطقة الجب هي جبعون الكتابية حيث قام يوشع بتجميد الشمس في مكانها».

بعد عملية تغيير أسماء المدن والبلدات من قبل المؤسسات الصهيونية في فلسطين، جاءت الخطوة التالية بتأسيس صندوق لاستكشاف أرض فلسطين، بهدف تكثيف إرسال بعثات أخرى لإتمام ما بدأه كلّ من روبنسون وسميث، فتوالت البعثات الاستكشافية، وصاروا على نهج سلفهم، وقاموا بتأويل أيّ نقش أو حجر عثروا عليه وألبسوه لبوساً توراتياً.

ويعتقد غال ليفي وهو باحث شاب يدرس في الجامعة المفتوحة الصهيونية، أنّ فتح الأرشيف الوطني ليس السبب الوحيد الذي يفسّر صعود المؤرّخين الجدد، ويقول: إنّ سفر هؤلاء المؤرّخين ودراستهم في الخارج غيّرت نظرتهم، وجعلتهم يطرحون أسئلة جديدة.

وهكذا توصل المؤرّخون إلى الطعن بالرواية الرسمية واتفقوا على كونها مركبة من مجموعة مقولات باطلة، واتفقوا على تسميتها بـ «الأساطير الصهيونية» كون الصهيونية نجحت في ربط كلّ كذبة من أكاذيبها بواحدة من الأساطير اليهودية، وذلك حتى تقنع الرواية الرسمية بالمنطق التاريخي الموحد.

بني موريس أحد أبرز المؤرّخين الجدد الذي يعرّف نفسه بأنه صهيوني وهو معروف بين زملائه بأنه الأقلّ اهتماماً بالسياسة، وهو باحث ومراسل ميداني وصحافي، يقول: إنّ مهمّته تتمثل بعرض المعلومات ويترك للقارئ استخلاص النتائج، فمثلاً: «نحن الإسرائيليين كنا طيّبين، لكننا قمنا بأفعال مشينة وبشعة كبيرة، كنا أبرياء، لكننا نشرنا الكثير من الأكاذيب وأنصاف الحقائق، التي أقنعنا أنفسنا وأقنعنا العالم بها، نحن الذين ولدنا لاحقاً بعد إنشاء الدولة عرفنا كلّ الحقائق الآن بعد أن عرض علينا زعماؤنا الجوانب الإيجابية فقط من تاريخ «إسرائيل»، لكن للأسف كانت ثمة فصول سوداء لم نسمع شيئاً عنها، لقد كذبوا علينا عندما أخبرونا أنّ عرب اللد والرملة طلبوا مغادرة بيوتهم بمحض إرادتهم، وكذبوا علينا عندما أبلغونا، أنّ الدول العربية أرادت تدميرنا، وأننا كنا الوحيدين الذين نريد السلام طوال الوقت، وكذبوا عندما قالوا: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وكذبة الأكاذيب التي سمّوها «الاستقلال»، ويضيف بني موريس «لقد حان وقت معرفة الحقيقة، كلّ الحقيقة، وهذه مهمة ملقاة على عاتقنا نحن المؤرّخين الجدد».

إذن هناك شرخ في رواية التوراة للتاريخ القديم، كشفته الأبحاث والحفريات الأثرية، وإلى اليوم لم تخرج حركة المؤرّخين الجدد عن كونها مجموعة أكاديميين يجرون بحوثاً، للتحقق من بعض الملابسات والتفاصيل الصهيونية، ونحن لسنا بحاجة إلى معرفة تاريخ اليهود ولا الصهاينة، نحن بحاجة إلى تاريخ للأحداث المعاصرة.

المراجع:

ـ أحمد الدبش، اختطاف أورشليم، دار النايا، دمشق، 2013.

ـ د. بشار خليف العبرانيون في تاريخ المشرق العربي القديم 2004 دار الرائي دمشق.

ـ توماس طومسون الماضي الخرافي سلسة عالم المعرفة الكويتية.

ـ موريس بوكاي دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة دار المعارف مصر1977.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى