أخيراً: اعتراف سعودي رسمي … وتوضيح تفاوضي مفيد

ناصر قنديل

– بعد روايات متعدّدة عن اللقاءات التي جمعت رئيس مجلس الأمن الوطني في سورية اللواء علي المملوك بولي ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وهي على تفاوتها في التفاصيل تجمع على جوهر واحد، هو أنّ اختراقاً حدث في جدار القطيعة بين حكومتي البلدين بعد خمس سنوات رمت خلالها السعودية ثقلها لإسقاط نظام الحكم في سورية والإطاحة برئيسه، وقالت ذلك علناً كعنوان رسمي لمداخلتها في الأزمة السورية، وتقاطعت الروايات على تفاوتها، وهذا طبيعي وهي منسوبة لمصادر خاصة بالصحف التي نشرتها، عند كون اللقاء، أو اللقاءات قد تمّت بمبادرة من القيادة الروسية التي قال رئيسها علناً إنه يسعى لحلف يواجه الإرهاب يضمّ سورية والسعودية معاً إضافة للأردن وتركيا، كما تقاطعت الروايات أنّ النقاش دار من الجانب السعودي حول مآخذ على سورية تتصل بعلاقتها بإيران وحزب الله.

– يخرج مصدر سعودي رسمي، تكرّر كلامه صحيفة لبنانية وقناة فضائية تموّلها السعودية، ليوضح حقيقة ما جرى، ويقدم روايته في سياق اتهامي لما نشر في الصحف الأخرى أنه ترويج لمصلحة سورية ودولتها ورئيسها بقوله، إنّ صحفاً قريبة من النظام السوري حاولت تشويه الحقيقة! وتزوير ما جرى، فهو يصحّح التزوير بالقول إنّ اللقاء تمّ في جدة وليس في الرياض، حسناً وشكراً على التوضيح، والتوضيح يسترسل فيوضح خلفيات السعودية ومسؤوليها من اللقاء وهذا ليس في بند الوقائع وتوضيح وتصحيح المزوّر منها، فهو يؤكد أنّ اللقاء قد تمّ، ويؤكد أنه تمّ بمبادرة روسية، ويؤكد أنّ جوهر النقاش تمحور حول علاقة سورية بإيران وحزب الله، فما هو الجديد إذن الذي كان تزويراً وتشويهاً في كلّ ما نشر حتى استدعى هذه الحماسة والعصبية والانفعالية في كلام المصدر؟

– هل سورية هي من طلب اللقاء؟ حتى يقول المصدر نحن استجبنا للطلب ظناً منا أنّ هناك تقيماً جديداً لدى النظام وقيادته علينا سماعه بظنّ أنه يمكن أن يسهّل فرص التوصل لحلّ يحقن الدماء مثلاً؟ يجيب المصدر عملياً بلا، ولا يجرؤ على قول العكس، فيؤكد أنّ اللقاء استجابة لرغبة أو تصوّر روسيّين، لا يجرؤ المصدر هنا على الكذب، لأنّ سورية أرادت وجود الشريك الروسي ضماناً لقطع الطريق على الكذب السعودي وسيكون الشريك الروسي ملزماً لو تمّ الكذب لأن يوضح ويصحّح هو، خصوصاً أنّ سورية أبدت الدهشة علناً من فرضية الانضمام السعودي لحلف ضدّ الإرهاب بوصف وزير خارجيتها لذلك بالمعجزة في حال حدوثه، بينما كانت السعودية قد أبلغت روسيا موافقتها وجاهزيتها بدليل الاعتراف بحدوث اللقاء الذي يترجم المسعى الروسي.

– أما عن المبرّرات التي يسوقها المصدر في التوضيح وردّ التزوير، والقول إنّ هدفه من قبول اللقاء كان تعرية القيادة السورية أمام المسؤولين الروس، فنسأل هل يصدّق المصدر السعودي الرسمي أنّ أحداً سيصدّق قوله أنّ المعركة على كسب روسيا واقعة بين سورية والسعودية، وأنّ روسيا فعلاً حائرة؟ وكان ينقصها مباراة بالحجج بين الفريقين ليتغيّر الموقف الروسي فيكسبه السعودي لأنه نجح في تعرية الموقف السوري كما يريد التوضيح الساذج منا أن نصدّق، بعد أربع سنوات من الكلام عن كيف تخسر روسيا العرب كلهم بسبب موقفها من سورية، وعروض المال والتهديد الأمني بتنظيم «القاعدة» الذي وصل حدّ استهداف الألعاب الأولمبية في سوتشي على لسان بندر بن سلطان، ووصل حدّ تقديم عرض استثمارات وصفقات سلاح بمئة مليار دولار بعرض قطري سعودي مشترك لحمد بن خليفة وبندر معاً، وإذ يبلغنا المصدر أنّ الأمر كان يتوقف على ما هو أبسط بكثير كي تغيّر روسيا موقفها وتتخلى عن الفيتو وتستردّ الأس أس 300 والياخونت وصواريخ الإسكندر، أن يستعمل محمد بن سلمان عبقريته الكلامية ويحاجج اللواء المملوك أمام مندوب روسي فيفوز بالضربة القاضية؟ أهذه هي السياسة الدولية بفهم ولي ولي العهد في الدولة التي يفترض أنها تقود السياسة العربية؟ وإذا كانت كذلك فكما يُقال بالبلدي «يدنا في زنار الأمير» لمناظرة مع «الإسرائيليين» أمام الرئيس أوباما حول حق العرب بفلسطين وننهي الأمر العالق منذ سبعين عاماً.

– يعترف الأمير باللقاء ويعترف أنه ترجمة لمبادرة روسية، والسؤال هنا من كان يرفض مبدأ اللقاء وتغيّر؟ من كان يدعو لإسقاط نظام الحكم في بلد الآخر وارتضى لقاء النظام الذي قال إن لا حلّ إلا بإسقاطه، ما يعني ببساطة لكلّ عارف وبسيط، أنّ السعودية التي وضعت كلّ مالها وهيبتها وعلاقاتها ووصلت حدّ توظيف تنظيم «القاعدة» بمتفرّعاته، من أجل هدف واحد لخمس سنوات متتالية هو إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، قد عادت وتراجعت وسلّمت بالفشل وقرّرت أن لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنّ قدرها الاعتراف بأن هذا النظام وهذا الرئيس أقوى من خطط الإسقاط، ويعرف الأمير أن أحداً في سورية لم يتحدّث عن إسقاط النظام السعودي، وإعلان الحرب عليه وتحريض جيوش العالم وإرهابييه للقتال ضدّه ولا قام بقيادة حملة لمقاطعة السعودية ديبلوماسياً، بينما يعرف أن العكس هو الذي حصل، فالتراجع هو من الموقع السعودي وليس من الموقع السوري إطلاقاً، بل العكس سورية عند ما قالت وتقوله منذ البدء، لا تراهنوا على سقوط سورية فتسقطون قبلها وكأس السمّ التي أعددتموها لها ستتجرّعونها قبلها والإرهاب الذي استنجدتم به لإسقاطها سيشعل النار في ثوبكم وتحترقون بلهيبه أولاً، فتعالوا لكلمة سواء تحفظنا وتحفظكم، يعترف الأمير ضمناً أنّ اللقاء تراجع سعودي عن قرار القطيعة والعزل والإسقاط، وإعلان فشل خمس سنوات من الجهد السعودي المتواصل تحت هذه الشعارات، أما الكلام عن إلقاء الحجة كمبرّر للقاء فتشبه حكاية رجل دين شوهد يحمل حقيبة مال وهو يخرج من السفارة الأميركية فاضطر للاعتراف أنه كان بداخلها، ولما سئل عما كان يفعل قال: عرضت عليهم الإسلام، ولما سئل: وما المحفظة التي بيدك؟ قال: هذا مال حلال فقد عرضت عليهم الإسلام ولما أبوا فرضت عليهم الجزية، تماماً كما أراد الأمير ونجح في تعرية الموقف السوري أمام القيادة الروسية وكسب الجولة.

– في المضمون السياسي الذي يشكل لبّ الموضوع الذي استدعى التوضيح أو لنقل الرسالة التي أرادها المصدر ومن ورائه الأمير، إزالة اللغط والاستغلال الداخلي من المنافسين حول حدوث اللقاء بتأكيد الحدوث من جهة، وربطه بالحوار السعودي الروسي عملياً ولو بلغة من المبالغة والعنجهية اللتين يتسم بهما الخطاب السعودي عموماً، هذا واضح وبات مفهوماً، لكن فوق ذلك يتطرّق المصدر عملياً لمضمون النقاش، فينفي ما يبدو أنه صحيح، ما يعني أنه يعدّل، ينفي أن يكون قد ناقش العلاقة السورية بإيران وطرح مقايضتها بالعلاقة السورية السعودية، والمنطقي أنه فعل وعرض ذلك فهو يتهم إيران علناً بمشروع الهيمنة ويقدّم علاقتها بسورية مثالاً، فأقلّ المتوقع عندما يلتقي بالمسؤولين السوريين أن يفعل ويقول ما نسب إليه فعله وقوله، لكن ها هو بعد التفاهم النووي ومفاعيل لقاءات الدوحة مع وزيري خارجية أميركا وروسيا يعدّل الخطاب ويتهيّأ للحوار مع إيران كما يبدو، فيقول إنّ العلاقة السورية الإيرانية ليست موضع اعتراض سعودي، وهذا تطوّر إيجابي في الموقف السعودي وتسهيل للوصول إلى تفاهم مع سورية عملياً لأنه إنْ بقي كموقف جدي بما يتخطى حدود مجرد تسجيل موقف وتحوّل إلى خط مقرّر في العلاقات يعني انسداد الأفق لتطور الحوار السوري السعودي، لمعرفة السعوديين أنّ سورية منذ ستة وثلاثين عاماً وفي ظروف لا تقلّ خطورة عن هذه تمسّكت بعلاقتها بإيران، والسعودية أكثر من يعرف ذلك في فترة الحرب العراقية الإيرانية التي موّلت السعودية جزءاً كبيراً منها ووقفت سورية مع إيران، وكانت النتيجة تسليط السعودية لميليشيات «الإخوان المسلمين» لابتزاز سورية في هذه النقطة المبدئية، وعلى رغم عشر سنوات من القتال تراجعت السعودية واختارت التطبيع مع سورية وما تراجعت سورية.

– أن تعيد السعودية تقديم خطابها نحو سورية، والحرب فيها وعليها، بما يحيّد إيران كعنوان وقضية، هذا تحوّل هام وكبير، ولو من باب التوضيح والنفي، والسؤال ما هو إذن الذي طرحته وتطرحه السعودية، إنه عملياً عرض تفاوضي يقول بانسحاب متزامن للسعودية من الأزمة السورية ودعم المعارضة فيها مقابل انسحاب مقاتلي حزب الله ومن معه من متطوّعين، تسمّيهم السعودية بالميليشيات التابعة لإيران، وعندها تصير الحرب سورية سورية أو الحلّ سورياً سورياً، وهذه بداية تفاوضية جيدة، فربما لو قال الأمير هذا للواء علي المملوك فعلاً وليس في التوضيح، لما طلب اللواء المملوك مهلة، كما يقول التوضيح، كي تفكر سورية، لقال اللواء المملوك نحن وحزب الله واحد، فهل تطرحون مبادرة عنوانها انسحاب كلّ مقاتل غير سوري من سورية وحصر القضية بالسوريين؟ وتسألون عن موقفنا عن إمكانية تطبيق ذلك على حزب الله؟ على ما أذكر، سيقول اللواء المملوك، إنّ أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله قال شيئاً شبيهاً قبل ثلاثة أعوام، رداً على وزير الخارجية الأميركي بعد معارك القصيْر، داعياً إلى سحب المقاتلين غير السوريين من سورية ليكون حزب الله أول المنسحبين، لكن للأسف فالسعودية كانت تملك خيار عدم جلب هؤلاء المسلحين وتمويلهم وتسليحهم لكنها لا تملك خيار إخراجهم، ومن حق سورية بوجود هذا الكمّ من المقاتلين من خارج سورية أن تستعين بأصدقائها الأوفياء من خارج سورية لردّهم وصدّهم كي يصير الحلّ سورياً سورياً، وليست الحرب التي لم تكن يوماً سورية سورية.

– يبقى أنه على رغم عدم واقعية الطرح بعدما صدّرت السعودية النفايات السامة إلى سورية وتعجز عن استردادها، أنّ هذا العرض هو تحوّل نحو واقعية سعودية تقترب من البحث عن نقطة يمكن للحوار معها في اللقاء الرابع أو الخامس والتوضيح الثاني أو الثالث أن تقع على خط تماس إيجابي لبدء صناعة التفاهمات.

– في كلّ حال التوضيح السعودي أنّ اللقاء تمّ في جدة وليس في الرياض يكشف التزوير والتشويش الذي تريده الوسائل الإعلامية المقرّبة من سورية كما قال التوضيح، والأمير يعلم أن مصدر التسريب، ولد عمه ولي العهد وليس أحداً مقرّباً من سورية، وفي كلّ حال حسناً فعل الأمير بأن أوضح ذلك فاستفدنا من تحديد المكان الذي تحيّرنا في معرفته طويلاً.

– خطوة ثانية سريعة في النزول عن الشجرة.

ناصر قنديل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى