بوصلة الأولويات ومتاهات التضليل: «الجزيرة» نموذجاً

ابراهيم تيروز ـ المغرب

ليس التضليل شيئاً آخر سوى أن يوجه الإعلام الأنظار إلى حق جزئي بقصد التغطية على باطل كلي، في حين أنّ التنوير لا يتحقق سوى بأن يوجه الإعلام الأنظار إلى الحق ذي الأولوية الكبرى وإلى الباطل ذي الخطورة الأكبر.

وفي هذا السياق، من يلتفت اليوم إلى أداء قناة من قبيل «الجزيرة» سيندهش حتماً كيف تستثمر هذه القناة كلّ فرصة لخلط الأولويات وإرباكها.

فالحق في الحريات المدنية أولى من حق الحقوق، والضامن لها، ألا وهو استمرارية الدولة ومؤسساتها، والتي بتفككها يعود الإنسان إلى غابر العصور وإلى شريعة الغاب، وإلى الانكشاف جميع قوى العالم الخبيثة والانتهازية من مافيات ومنظمات استخبارية دولية ومن إرهاب تحركه دول ذات أطماع سياسية واقتصادية جشعة ومتوحشة.

ولعل مثل هذا التضليل باد بوضوح في ما آل اليه الوضع في ليبيا مثلاً، إذ بعد أن أسقطت «الدولة» التي كانت قائمة، وعلى يد تحالف دولي مشبوه إنْ لم نقل غير شرعي أساساً، لم يعد مسموحاً لليبيا بالنهوض من جديد والوقوف على قدميها. ففي مستهلّ تدمير الدولة وهدم أركانها جيّش الإعلام كلّ القوى الهدامة للانخراط فيه وحشد جميع فنياته الخطابية والتأثيرية، أما بُعيْد ذلك فأخذ هذا الإعلام يعتّم على الملفّ ويترك الناس غرقى في مآسيهم ونكباتهم. وإلا فأين كلّ ذلك الصخب التجييشي المتواصل الذي مارسته «الجزيرة» باسم محاربة «الطاغية»؟ أيهما أطغى وأبغى أمس ليبيا في ظلّ حكم القذافي أم حاضرها السواداوي؟ أليس الحاضر أدعى إلى التباكي؟

في «المقلب» ذاته تصير المطالب الفئوية أو المرحلية داخل بلد من البلدان العربية، أهم وأولى من التوازنات الاستراتيجية والمصيرية في علاقتها بأعداء هذه البلدان كالإمبريالية والصهيونية والرجعية. فليس مهماً سقوط محور إيران ـ سورية ـ لبنان الممتدّ والمصوّب نحو «إسرائيل» مغتصبة الأرض الفلسطينية وقلب العدوان والهيمنة الغربيين، ليس مهماً كسر هذا المحور المحور الحامل همّ قضية الأمة الأولى باعتبارها خنجراً مسموماً في جسد الأمة، والذي لا يريد أن تكون لجراحها حدود، ولا لكرامتها وجود، ولا مجال هنا لمقارنة هذا المحور بمحور الاستنعاج الخليجي الرجعي الذي ظهر إلى العلن هذه الأيام تنسيقه مع «إسرائيل»، وهو ما لم ينبس عنه الإعلام الخليجي ببنت شفة نفياً أو إثباتاً لها ولا بمسرحيات رئيس تركيا البهلوانية التي فضحتها ما آلت إليه قضية سفينة «مرمرة» التركية، وفضحها من جهة أخرى كيف انخرطت الدولة التركية بدعم الجماعات التكفيرية في سورية والعراق بشراسة لم يظهر يوماً نظيرها أو ربعها في دعم وتسليح المقاومة الفلسطينية، ولا مجال مطلقاً لمقارنة هذا المحور بما تقوم به «القاعدة» ومشتقاتها من تدمير للأوطان خصوصاً المحيطة منها بـ»اسرائيل». في حين لا تصل من هذه الأخيرة ولو رصاصة طائشة واحدة أو سيارة مفخخة أخطات الوجهة… لا لشيء سوى لأنّ هذا المحور أثبت في حربه على «إسرائيل»، خصوصاً عند إغارة وعدوان هذه الأخيرة على لبنان همّته وتهديده الاستراتيجي المتزايد لكيان العدوان «الإسرائيلي».

والأمر عينه يلاحظ عندما تسلط «الجزيرة» ومن لفّ لفّها الضوء على تهالك الجيش العراقي وتكوينه الديموغرافي أو على ما تسمّيه «جرائم الحشد الشعبي»، مضخمة كلّ ذلك في وجه احتلال «داعش» التنظيم الإرهابي «مجهول» الهوية والتمويل والتسليح، والذي سخر تحالف دولي بكامله للتغطية الجوية عليه مدّعياً محاربته، هذا وفي وجه احتلاله لجغرافيا عراقية شاسعة وتهجير ملايين العراقيين. وليس هذا التهجير نفسه خطيراً بل الأخطر بحسب «الجزيرة» و»العربية» هو تلكؤ السلطات العراقية في تسهيل دخولهم إلى بغداد حتى وإنْ أرسلت «داعش» بينهم انتحاريين يتحيّنون الفرص لاختطاف عشرات الأرواح ولترويع الآمنين من حولهم.

والمتتبع لتغطية «الجزيرة» للمشهد اليمني مدعو بنفس الطريقة إلى أن يتصور فصيلاً يمنياً واحداً هو الحوثيون، أخطر على اليمن من عدوان دولة مغرقة في الرجعية وضالعة في نشر التكفير والفساد بالعالم العربي، يشن حرباً ضروساً على البلد ككلّ، ويلقي يومياً بمئات القنابل المحظورة دولياً على رؤوس المدنيين اليمنيين.

إننا حقاً في عصر اتحدت فيه من جديد خرافة الأسطورة وسحرها المدجج بآخر وبأذكى تقنيات الاتصال وهذا ما يمثله الإعلام المعاصر بتجييشه الديني والمذهبي خصوصاً والغرائزي عموماً مع السفوسطائية العربية المعاصرة المتمثلة في ظهور أشباه مثقفين يحاولون خلط الأولويات وحرف بوصلة الرأي العام عن الوجاهة والسداد، معتمدين على تلاعبات خطابية ولفظية ومغالطية لصرف الناس عن حبّ الحكمة بما هي بحث عن ما هو ماهوي وأولوي وكلي، في حين أن لا علم كما علمنا المعلم الأول أرسطو ومن غابر الزمن: لا علم إلا بما هو كلي…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى