الرسالة الموجهة من الأمين عبدالله سعادة إلى الطلبة القوميين الاجتماعيين في ستينات القرن الماضي 2

إعداد: لبيب ناصيف

القواعد الأساسية للنهضة السورية القومية الاجتماعية

المدرحية: ليس الزعيم أول من قال بأن للوجود الإنساني ناحيتين أساسيتين: الناحية المادية والناحية الروحية. فالإنسان منذ وجوده البدائي عني بالمادة لتأمين حاجات بقائه الفردي واستمرار جنسه البشري. وكذلك الإنسان منذ وجوده الإجتماعي، منذ نشوء الجماعة، ظهرت فيه حاجات النفس والمطالب الروحية الكامنة التي فرضت ذاتها على الجماعات البشرية بشكل نهائي. فلم تخل جماعة في التاريخ البشري من المعاناة النفسية والتأمل الروحي اللذين نتج منهما التراث الروحي عبر التاريخ في أساطير الجماعات الإنسانية وقيمها ومثلها ودياناتها. وقد كان لأمتنا قصبُ السبق في هذا الميدان الراقي. إن أساطيرنا الخالدة وآلهتنا الرائدة سجلت تململ النفس السورية في توقها الروحي الراقي. ومنها انطلقت الأسس الدينية السماوية التي تجسدت في الرسالتين الدينيتين الخالدتين: المسيحية والمحمدية.

وأمتنا وإن كانت منبع الرسالات الروحية الدينية السماوية، إلا أن حضارتها المادية كانت سابقة ومرافقة لهذا التطور الروحي السامي. ففيها ابتدأت أسس الحضارة المادية الإنسانية، وأسس الفكر الإنساني. فالدولة، والشرع، والأبجدية، والتعدين، والشراع، والصناعة، والمستعمرات تنشر العمران على شواطئ بحرنا السوري، كلها دليل على حضارة مادية راقية مهّدت للتطور الروحي ورافقته وجسدته يوم كان العالم الغربي لا يزال في معاناته المادية الروحية البدائية.

والإنسانية عبر تطورها المستمر عانت صراعاً دائماً بين الشأن الروحي فيها والشأن المادي وتفاضلاً بينهما أدّيا الى اختلال الأنظمة الاجتماعية وتخبطها في تناقضات ومضاعفات مخرّبة. وهي اليوم تهدد الإنسانية ومدنيتها العلمية الجبارة بكارثة قد تقضي على الإنسان وعلى مدنيته.

كثيرون قبل سعاده دعوا الى ضرورة إقامة التوازن بين الشأن الروحي والشأن المادي في الحياة الإنسانية، وبخاصة بعد تطور القوميات وبداية الحروب العالمية المدمرة. غير أن نظرتهم كانت تقوم على مبدأ ضرورة التعايش بين شأنين متناقضين أو مستقلين لا تستغني الإنسانية عن أيهما ولا يمكنها أن تسير وترتقي بسيطرة أحدهما الكلية على الآخر.

الإنسانية عانت من العقلية الروحية الغيبية وتسلطها في الدولة الدينية ما عطل الإنسان في الإنسان. ذلك أن القيمين على تنفيذ السلطان الروحي ورعاياهم ليسوا ملائكة روحيين بل بشراً من مادة وروح. فعطلت مطلقاتهم وحتمياتهم الغيبية وشريعتهم السرمدية حرية العقل المسؤول. فغدت الانطلاقة الدينية التقدمية أغلالاً للإنسان تمنع تقدمه وتؤخر ارتقاءه وتحوله الى كائن غيبي مستسلم لا يرى في الحياة إلا وهماً. ولكنه وهم لا بد منه للعبور الى الحياة المثلى الآتية. وعادت الحياة المفرغة من معنى الحياة تعكس فراغها على الشأن الروحي فغدا طقوساً وطلاسم وكهانة وطائفية كادت تفرغ الدين من جوهره الحي وتجرّده من مثله وقيمه وفضائله الراقية.

والنظام الرأسمالي المادي الجشع، وإن ادعى الهوية الدينية الروحية، إلا أنه نظام مادي طاغ. مارس ويمارس أبشع أنواع الاستغلال والمتاجرة بالشأن الروحي، وأشنع أنواع التحقير لإنسانية الإنسان وحقوقه النفسية. يقول سعاده: «إن نظام الطبقات الرأسمالي نتجت منه مشاكل اقتصادية اجتماعية سببت وتسبب تشنجات واضطرابات شديدة تحفز العقل الى ابتغاء نظام جديد للمجتمع الإنساني يزيل تلك التشنجات والاضطرابات ويفسح المجال لتفاعل ينمي الحياة ويقويها ويجعلها صالحة للإنسان ومصالحه النفسية والمادية. إن للإنسان حاجاته الروحية والمادية كما له قواه الروحية وقواته المادية».

والنظام الماركسي المادي بدأت تعاني منه الدول الشيوعية، وبخاصة روسيا وأوروبا الشرقية، تناقضات فلسفيته الجزئية المادية المتنكرة للروح والمطالب النفسية. لقد سجلت المادية الماركسية تطويراً مادياً مذهلاً في روسيا السوفياتية لإنصبابها كلياً على الشأن المادي في نظامية ثورية مؤمنة شكلت ديناً مادياً. ولكن الدول الماركسية، بعد أن أمّنت مستوى الاكتفاء المادي الضروري لتفتُّقِ النفس البشرية على كوامنها، وتفتحها على مطالبها الروحية الراقية، بدأت تظهر فيها تناقضات الفلسفة الجزئية المتنافية مع طبيعة الإنسان.

وبدأت تعاني الدول الشيوعية من حاجات النفس ما يحملها تدريجياً على الانفتاح عليها والسماح بممارستها ونشوء عقلية روحية وقيم نفسية الى جانب النظام المادي. إن هذه الظاهرة توضح بعض الخلاف بين شيوعية روسيا وشيوعية الصين. فالصينيون، وهم في مطلع ثورتهم المادية، لا يزالون خاضعين للظاها، وفي مرحلة تأمين الحاجات المادية الضرورية التي يجب أن يؤمنها الإنسان قبل تفتحه الراقي على كوامن نفسه وادراك مطالبها الروحية. إن مطالب الحياة المادية حادّة فلا يمكن للمطالب النفسية أن تتألق إلا بعد تأمينها في مستوى معقول. ولا يشكل بعض الأفراد الذين يخرجون على هذه القاعدة الطبيعية إلا الشواذ النادر.

أما سعاده فإنه لا ينظر للشأن المادي كنقيض للشأن الروحي، ولا يرى الشأن الروحي نقيضاً للشأن المادي يتعارض معه وإن احتاجه حاجة النقيض للنقيض.

إن سعاده في عبقريته وعقليته العلمية أدرك أن الوجود الإنساني هو الوجود المادي الروحي الموّحد في كيان عضوي واحد. فالوجود المادي بذاته ليس إنسانياً. إنه وجود الأشياء وربما العجماوات. والوجود الروحي بذاته ليس إنسانياً. إنه وجود الملائكة أو وجود الله أو وجود الأفكار المطلقة.

الإنسان الإنسان هو المادة اكسبتها الروح المندمجة معنى وإدراكاً وغاية. وهو الروح أكسبتها المادة المندمجة تجسيداً واقعياً وقدرة على الفعل. فالمادة والروح ليسا نقيضين. بل هما عنصران متمم واحدهما للآخر ومحقق واحدهما للآخر في أسمى وجود على الأرض الإنسان. فالمدرحية ليست قضية جمع بين الفلسفة المادية والفلسفة الروحية كضرورتين للحياة والتوازن، هي ليست جمع مصلحة. بل هي القول بوحدة الروح والمادة في مندمج كياني عضوي. مندمج أشمل من الروح ومن المادة تحققت كينونته الراقية في الإنسان.

يقول المعلم: « آمنت بكم… أمة داعية الأمم الى ترك عقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ الروحي وحده، وعقيدة تفسيره من الجهة الأخرى بالمبدأ المادي وحده. والإقلاع عن اعتبار العالم، ضرورة، عالم حرب مهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية. والى التسليم بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس روحي مادي مدرحي . وأن الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه… إن العالم يحتاج الى فلسفة جديدة تنقذه من تخبط الفلسفات الجزئية وضلالها. وهذه الفلسفة الجديدة التي يحتاج إليها العالم – فلسفة التفاعل الموحد الجامع لقوى الإنسانية هي الفلسفة التي تقول بها نهضتكم».

ولم يقف سعاده في تفسيره الوجود الإنساني تفسيراً مدرحياً عند حدود البحث الفلسفي المطلق. بل أرسى النهضة السورية القومية الاجتماعية ونظامها الجديد على هذه القاعدة الفلسفية الدقيقة. إنه هدف الى تأمين الإنسجام الفكري الإجتماعي في المجتمع السوري المنشود وتخليصه من هدر الطاقات وبعثرة القوى في حرب جاهلية بين القوى الروحية والقوات المادية. وذهب الى أبعد من السلبية بتوضيحه أن الارتقاء المادي لا يستطيع أن يصل الى الأوجّ المؤهلة له الإنسانية ويؤدي أغراضه الراقية إلا إذا استند الى رقي روحي متواز يحفز الى الأسمى والأكمل والأجمل. وكذلك الإرتقاء الروحي لا يمكن أن يصل الى ذروته المؤهلة لها الإنسانية إلا إذا تأمن الإرتقاء المادي الموازي والذي يتيح للنفس أن تنصرف الى معالجة قضاياها وممارسة مثلها وقيمها في مناخ مرتاح من إلحاح الحاجات المادية وسيطرتها الطاغية. لأنه إذا لم يتأمن التناسق بين مقومي الوجود الإنساني يصبح الوجود الإنساني مسخاً مشوهاً. فإما تعملق مادي وتقزم روحي، وإما تقزم مادي وضياع روحي قد يحسبه دعاة الفلسفات الجزئية تجلياً، وإما تقزم كلي مادي روحي يبقى على تخلفه وجوداً طبيعياً بدائياً غير مشوّه.

والزعيم قد أولى الشؤون الروحية في كتاباته وتعاليمه اهتماماً مباشراً وجعلها في صلب مبادئ النهضة. فالمبدأ الأساسي السابع يعتبر الثقافة السورية المادية الروحية المنبع الذي تستمد منه النهضة روحها واتجاهها النفسي الذاتي وتبني عليه استقلالها الروحي الرامي الى تحقيق وجود سالم جميل في هذه الحياة والى استمرارها حياة جميلة. ويقول في شرح المبدأ الإصلاحي «كل أمة تريد أن تحيا حياة حرة مستقلة تبلغ فيها مثلها العليا يجب أن تكون لها وحدة روحية متينة» ويتبنى في شرح المبدأ الإصلاحي الأول ما قاله والده الدكتور خليل سعاده: «إن الدين من حيث ناحيته الروحية وجد لتشريف الحياة والسمو بها من مرتبتها الحيوانية الى مرتبة روحية تطهر الأخلاق وتهدم الفواصل غير الطبيعية القائمة بينه وبين أخيه في الوطنية والبشرية».

إن الحزب السوري القومي الاجتماعي يحارب علانية فكرة السلطة الزمنية للدين، أي الوجهة الدنيا من الدين، التي حاولت تحسين الحياة في عهود الرسالة الأولى. وقد حسنتها بالفعل ولكنها عصت بعدها كل تحسين تطلبه الحياة المتطورة. وحربه هذه تقف دون الناحية الدينية من الدين. فيقول الزعيم: «هذه هي الوجهة الوجهة الدنيا التي يحاربها الحزب السوري القومي الاجتماعي لا الأفكار الدينية الفلسفية أو اللاهوتية المتعلقة بأسرار النفس والخلود والخالق وما وراء المادة» ويقول في شرح المبدأ الإصلاحي الثاني: «إذا منعنا رجال الدين من التدخل في شؤون القضاء والسياسة ساعدناهم على رفع منزلة الدين وعلى احترامه».

إن سعاده في إرساء نهضته على الفلسفة المدرحية يخلص المجتمع السوري من التخبط في تناقضات مزمنة ويدفعه في دروب القوة والغنى المادي ورحاب التسامي النفسي والتألق في قيم الحق والخير والجمال والعدالة وترقية الحياة وتحسينها بفعل العقل وهداية القيم والمثل العليا وروح المسؤولية الإنسانية. كما يفتح أمام المجتمع السوري أبواب التفاعل الواثق مع الإنسانية جمعاء من أجل التعاون في بناء المدنية الإنسانية الشاملة.

القومية الاجتماعية:

إذا كانت المدرحية هي المرتكز الفلسفي لنهضتنا الرائدة فالقومية الاجتماعية هي عقيدتنا العلمية التي تجسدها مبادئ النهضة ونظامها. وعقيدتنا كما يدل اسمها «هي قومية لأنها تقول بالأمة والولاء القومي». وهي اجتماعية لأنها تعتمد الواقع الاجتماعي أساساً لنشوء الأمة وتحديدها» ولأن غايتها المجتمع الإنساني، المجتمع وحقيقته ونموه وحياته المثلى».

يختلف المفكرون في تحديد الأمة وتتباين آراؤهم بشأنها ما أدى ويؤدي إلى التخبط في مضاعفات كانت لها يد أساسية في حالات عدم الاستقرار والنكسات التي انتابت وتنتاب الأمم في نشوئها وتكوينها وسيرها وتفتتها. وبخاصة الأمم التي خسرت سيادتها على نفسها وخضعت لإرادات أجنبية تعمل فيها قطعاً ووصلاً بحسب منافعها وأهوائها. فالباحثون في نشوء الأمم وتحديدها التبست عليهم النتائج بالأسباب. فراحوا يعددون النتائج الحاصلة من وجود الأمة، من وجود المجتمع، وكأنها هي الأساس المسبب لنشوئها وتكوينها، فاعتبروا مثلاً الدين واللغة العاملين الأساسيين في نشوء الأمم بينما هما نتيجة لوجود الأمة وحصيلة نموها وتفاعلها الحي. وبعضهم نظر الى الأمة نظرة تتخطى الواقع الجغرافي والاجتماعي فاعتبر الإرادات والآمال العاطفية المنبثقة من عصبيات دينية أو عرقية دموية كافية لإنشاء الأمم، فهدروا جهود الجماعات المتلمسة هويتها وعزتها القوميتين في نضال متعثر يصطدم مع الواقع القاسي. وبعضهم اعتبر الكيانات السياسية كافياً لبناء الأمة وكأن الأمة شأن اعتباطي تقرره المعاهدات والظروف السياسية ومصاحباتها الغريبة. وبعضهم راح يجمع العوامل المسببة والناشئة والمصاحبة للأمم في عمليات جمع وطرح حسابية، فيختار ما يوافق هواه ونظرته، ويهمل ما لا يتوافق معها، ويدبج مقالات ونظريات مطولة محاولاً أن يجعل منها عقائد تصلح لبناء الأمم وسيرها وحياتها. وإذا ما تغيرت الظروف أو تعدلت العلاقات السياسية فإنه يغير ويعدل في نظريته، معتبراً هذا التغيير والتعديل تطويراً يشير الى حياة النظرية وقابليتها لمرافقة التطور الإنساني في إطار التاريخ الحي.

سبب هذه البلبلة في تقييم الأمم وعوامل نشوئها وتطورها إخضاع الأمم للشؤون السياسية ورغباتها، والنظرة الى الأمة وكأنها مجموعة عناصر وخصائص وظواهر ومميزات، متى تيسر وجود عدد كاف منها في جماعة من البشر تمت لهم مقومات نشوء الأمة ووجودها.

إن الأمة شيء أعمق وأشمل من مجموع العناصر والخصائص والظواهر والمميزات المادية والنفسية التي تنشأ في الجماعات البشرية. إنها كلٌ عضوي حي. فيه تنشأ الخصائص والمميزات وفيه تجد معناها وغايتها. إنها كلّ عضوي إنساني طبيعي أمثل، «إنها واقع اجتماعي يجد أساسه قبل كل شيء في وحدة أرضية معينة، تتفاعل معها جماعة من الناس وتشتبك وتتحد ضمنها». تشتبك في تفاعلها المادي والنفسي وتتحد بالاشتراك في دورة الحياة الطبيعية الكبرى الواحدة: فتنشأ الوحدة الاجتماعية الطبيعية التي هي الأمة. وهذا التحديد العلمي الواقعي الذي ينظر إلى الكل العضوي في وجوده الاجتماعي الطبيعي الحي الفاعل يضع حداً لأشكال المنطق الصرف وتراكيب الكلام المضللة والافتراضات التعسفية.

استناداً الى هذا التحديد العلمي الطبيعي الاجتماعي المبدئي الذي شرحه المعلم وعللّه في كتاب «نشوء الأمم»، هذا التحديد الحي الواقعي، هذا التحديد البسيط في وضوحه، العميق في نظرته، تمت لدينا القناعة بوجود الأمة السورية وحقيقتها القومية. «وقد كانت هذه الحقيقة قبل نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي حقيقة كامنة، وأصبحت بعد تأسيس الحزب حقيقة بالفعل». أصبحت قيمة «لأن الحقيقة تظل في ذاتها حقيقة ولكنها في ذاتها ليست قيمة. فهي لا تكون قيمة إلا بالمعرفة. فالحقيقة من حيث هي قيمة إنسانية هي قطبان: الوجود والمعرفة. الوجود بلا معرفة ليس قيمة. والمعرفة بلا وجود هي مجرد افتراض. إنها ليست معرفة صحيحة مهما عظم الوهم إنها كذلك. فالأمة السورية كانت موجودة بذاتها قبل الحزب. وكانت موجودة في إدراك الجماعة في تاريخها القديم. فالأصول السورية المشتركة يشكل وجودها وامتزاجها حقيقة علمية تاريخية على أساس اثني نفسي تاريخي، اشتركت في دورة الحياة الطبيعية الكبرى في بيئة الهلال الخصيب الطبيعية التي تشكل وحدة اقتصادية زراعية استراتيجية. وتاريخ الدول السورية القديمة الأكادية والكلدانية والآشورية والحثية والكنعانية والآرامية والآمورية تدل كلها على اتجاه واحد: الوحدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية لهذه البيئة الطبيعية المميزة والتي يشكل البحر والصحراء والجبال حدودها الطبيعية الفاصلة. وهي هذه الحدود الواضحة الطبيعية الفاصلة التي جعلت الامتزاج وتكوين الشعب السوري العظيم ممكناً. حاصلاً بالواقع. فهي قد دفعت الأصول السورية الى التمازج وإنشاء نسيج شعبي واحد بقدر ما منعت التمازج ما وراءها. كما قدمت له الإمكانيات الطبيعية المتنوعة من مناخ وسهول وجبال وأنهار ومعادن مكّنت الشعب السوري أن ينمو وينشئ ثقافته وتمدنه اللذين وجها الثقافة والتمدن في العالم كله».

غير أن فقدان الأمة السورية سيادتها على نفسها ووطنها بعامل الفتوحات الخارجية الكبرى وإخضاعها لسيادات خارجية، عرّض البلاد الى انقطاع تاريخها القومي وأدّى الى تجزئتها وضياع هويتها القومية. فخضوع سورية القديمة للسيادتين الخارجيتين: بيزنطية في سورية الغربية، وفارس في سورية الشرقية إيراه. ومنه كانت اللفظة المعرّبة عراق ، وكذلك خضوعها في التاريخ الحديث للاستعمارين الفرنسي والبريطاني، أدّيا الى قيام الكيانات المرتجلة والتسميات السياسية المجزأة. فكانت فلسطين وشرق الأردن والشام والاسكندرون ولبنان والعراق والكويت، كما كانت سورية قد خسرت كيليكية لتركية وقبرص لليونان وسيناء لمصر وأخيراً فلسطين «لإسرائيل». إن سورية الطبيعية تشمل جميع هذه المناطق التي لا يستطيع أي إنسان مسؤول أن ينكر وحدتها الجغرافية الزراعية الاقتصادية الاستراتيجية الاجتماعية القائمة بالقوة. وعلى النهضة السورية القومية الاجتماعية أن تعمل لقيامها بالفعل في وجدان المجتمع السوري كله. لأن انتصار النهضة القومية الاجتماعية وقيمها وعزتها لا يمكن أن تتم بدون اكتمالها.

هذا هو الوضع الفكري بالنسبة الى مفهوم الأمة عموماً وبالنسبة الى أمتنا السورية بالتخصيص.

أما النظرة القومية بالذات، التي هي التعبير الروحي عن شخصية الأمة والولاء لها، فقد تباينت الآراء في شأنها وفي تقييمها، وتطورت مفاهيمها من العصبية السلبية الشوفينية الى رفض القومية واعتبارها ردّة رجعية تتنافى مع خط التطور الإنساني السائر الى صهر الإنسانية كلها في أخوة روحية حضارية شاملة. أو على حد قول الماركسية المادية النظرية، في وحدة طبقية عمالية عالمية يا صعاليك العالم اتحدوا تلغي الطبقات الاقتصادية وتقضي بذلك على القوميات ومبرراتها.

أما نهضتنا فإنها لا تنظر الى القومية من زاوية الشوفينية السلبية التي تفصل المبدأ القومي عن المبدأ الإنساني، والتي لا تستطيع أن تفسر الولاء القومي إلا كرهاً للأجانب وطمعاً بهم واستغلالاً وتحقيراً لهم.

ولا تنظر الى القومية من زاوية الماركسية المادية النظرية التي تجرها فلسفتها الجزئية وحتميتها المادية التاريخية الى حصر تفسير التطور الإنساني في العلاقات المادية الاقتصادية، فتهمل القيم القومية الإيجابية الإنسانية وتتخطى كل العوامل النفسية والثقافية في بناء الأمم ونشوء نظرتها الى الحياة والكون والفن.

إن عقيدتنا القومية الاجتماعية تنظر الى القومية من زاوية الحقيقة الإنسانية الاجتماعية. إنها نظرة إيجابية لا سلبية. إنها فعل لا ردة فعل، فالنظرة القومية السلبية الشوفينية ليست إنسانية لأنها تحقر الإنسان. تحقر الإنسان الذي تضطهد وتستغل وتستبعد فتجرده من حريته وسيادته وثروته. تجرده من إنسانيته قسراً. ولكنها تحقر أكثر الإنسان الذي يمارس عمليات الاضطهاد والاستغلال والاستعباد، وتقتل فيه الإنسان. تقتل فيه الفضائل والقيم الراقية والمثل الإنسانية. إنها تحقر ذاتها. تكسب العالم وتخسر نفسها.

والنظرة «الإنسانية الروحية» ليست فعلاً. إنها ردة فعل لمآسي القومية السلبية وويلاتها وعاهاتها الروحية. وهي نظرة جزئية الى الحياة الإنسانية. هي نظرة روحية تتجاهل الحياة في واقعها الاجتماعي المادي الروحي.

والنظرة الماركسية المادية ليست فعلاً مهما تعللت بالعلمية والموضوعية والفلسفة. هي ردة فعل فلسفية للفلسفة الروحية الغيبية ومتاجراتها. وهي ردة فعل إنسانية لنظام الطبقات الرأسمالي البشع. ونضالها الإنساني في سبيل تحرير الطبقة الكادحة المستغلة ملك عليها قدرتها على الرؤية الشاملة فلم تستطع أن تخرج عن إطار العلاقات الاقتصادية.

والعدالة الاقتصادية مهما تسامت في سلّم القيم فإنها تبقى أحد وجوه التعبير عن العدالة الإنسانية، وأحد ميادين تجسيدها. فالعدالة الاقتصادية تحقيق مادي، أو محاولة تحقيق، في حقل الاقتصاد، لقيمة إنسانية نفسية اجتماعية هي قيمة العدالة. فهي بذاتها ليست القيمة الكلية إنها أحد وجوهها. وحصر النظرة الى العدالة في هذا الوجه بالذات اجتزاء للقيمة وحصر لها. وحصر النظرة الى الإنسان والإنسانية في زاوية الوجه الاقتصادي المادي وحده اجتزاء للإنسانية وحصر لها. وهذا يعرض الإنسانية وقيمها، ومن بينها العدالة، والعدالة الاقتصادية ذاتها، الى الجمود والتقلص وعدم القدرة على الحركة والفعل والنمو. فلا يستطيع جذر واحد جذر الاقتصاد مهما كبرت قيمته أن يؤمن التطور والنمو الصحيحين للمجتمع في كل مجالاته النفسية والمادية.

أما القومية الاجتماعية فإنها تقول بالقومية من زاوية القول بالأمة، من زاوية القول بالمجتمع الإنساني الأمثل الذي هو الأمة، ومن زاوية الولاء لهذا المجتمع الإنساني الذي «هو متجه القيم الإنسانية كلها ومصدرها وغايتها وضامن استمرارها» لأن القيم الإنسانية هي قيم اجتماعية. والاجتماع ليس شيئاً مقرراً بالاختيار من قبل الأفراد ينشأون خارج المجتمع ويقررون بإرادتهم الانتماء إليه.

ليس للفرد وجود «إنساني» خارج المجتمع. الوجود خارج الجماعة هو وجود «الوحوش» أو وجود «الآلهة» أرسطو . الإنسان هو بالضرورة كائن اجتماعي. ولا نعني بقولنا «كائناً اجتماعياً» أنه يعيش في المجتمع. يؤمّن فيه عيشه وأمنه وسلامته وأستمراره البيولوجي. بل نعني أن كينونته الإنسانية، وجوده الإنساني، حضارته، قيمه، مثله، غايته، لا تكون إلا باجتماعيته. لقد مرت ألوف القرون على الكائن البشري وهو في حالته البدائية الوحشية. يعيش بغريزته ويعيش لها. فلم ينشئ حضارة. لم يتأنسن. بدأت حضارته وبدأت إنسانية فقط في المرحلة الاجتماعية من تاريخه الطويل. في الجماعة التي لا يزيد تقدير تاريخها على بضع مئات من القرون. وسرعة نمو حضارته، نموه الإنساني، تزداد كلما زاد التلاحم العضوي والتفاعل في الجماعة. إن تطور حضارته وإنسانيته مرافق لتطور اجتماعيته وتلاحمها واكتمالها.

حتى «الفردانية» كقيمة يدعيها دعاتها- لا وجود لها في هذا المعنى إلا في الجماعة. فالفردانية، إن افترضنا أنها قيمة، هي بالضرورة قيمة اجتماعية. خارج المجتمع لا يدرك الفرد شخصيته الفردية فلسفياً. يدركها فقط غريزياً وبيولوجياً.

يقول «كانط»: «الإنسانية هي الموضوع والغاية وليست وسيلة لأي شيء. والشخص الإنساني هو الأول والمتقدم منطقياً وخلقياً. وهو في ذاته المنطلق والغاية». ويردد الفردانيون هذا القول معتبرينه غاية الارتقاء والتحرر. هذا قول يحمل خطأه في نصه. أجل إن الإنسانية هي الموضوع والغاية، ولا يجوز أن تكون وسيلة لأي شيء سواها. ولكن هل الإنسانية هي الفرد بذاته. الفرد في محدوديته. وهل للفرد بذاته إنسانية خارج الجماعة. أوليست الإنسانية ذاتها، التي تعطي الفرد قيمة ومعنى، أوليست هي قيمة اجتماعية كلياً ولا وجود لها إلا في الجماعة؟

قد يعتقد البعض أن في هذا القول محاولة ضمنية لشخصنة المجتمع باستقلال عن الأفراد. والمجتمع في ذاته لا وجود له. نعم، لا مجتمع من دون أفراد. المجتمع لا يقوم ولا يكون إلا بالأفراد في تعاقبهم وتتاليهم. وكذلك أيضاً لا أفراد «إنسانيين» من دون مجتمع. لا إنسانية من دون مجتمع. لذلك فالفصل بين الفرد الإنسان والمجتمع وكأنهما كائنان منفصلان قول خاطئ. لا يمكن أن يستقل أو ينفصل الواحد عن الآخر ويبقى. والنظر الى الفرد الإنسان والمجتمع وكأنهما نقيضان في صراع، قول خاطئ أيضاً.

النظرة السليمة هي الوحدة العضوية الحية التي تجمع الفرد الإنسان في مندمج إنساني حضاري مدرحي راق. هو إنسان سعاده. الإنسان المجتمع. «الذي يرفع الإنسان من حدود فرديته المنحصرة في إمكانياتها الى مطلق اجتماعيته المنفتحة على الكون» إن نظرة سعاده الى الإنسان أسمى وأرقى من النظرة الفردانية الخاطئة. لأن الفرد في حد ذاته وضمن ذلك الحد هو مجرد إمكانية إنسانية. ولا تصبح الإمكانية فعلاً، لا تحقق ذاتها، إلا بالجماعة. ولا تحقق ذاتها بأمثل ما يكون إلا بالجماعة المثلى، في المجتمع الأمثل.

وما هو المجتمع الأمثل؟ ماذا يقرره؟ ماذا يحدده؟ هل يضيق الى حد المتحد العائلي، أم يتسع ليشمل الوجود الإنساني العالمي؟

إن أمراً في مثل هذه الخطورة لا يجوز أن تقرره الأقوال الاستبدادية المطلقة. لا يجوز أن تقرره إلا الحياة ذاتها. الحياة في تطورها وخطها الاجتماعي. فالمجتمع الأمثل هو الذي تقرره وحدة الحياة الاجتماعية الطبيعية الكاملة المنفتحة على الإنسانية والمنطلقة من المتحد العائلي. فلا تضيق حتى تخسر مقومات البقاء والتقدم والارتقاء. ولا تتسع وتنفلش حتى تنعدم الصلات الحياتية والروحية بين الجماعة. وهذه الوحدة الحياتية المنطلقة من العائلة والمنفتحة على الإنسانية هي الأمة في تحديد سعاده. فالأمة هي الوسط الأكمل الذي تتحقق فيه إنسانية الإنسان على أرقاها. من هنا ولاؤنا القومي للأمة وحياتنا لها واستعدادنا للموت في سبيل صيانتها وسيادتها وحريتها وعزتها.

من هنا قولنا «أمة واحدة مجتمع واحد». وعلى هذه القاعدة الاجتماعية، قاعدة وحدة المجتمع تقوم وحدة المصالح، ووحدة الحياة، وعضوية الدولة، وتساوي الحقوق لأبناء الأمة. على هذه القاعدة فقط تقوم المصلحة العامة الصحيحة التي لا يمكن التعويض عنها بأية ترضيات أو مواثيق وطنية.

على أساسها تقوم قاعدة العدل الاجتماعي الحقوقي التي تساوي بين المواطنين والتي تنقذ الأمة من تناحر العصبيات الدموية والمذهبية والطبقية فتنتفي عوامل التجزئة، وتزول الأحقاد، ويمّحي الاستغلال وتسود المحبة القومية، فتنتفي مسهلات دخول الارادات الأجنبية في شؤون أمتنا الداخلية.

على أساسها تقوم قاعدة العدل الاقتصادي الحقوقي بين جميع المشتركين في الإنتاج القومي. وكل إنتاج في الأمة هو إنتاج قومي، المصلحة فيه للشعب، للمجتمع وليس للأفراد كأفراد. «إن ثروة الأمة العامة يجب أن تخضع لمصلحة الأمة العامة».

إن النظرة الاجتماعية في نهضتنا لا تنحصر في وجه من وجوه الحياة القومية بل تشمل كل نواحي الحياة الإنسانية في المجتمع القومي. «وغايتها الأخيرة هي الحياة وجمالها وخيرها وعزّها. هي المثل العليا والقيم الإنسانية. هي الفضائل والمناقب والأخلاق المتينة». وعلى هذه الغاية تلتقي مع الوحدات الاجتماعية في العالم، تتفاعل معها باحترام وثقة. وتتساند بمحبة إنسانية لبناء المدنية الإنسانية الشاملة.

أيها الرفقاء الأعزاء:

يبدو لنا بوضوح أن سعاده بإرسائه النهضة السورية القومية الاجتماعية على الفلسفة المدرحية وعلى العقيدة القومية الاجتماعية استند الى الواقع الاجتماعي في إطاره التاريخي، والى حكم العلم وسلطان العقل. فلم يتوجه الى عواطف المواطنين وغرائزهم وأوهامهم. بل توجه الى عقلهم باحترام منه للعقل الإنساني أساساً وللعقل السوري بالتحديد. فيجدر بنا أن نتوقف عند عقلانية النهضة نستشرف معالمها ومركزها.

العقلانية:

يقول مؤسس الحركة القومية الاجتماعية: «العقل في الإنسان هو نفسه الشرع الأعلى والشرع الأساسي. هو موهبة الإنسان العليا. هو التمييز في الحياة. فإذا وضعت قواعد تبطل التمييز والإدراك، تبطل العقل، فقد تلاشت ميزة الإنسان الأساسية وبطل أن يكون الإنسان إنساناً».

إن اعتبار العقل الإنساني الشرع الأساسي والأعلى في الحياة، وضع حداً في حزبنا للاتكالية القدرية والعقلية الغيبية في معالجة شؤون الحياة القومية الاجتماعية. ونقلنا دفعة واحدة من الركود والاستسلام للقدر، والأحكام للأبدية السرمدية، وللإرادات الغريبة، الى تسلم أمورنا بنفسنا وتقرير قدرنا في الحياة بإرادتنا. فانتقلنا من جماعة مسيّرة بجميع أصناف الأوهام الموروثة والإرادات الغريبة، الى جماعة مخيّرة فاعلة، تقرر بنفسها وبعقلها، بنضالها وجهادها، مصيرها ومصير وريثها في هذه الحياة.

وبما أن العقل هو ميزة الإنسان الأساسية، فاعتماد العقل إذن تجسيد لإنسانية الإنسان وتحقيق لها. وإذا كان العقل موهبة الله الأولى «فليس معقولاً إذن أن يعطل الله هذه القوة بشرع أبدي أزلي» فلم يبق عند القومي الاجتماعي أمر من أمور الطبيعة والحياة محرماً على العقل. بل أصبحت كل أمور الحياة الطبيعية والاجتماعية خاضعة لسلطان العقل المطلق.

من هنا كان رفض الحزب للدولة الدينية وعقليتها وترسباتها، والإصرار على دولة الإنسان. دولة العقل. الدولة العلمانية التي لا سلطان فيها إلا للعقل الإنساني الحر الواثق بنفسه والممارس القوة التي منحه إياها الله ليستعملها. والعلمانية شرط أساسي لأية نهضة تعتبر نفسها تقدمية ثورية. لأن الارتباط بمبدأ التشريع الديني المتحجر في شؤون الحياة يلغي التقدمية والثورية من الأساس، ويربط الدولة بالعقلية الرجعية الجامدة مهما حاولت أن تقتبس من الشعارات الثورية والإنجازات العلمية في حقول الاقتصاد والاجتماع وسواهما.

لكي يستطيع الإنسان أن يمارس إنجازات العلم والعقل بنجاح وتقدم، عليه أن يؤمن بالعقل والعلم، ويسلم بسلطانهما لكي تنسجم نفسيته مع الإنجازات العلمية التي يمارس في حياته الاجتماعية والمادية، ولكي تصبح له القدرة على الخلق.

إن هذا الموقف لا يعني إطلاقاً التنكر للدين كشأن روحي وجداني يهتم بما وراء المادة. إن الدين من أهم تراثات أمتنا. والحركة القومية الاجتماعية تفتخر بهذا التراث الروحي الرائد «وتقول بوجوب تأمين المؤمنين على معتقداتهم واحترام عقائدهم، وبإيجاد مبدأ المحبة والوئام القوميين لتسهيل تفاعل الأفكار والعقائد ضمن وحدة الأمة وسيادتها».

إن اعتماد شرعة العقل يصون النهضة من الجمود والدوغماتية المطلقة، ويبقي لها قدرتها على النمو، من ضمن قواعدها الأساسية، والاستجابة لتحديات العصر ومطالب الحياة المتطورة. ليس كافياً أن تنبثق مبادئ النهضة عن تأملات العقل وسلطان العلم وتتحول بعدها الى صنم يحط العقل رحاله عند قدميه بنفسية المتعبد المستسلم. فتنقلب النهضة الى كابوس يعطل نمو العقل ويمنع التقدم ويقف بالنهضة عند مستوى الانطلاقة الأولى، التي مهما تكن رائعة، إلا أنها تبقى متأثرة بالزمان والمكان اللذين نمت في نطاقهما. إن القوميين الاجتماعيين مستعدون لتحمل كل أصناف العذاب المادي والنفسي في سبيل نصرة مبادئهم التي أقرّها العقل والتي تبقى، من ضمن قواعدها، منفتحة على العقل يفعل فيها توضيحاً وتطويراً وإنماء بالاستناد الى معطيات الحياة الجديدة المتغيرة. ولكن من ضمن قاعدة نظام الفكر والنهج الذي الذي يصونها من الخروج عن قاعدتها الاجتماعية الأساسية، قاعدة نظام الجماعة العقائدية، التي لها وحدها يعود حق تقييم الاجتهادات الفردية وقولها أو رفضها استناداً الى نظام دقيق يقيها من البلبلة الفردية والأثرة الشخصية ويحفظها من التفسخ والإنهيار.

وبما أن النهضة القومية الاجتماعية تعتمد على شرعة العقل، لذلك فقد اعتمدت في دعوتها ونشر مبادئها على عنصري الفهم والمعرفة. إن الحزب يطلب من أعضائه الولاء الكلي للنهضة ولكنه لا يريد هذا الولاء على أساس عاطفي أو شخصي أو أي أساس غير أساس الايمان المبني على الفهم والمعرفة. يقول المعلم: «إذا لم نفهم أهداف الحركة وأسسها والقضايا التي تواجهها، لن نكن قادرين على فعل شيء في سبيل الحركة والعقيدة والغاية التي اجتمعنا لتحقيقها. فالمعرفة والفهم هما الضرورة الأساسية الأولى للعمل الذي نسعى لتحقيقه»، إذ ما نفع العقل إذا لم يستعمله الإنسان للمعرفة والفهم؟ والفهم والمعرفة يتنوعان بالنسبة الى كفاءات الأفراد. فإذا لم يستطع الأفراد فهم جميع قواعد الحركة ومنطلقاتها الفكرية، فإن من واجبهم، لكي يكونوا قوميين اجتماعيين، أن يفهموا على قدر طاقاتهم العقلية والعلمية، وأن يتجاوزوا الحد الأدنى الذي هو فهم مبادئ الحركة وغايتها وأخلاقها.

قد يحتاج هذا البناء الدقيق إلى وقت طويل. اإ من طبيعة القضايا الكبيرة أن تحتاج الى وقت طويل. يقول المعلم: «إن النهضة لا تبنى إلا على أساس متين. مهما استغرق وضع الأساس فلا بد من وضع الأساس. نحفر في الأرض الى أن نصل الى الصخور المثبتة التي يمكن أن نؤسس عليها البناء المتين الذي نتصور. إننا لا نضيع وقتاً في هذا العمل. غيرنا يبني على سطح الأرض. يجمع أكواماً من الرجال في برهة وجيزة وكيفما اتفق. من الرجال المتعددي النفسيات يظن أنها تقدر على عمل يمكن أن يسمى فتحاً أو انتصاراً، والسير بها جماهير لا أول لها ولا آخر. وحالما تصل هذه الجيوش الى مواجهة الخطوط الأولى يظهر ضعفها، وتفسُـخ نفسياتها، وتشوُش عقليتها، وتضارُب أفعالها وخططها، فترتطم وتصدم وترتد أمام الأعمال النظامية التي يقوم بها الأعداء. فتضمحل وإذا هي لا شيء. تطير هذه الجيوش أمام قوة تكون أقل منها بكثير» شروح في العقيدة صفحة 187 .

ليس هذا القول نبوءة وإن صوّر منذ عشرين سنة، حالة جيوشنا السورية والعربية في الهزيمة الأخيرة أصدق تصوير. إنه قول رجل عبقري، منظم العقل، علمي المنهج، واسع الاطلاع، يقرأ بعين التاريخ الثاقبة تتالي الأحداث في ضوء

العلم وهداية العقل. إنه قول قائد مسؤول. إنه قول ثائر صحيح الثورية. إنه قول معلم.

رفقائي الطلبة:

افهموا عقيدتكم، آمنوا بعقولكم، مارسوا نظامكم، أحيوا مناقبكم، انشروا نهضتكم، تابعوا نضالكم، مارسوا بطولتكم، تحققوا وجودكم وتنتصر ثورتكم.

سجن القلعة في 22 تشرين أول 1967

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى