أولى

لبنان والخيارات الصعبة: هل لأمراضه علاج؟

 العميد د. أمين محمد حطيط _

من المسلم به أن ما يعانيه لبنان من أزمات متعددة قادته إلى الانهيار، هو نتاج عوامل داخلية وقرارات خارجية تضافرت وتسببت في إنتاج الحالة البالغة السوء التي يتخبط بها لبنان والتي لا نغالي إذا قلنا بأنها للمرة الأولى التي تبلغ فيه هذا الحد منذ إنشاء لبنان الكبير وباتت تطرح أسئلة جدية حول إمكان استمرار لبنان كما شكله المفوض السامي الفرنسي في عام 1920 أو أن الواقع سيفرض صيغة / صيغاً أخرى بعد أن استنفدت الصيغة الأولى بذاتها واستنفدت كلّ العلاجات التي استعملت في إنقاذها طيلة القرن الماضي.

ففي الداخل نعلم جميعاً أن صيغة الحكم الطائفية قادت إلى نظام فساد ونهب نفذه المسؤولون في معظم المواقع ومختلف المستويات حيث بات من المسلّم به أن الوظيفة العامة في لبنان هي ملكية أو استثمار باسم الطائفة ويستفيد منها الزعيم \الرئيس وباتت الأموال العامة توزع حصصاً بين النافذين والبلد منهوباً وتمدّد النهب والسرقة حتى شمل الأموال الخاصة من أموال المودعين في المصارف ونام اللبناني مطمئناً لما بين يديه من ثروة نقدية تكفيه مؤونة نفسه وعياله واستيقظ ليصعقه مشهد الأموال وقد تبخرت والثروة ضاعت والعيال جاعت، أما اللصوص والسارقون فكلهم في حمى زعيم/ زعماء الطوائف الذين يتحفوننا بالمواعظ والمواقف والخطوط الحمر التي تتجاهل سرقات اللصوص وفسادهم وتدافع عمن تسبب بإفقار الناس.

أما على الاتجاه الخارجي فإن لبنان بات محل صراع دولي، صراع وصل إلى حدّ لم يسبق أن وصل إليه خلال قرن من الزمن منذ إنشائه، حيث تتواجه فيه بشكل علني مباشر 4 أطراف رئيسية بالحدّ الأدنى، تتلاقى أو تتناقض في ما بينها وفقاً لبعض الملفات ولكن يبقى لكلّ منها أهداف ووسائل ما يمكن إدراجه كما يلي:

ـ الولايات المتحدة الأميركية التي تنظر إلى لبنان باعتباره قاعدة لها ومنصة سياسية واستخباراتية وإعلامية وترى أنها استطاعت في السنين السابقة أن تبني فيه الدولة العميقة القائمة على القطاعات المالية والاقتصادية والإدارية حيث الشركات ومنظومة الاحتكار بالتالي فإنها قادرة على منع أيّ كان من المسّ بعناصر هذه المنظومة وترفض أي انفتاح لبنان على الشرق لأنه سيتسبّب بانهيار هذه الدولة العميقة ويفقد أميركا سيطرتها الفعلية، أما وسيلتها في المحافظة على سيطرتها فهي التهديد والتهويل بالعقوبات والحصار وتراهن على وهن المسؤول اللبناني وارتهان القطاعات المشكلة للدولة العميقة وعمالة بعض الطبقة السياسية التي تؤيدها.

ـ فرنسا التي ترى أن نفوذها في لبنان واستمرارها فيه هو حق تاريخي لا يمكن التنازل عنه وهي تزداد تمسكاً به كلما لاقت خسارة أو فشلاً في الإقليم عجزاً في القوة التنافسية لامتلاك مواقع استراتيجية في غرب آسيا، لذلك تجد أن لبنان حاجة لا يمكن أن تتخلى عنها أو تفرّط بها مهما كانت الصعوبات وهي في ذلك تدرك حجم الوجود الأميركي فيه، لذلك تحرص على السلوك المنسق مع أميركا من دون التماهي والتطابق معه بل تحتفظ بخصوصية تبقي للمشهد نكهة فرنسية خاصة، وتراهن فرنسا على عوامل سياسية وثقافية ودينية وبعض من عوامل عسكرية وأمنية واقتصادية للمحافظة على مواقعها في لبنان بشكل لا يكون متناقضاً مع أميركا وبعض العرب.

ـ المملكة العربية السعودية التي تعتقد أن من حقها امتلاك الموقع المتقدّم في لبنان باعتبارها الطرف المتقدّم عربياً وإسلامياً، واشتدّت أهمية لبنان بالعين السعودية في الفترة الأخيرة بعد أن باتت هزيمة السعودية في اليمن مؤكدة ومن دون أن تتضح أو تستقرّ فكرة تقدّم الموقع السعودي في العراق ومع الخسارة السعودية في سورية وعدم تمكن السعودية من امتلاك مفاتيح سيطرة يقينية في شمال أفريقيا حيث بقيت علاقاتها مع الدول العربية هناك أقرب إلى الندية منها إلى التبعية والسيطرة التي تريدها، لكلّ ذلك شكل لبنان حاجة سعودية استراتيجية. لكن السعودية اصطدمت بواقع مرير حيث أنها تحققت من فشل الأدوات التي اعتمدت عليها وعجزها عن تحقيق المطلوب رغم الفرصة التاريخية الذهبية التي توافرت لها في عام 2005 إثر مقتل رفيق الحريري، وعزت فشلها إلى نفوذ حزب الله في لبنان بشكل منَعَها من السيطرة عليه وبدل أن تعالج السعودية العوائق المتقدّمة تصرفت بالعكس فانسحبت من لبنان وأعلنت الحرب عليه تحت عنوان «إما أن نملك قراركم أو تجوعوا»، مع علمها بأن لبنان ليس بمقدوره أن يستجيب للطلب للسعودي في ظل العناصر الموضوعية التي تشكل واقعه.

ـ إيران التي يشكل لها لبنان رئة وخط تماس مع قضية استراتيجية أساسية أولى تعتمدها عقائدياً وسياسياً هي قضية فلسطين كما يشكل لبنان لها منصة إعلامية أساسية تكسر الحصار والمقاطعة الغربية لها، وأخيراً يشكل لبنان مع سورية والعراق واليمن الجبهة العربية الفاعلة التي تمنع عزلتها وتعطل تسعير النار الشعوبية أو أيّ صراع قومي أو مذهبي. لكل ذلك يعتبر لبنان بالغ الأهمية في الاستراتيجية الإيرانية التي ترمي إلى الاحتفاظ بوجود فيه من دون أن يتمدّد هذا الهدف أو السعي إلى درجة الرغبة بالاستئثار به كما هي حال أميركا والسعودية مثلاً. أما عناصر القوة بيد إيران لبلوغ أهدافها فهي علاقتها بالمقاومة الإسلامية التي يقودها حزب الله واستعدادها لتقديم أيّ مساعدة يطلبها لبنان الرسمي أو تتاح فرص إيصالها لمن يرتاحون للعلاقة معها من اللبنانيين.

هذه هي الدول الأساس الكبرى التي تخوض صراعاً على لبنان في أرضه وخارجها من أجل وجود أو نفوذ أو سيطرة ما كما ذكرت لكن هذه القوى ليست الوحيدة في هذا الصراع حيث أن هناك دولاً وقوى أخرى لها موقع أو طموح لا يمكن إغفاله وإذا تجاوزنا الوضع السوري الذي له خصوصية وفرادة في المشهد اللبناني لا يمتلكها أحد فإنّ هناك دولاً لا يمكن إغفال طموحها أو سعيها أو رغبتها في الوجود أو النفوذ في لبنان بشكل متفاوت في ما بينها وهي مصر والإمارات العربية المتحدة وتركيا والصين وروسيا، فضلاً عن دور ما لبريطانيا والتدخل العدواني “الإسرائيلي”.

إذن لبنان ساحة صراع دولي قائمة ويشتد هذا الصراع ربطا بتطورات الإقليم، ولانّ حال الإقليم اليوم هي على ما هي عليه من عدم استقرار في المراحل النهائية للحرب الكونية التي عصفت به خلال العقد الأخير المنصرم، فإنّ الرابح في الإقليم يريد أن يعزز ربحه بوجوده في لبنان، والخاسر يريد أن يعوّض خسارته في لبنان، وهنا تكمن مأساة لبنان التي أسس لها حكامه بصورة خاصة من تولى الحكم منهم في العقود الثلاثة الأخيرة الماضية، إذ لو لم يكونوا على هذا القدر من الفساد والانحطاط بالشعور الوطني لما كانت شرعت الأبواب اللبنانية للتدخل الأجنبي، ولما تحوّل لبنان إلى سلعة يتنافس أو يتصارع عليها الخارج.

وهنا ومع هذا المشهد الكئيب يسال المعني بالشأن اللبناني هل من حل ومتى؟ وهل لهذا التدهور من سبيل لوقفه؟ وكيف؟

هي الأسئلة تعصف في ذهن اللبنانيين. وتدفعهم عند العجز عن الجواب إلى الهجرة التي يتفاقم شأنها إلى الحدّ الذي بلغ فيه عدد المهاجرين منهم خلال السنتين الأخيرتين، نسبة تصل إلى 1/ 10 من مجموع اللبنانيين المقيمين في لبنانّ وهي طبعاً نسبة مخيفة تنذر بأبشع صور للمستقبل إن استمرّت الحال على ما هي عليه، معطوفة على واقع مأساوي يعيشه المقيمون. أما أجوبة هذه الأسئلة والحلول فإنها لا تتعدّى واحداً من اثنين أو الاثنين معاً:

ـ الأول: الحلّ الوطني الذي يحفظ الكرامة والسيادة والحقوق، حل لبناني داخلي، يمكن أن يتشكل من التقاء اللبنانيين في مؤتمر وطني تطرح فيه الهواجس والمخاطر والطموحات والرغبات، ويُصار فيه إلى تحديد مستقبل لبنان ونظامه وصيغ إدارته على ضوئها.

ـ الثاني: المسار الدولي الذي يتشكل عبر مؤتمر حول لبنان يشارك فيه من ذكرنا من دول أعلاه ويعمل فيه على تفاهم دولي حول موقع تلك الدول في لبنان، مع التزام مقابل باحترام الكيان اللبناني ومساعدة اللبنانيين على صياغة نظام يحفظ مستقبل وطنهم.

ـ يمكن أن يكون هناك مخرج ثالث يدمج بين الحلين.

نطرح هذا مع علمنا الأكيد بالصعوبات التي تجعل صعباً العمل بأيّ من الحلول أعلاه حالياً، ما يفرض التحضر لاستثمار الانتخابات القريبة ليتمّ اختيار من يقدر أن يخرج لبنان من مأزقه عبر معالجة أمراضه. فهل يبادر اللبنانيون إلى ذلك أم سيستمرون بالتأفف والأنين والهجرة أو الموت جوعاً ومرضاً من غير دواء…؟

*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى