حديث الجمعة

إلى أحلام مستغانمي

 

 

على الرغم من أنني قمت بشراء إصدارك الأخير «شهياً كفراق» منذ اليوم الأول الذي صدر فيه، لكنني كنت غالباً ما أهرب من قراءته كلّما وصلت للصفحة الخامسة منه، ربّما لأنني كنت خائفة من تذوّق طعم الفراق المرّ والذي لا يمكن أن يكون شهيّاً مهما رششنا عليه الملح والبهارات، فربما كان الفراق شهياً فقط لمن يكتبون عنه وليس لمن يقرأونه.. نكتب عن أوجاعنا لنهرب منها ويقع فيها الآخرون.. غالباً ما نختبئ خلف الاستعارات والمجازات كي نجمّل انكساراتنا ونستقطب من هم يشبهوننا.. ننصب لهم الفخاخ كي لا نقع وحدنا في حفرة الألم..

..  اليوم وبعد أن كان كتابُك هذا وجبةَ قلقي ليلة أمس، وكان الفراق يلوّح لي عن بُعد قصيدة، تجرّأت وغامرت بعد أن مدّت كلماتُك يدَها لتشدّني إلى عمق تلك الصفحات.. لا أنكر أنني في كل مرة كنت أشتري لك فيها كتاباً كنت أبحث عن خالد بن طوبال وعن حالة أعيشها كالتي عشتها في روايتك «ذاكرة الجسد» وعلى الرغم من أن خالد بن طوبال نفسه قد رافقك في روايتين أخريين لكن لـ «ذاكرة الجسد» امتداد خرافي في شرايين مخيلتي، تماماً كإصرار خالد بن طوبال على تقمّص جميع كائناتك الورقية.. ألم تعترفي أنك اكتشفت بأن ذلك الكائن الحبري ليس إلا «أنت»؟ بالطبع، وأنا أجزم أنني قرأتُ ملامحك في كل الشخصيات التي خلقتِها من ضلع ذاتك، حتى في كاميليا.. نعم تلك الصديقة التي تمسح الصمت عن مرآتك.. فليس ما كان ينقصك هو قصة تسمعينها من كاميليا كي تكتبي «نسيان. كوم»، وحده الألم من استنزف حبركأستطيع أن أتخيّلك وأنت تنظرين إلى عيني قطّتك لتري كاميليا في بريقهما وتتبسّمي حين تتذكرين قول الكاتب الإنكليزي ألدوس هكسلي: إن أردت أن تكون كاتباً فامتلك قططاً»، وهذا ما دفعك إلى اقتناء قطة.. عكسي تماماً، فغالباً ما أحاول الهروب من قطتي لحظة هبوط الوحي وذلك خوفاً على جن الإلهام الذي يهرب حين تتأهب قطتي لالتقاطه، تستطيع أن تتحسّسَ دبيبَ حضوره قبل أن تلمع الفكرة في ظلمتي.. كما أستطيع أن أراك وأنت تمسحين عن مكتبك رماد كل فكرة تحرقينها بعد كل خيبة، عكسي تماماً أيضاً، فأنا لا أكتب إلا بالرماد وذلك لأن الاحتراق لا يزيد لهيباً إلا كلّما قضم من ذاته، ورمادهلا داعي لأن تشعلي البخور لتطردي أشباح كتبك السابقة، فصدقيني لن نجد أنيساً لنا غيرها ولا ملهماً أصدق منها.. دعيها تتلُ عليكِ ما شاءت مما رأتهُ في بواطن الحيوات التي تهربين منها، ولا تقلقي فلن تسرقَ منكِ التماعة فكرة جديدة بل ستضرمها.. لا داعي أن تتبعي طقوس إيزابيل أللندي فحتى إيزابيل نفسها تطرد أرواح الكتب لتُعيد استحضارها من جديد.. ألم تستحضر روحَي جدّها وابنتها «باولا» اللذين كانا سرّ إلهامها لتحولهما إلى كائنين ورقيين؟

وكذلك تفعلين حين تستدعين روح قباني والقصيبي وأبيكِ وخالد و

لا داعي أن تسمعي همس «أغاتا كريستي» وأنت تغسلين الصحون لتحثك على البدء بكتاب جديد، ولا أن يرافقك هاروكي موراكامي إلى البراد في منتصف الليل ليواسيكِ إذا خانتك الفكرة.. أو هل تعلمين أن جورج صاند التي قالت «عندما تتقن شيئاً فأنت تتقن كل شيء»، قد فشلت في أن تكره.. هكذا قال لها فلوبير جوستاف:

« لو أنك أيتها الأستاذة العزيزة الطيبة تستطيعين أن تكرهي إنه ـ الكره ـ هو ما ينقصك..»

وهل عليها أن تتقن الكراهية كي تكون كاملة بنظره؟

أتعلمين؟ لم أُتقن يوماً غسل الصحون ولا تنظيف الزجاج والأرض ولا الغسيل والكي ولا حتى الطبخ.. لكنني أتقن جيداً ما أحبه.. يكفي أن تحبي ما تقومين به كي تتقنيه..

أنا الآن لا أعلم لماذا أكتب إليك وأخالفك الرأي، على الرغم من أنك كنتِ سبباً في إشعال الغيرة في قلمي مئات المرات.. وأقولها دائماً:

«أنا لا أغار من امرأةٍ سرقت مني رجلا كان على حجم أحلامي، لكنني أغار من كتاب يحمل فكرة على حجم معتقداتي ولا يحمل توقيعي أنا»..

وأعترف إليك أيضاً أن «ذاكرة الجسد» أدرجته في قائمة الكتب التي أغار منها..

المهم، ما أردت قوله لك الآن وأنا أبحث معك عن فكرتك الضائعة والجملة الأولى التي تفضّين بها بياض أوراقك، إنّ هذه الفكرة تموت حين تتلبّسها المادة وحين نتخذ الكتابة مهنة.. تهرب الفكرة حين تدرك أننا نريد أن نتاجر بها لا أن ندفع من حواسنا لنمتلكها ونقبض على معانيها بكل ما فينا من مشاعر.. لذلك لا تستمعي بعد الآن إلى نداء الناشر حين يطلب منك كتاباً جديداً يضيفه إلى رصيده في البنك، بل استمعي فقط إلى تلك الوشوشات الدافئة التي توقظك من النعاس، وإلى ذلك الضجيج الذي ينخر في عظام حرفك حتى يحوّله إلى كائن من حبر وورق….

ناريمان علوش

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى