طالب الرفاعي في رواية «حابي» يزيح الستار صافعاً واقعاً هشّاً!

جهاد أيوب

لا يزال طالب الرفاعي رغم تغيّر الظروف والعمل والأمكنة والعمر والأحبّة والأصدقاء يعيش القلق والبحث والإنسان، لا يزال يعيش مع فنّ الكتابة والحرف، كما لو كان في بداية المشوار، يبحث عن فرصة كي يفتح نافذة جديدة لكتاباته المختلف عن غيره، ويزيح الستار عن عقول غمرتها حياة متأمركة هشّة كي تدخلها الشمس… وهذا ما يجعله مختلفاً عن الجميع، وذا خصوصية تحسب له في الأدب الخليجي، وبالتحديد في الثقافة الكويتية، وتزين بمسؤولية المكتبة العربية، لذلك هو ليس تكملة لعدد الكتاب بل هو الرقم الصعب في أدب يستحقه، في مساحة تليق به، ويليق هو أن يكون بيننا!

ولا يزال طالب الرفاعي مغامراً في نصّه رغم اكتمال تجربة الصنعة، ولكن ولادة الفكرة كانت ولا زالت هي البحث والطرح والقضية، هي المحور والتميّز والحضور!

الفكرة عند طالب هي الأساس وليس الكمّ والحشو والثرثرة، والموضوع عند طالب هو الصافع ولا يبحث عن زكزكات عنصرية ليقول أنا هنا، بل يرغب بأن يكون هو ونحن والمقبل.

الكاتب طالب الرفاعي في روايته الجديدة «حابي»، معاناة «ريان» أو فتاة لديها خلل هرموني، خلل جيني يجعلها ذكراً، وتشعر بأنها ولد يسعى لإجراء عملية تحول… إنها «حابي» آخر روايات هذا المباشر في الصفع، هذا الباحث في الصوت، هذا الثائر خارج الدماء!

في روايته «حابي» تطرّق طالب إلى قضية حسّاسة لم تخرج إلى النور عند العرب، ومناقشتها في العتمة شبه معجزة، طرحها بشكل علمي، وفيزيولوجي، واجتماعي وإنساني بجديّة واتزان وبمسؤولية، تعامل معها بتفجير إيجابي من أجل أن يقدّم الحلول للحالات المرضية، لترويض مجتمع يدّعي الإيمان ولا يعرف أصوله، يدّعي الأسرة ولا يعرف التواصل فيها، يدّعي العلم ويخجل من حقائقه، يؤمن بالدين ولا يطبق شرائعه، وهو هشّ في حضوره الإنساني!

تعمّد طالب مناقشة زواج الأقرباء، وما الخلل الذي يصيب العائلة جراء هذا الزواج، هو ليس ضدّه لكنه يشير إلى ضرورة معالجة الخلل إن وقع بمسؤولية، وليس بالاستخفاف.

ثراء اللغة

ثراء طالب في لغته الوصفيّة تطور إلى حدّ لا تستطيع الإفلات منه ومن أسلوبه، هو اليوم أكثر نضجاً، وأكثر تمكّناً في تطويع اللغة لصالح الوصف الشاعري والوجداني، وكان واضحاً تعمّده استخدام الوصف الشعري، وأحياناً النثري. وهذا سهل القراءة من خلال نصّ فيه الموسيقى وأنغامها بسهولة الإيقاع المنسجمة مع مفردات كلماته.

لدى المؤلف لغة توثيقية مرجعية لحالات كهذه، وكان واضحاً التنقيب، البحث، أرشفة، سؤال أهل الاختصاص، والمهنيين والمعنيين. وهذا يتطلّب الكثير من عمل التجميع، والخطورة وبراءة الوثائق في كيفية التقديم، كيفية الكتابة الأدبية وبين يديك الكثير من الأجوبة العلمية! نعم من الصعوبة أن تقدّم العلوم بأسلوب أدبي، وطالب نجح جداً في جعل الجمل الكلمات المعلومات وجهات النظر العلمية فتافيت أدبية أثرت العنصر الثالث، ومفتاح التوصيل إلى القارئ دون أن يزعجه.

شخوص طالب في «حابي» أبعد من كتابة ورقية، كتابة حسيّة وليست كرتونية، أغرقها بواقعية، وبحقيقة الشخوص بعالمنا بمجتمعنا، هو درس كل حالة فقدّمها بفوقيتها، بعنصريتها، بغرورها، أقصد كان طالب كل الشخصيات، كان مخلصاً لكل شخصية، نعم كل شخصية كتبها كانت لها حقوقها لذلك تلمّسنا لحمها ودماءها وروحها العصرية ومؤهلاتها التي فرضتها!

غزارة طالب في هذه الرواية الناضجة بالوصف التعبيري وتزاوج مفردات تعانق لغة اليوم بذكاء شاعري عميق هي ما يجعل كتاباته تتواصل مع القارئ بشطارة المؤلف في زمن يخاف القارئ من الكتاب، وهجره إلى الصورة والسوشال ميديا باللغة اللاتينية… أقصد طالب الرفاعي أصبح يطوّع مفردات اللغة كما يشتهي، وجعلها في تركيبات التضاد بين كلمة وآخرى حالة تشبه واقع حياتنا اليومية ومجتمعنا المفكّك، الذي يعيش التضاد والفصام.

تأهيل أبطاله

كما أهّل طالب شخوصه من خلال رسالته في كتابه سيناريو مفعم بالواقعية مع رمزيّة متعمّدة للدخول إلى حدث يعتمد على الحقيقة، والأهم سلاسة في اللغة دون التفلسف، وابتعد عن التنظير، والموعظة، هو من خلال لغته العميقة سهل الفهم، وذكاء تقديمها لم يشغله بعقدة أنا موثق، او وجب أن أكتب بلغة أكبر من فهم القارئ، وربما من فهم الكاتب ليقال: «كثير مثقف…»!

طالب الرفاعي من جيل صنع الوعي الذاتي بتعب المراحل التي حاصرت جيله، وذلك من أجل نشر الوعي في ورش توعوية فكرية، وهو يشاركنا بأن المثقف تهمة، ولا يؤمن بأن يبقى المثقف في قصوره العاجية… نزل معهم، صافحهم، ونزل إليهم، وناقشهم، ورسم دوره، وحدد منهجيته، ولغته، ومواضيع ليست غريبة عنه… وكان ما هو عليه اليوم، والذي ظهر في رواية «حابي»!

لذلك جاءت الانسيابية في معالجة الطرح الاجتماعي والنفسي والمرضي، وتقديم علوم طبية بسلاسة معرفية، وهذا أغنى التجربة ومن ثم الرواية! لم يتفزلك طالب في تقديم الحالة الشاذة، ولم يتعمّد أن يكون نبياً، ولا شخصية أدبية رافضة لواقع اجتماعي معين، بل منذ اللحظة الأولى ذهب إلى أنسنة الحالة، واللغة، والصور، والواقع، وهذا زاد من تماسك الاسلوب، والتشويق في الوصول إلى نهاية الرواية القصة الحالة المجتمع!

ترك طالب نهاية الحكاية إلى مفاهيم خيال من قرأها، وهنا أيضاً لم يتدخل، أو يفرض ما يفكر به، بل سمح للجميع بالمشاركة، وبوضع النهاية…

هذه الرواية جاهزة لتقدم سينمائياً أو تلفزيونياً، ولكنها تحتاج إلى المنتج الجريء والمغامر، والفنان الباحث عن البصمة، والتفوّق.

أجمل ما في رواية «حابي» أن الكاتب يقدّم حالة إنسانية دون انحياز، بل بتعمّق وجودي إنساني خارج الفكر المتحجر، والتعصب الاجتماعي والديني، والأجمل تلك اللغة العميقة في صورها، والغنية بعباراتها الفلسفية العلمية البسيطة.

وهذا يجعل من كل مستويات شرائح المجتمع بأن تقرأها وتناقشها لآنها ستفهم ما ستقرأ… وهذا ما ينقص الكِتاب والكاتب العربي حتى يعود للكتاب والكاتب والمثقف دوره خارج فرض عضلات اللغة العبثية، والتنظيرات البالية!

ملاحظة: اسم «حابي» وهو اسم الرواية يعني إله فيضان النيل، صورته على هيئة إنسان، ويظهر جسده معالم الجنس الأنثوي والذكري في الوقت نفسه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى