أولى

الأميّة الأكاديميّة وإعادة إنتاج الجهل!

 د. محمد سيد أحمد

ليست المرة الأولى التي أكتب فيها عن الأميّة الأكاديميّة والتي تعني باختصار شديد عدم إجادة العاملين بالمجال الأكاديمي لفنون الصنعة والتي تتمثل في النظريّة والمنهج باعتبارهما الأساس الذي يُبنى عليه أي علم، وللأسف الشديد أصبحت الأمية الأكاديمية آفة المؤسسات الأكاديمية والبحثية في برّ مصر خلال العقود الأربعة الأخيرة، لدرجة تجعلنا نؤكد أنّ الغالبية العظمى من العاملين في هذه المؤسسات من الأميين، والاستثناء هم مَن يمتلكون فنون الصنعة ويجدون عمليات التنظير والبحث، وما يثير الدهشة حقاً تلك الجرأة التي أصبح يمتلكها هؤلاء الأميون الأكاديميون وفي حضرة كبار العلماء.

 فخلال هذا الأسبوع شاهدت موقفاً غريباً وعجيباً، حيث وجهت دعوة من أحد الأميين الأكاديميين لكبير علماء أحد التخصصات في مصر والوطن العربي لمناقشة أحد طلابه، وأثناء المناقشة العلميّة الجادّة للعالِم الكبير بدأ ذلك الأميّ يقاطع الرجل ويعترض على ملاحظاته العلمية الدقيقة بطريقة فجّة، أخرجت العالِم الكبير عن هدوئه المعتاد، واضطر أن يُنهي مناقشته معلناً عن أسفه لما وصل إليه العلم من تدهور وانحدار، وقرّر على الملأ أنه لن يقبل مرة أخرى المشاركة في مثل هذه المناقشات خاصة إذا كان المشرف من الأميين أكاديمياً، فإذا كان المشرف جاهلاً فحتماً سيكون طلابه من الجهلاء، فعندما تسود المجتمعَ الأكاديميّ غالبية من الأميين فإنّ النتيجة ستكون هي إعادة إنتاج الجهل.

 وأعلم منذ البداية أنّ الموضوع فيه محاذير كثيرة لشخص يعمل في المؤسسة الأكاديمية نفسها وأحد أعضاء الجماعة العلمية التي يصفها بأنها تعيد إنتاج الجهل، وأعلم كذلك أنّ فتح الملف سوف ينكأ جراح ويكشف عورات مؤسّسات ترسم لنفسها صورة ذهنية تقترب من القداسة، فدائماً ما نسمع مصطلح محراب العلم والحرم الجامعي الذي يعني أنه مكان مقدّس، فإنّ أيّة محاولة للاقتراب من المؤسسة الأكاديمية لنقدها سوف تجد من يخرج ليشهر عليك سيفه ويحاربك ويحاول النيل منك. وعندما حاولت الحديث مع بعض الزملاء الذين ينتمون إلى الجماعة الأكاديمية عن أنني أنوي فتح هذا الملف الخطير لعلّ ما أكتبه يصل إلى صانع القرار فيتحرّك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان، فوجدت تحذيرات شديدة من بعضهم عملاً بمبدأ (من خاف سلم/ وأمشي جنب الحيط/ وكُل عيش)، في حين وجدت من يشجعني على فتح الملف ويلحّ خاصة أنهم يعلمون معاركي الطويلة مع الفساد داخل المؤسسة الأكاديميّة.

وقبل الخوض في موضوع إعادة إنتاج الجهل على مستوى التعليم الجامعي وما بعد الجامعي لا بدّ من التأكيد على أنّ التعليم ما قبل الجامعي قد تحوّل إلى مكينة لإنتاج الجهل والتخلف. فالعملية التعليمية منذ البدء تعتمد على أساليب الحفظ والتلقين دون أيّة محاولة للفهم والنقد وإعمال العقل، بل إنّ الطالب الذي يحاول أن يستخدم هذه الملكات مصيره الاضطهاد والتنكيل والحصول على درجات ضعيفة لا تؤهّله لمواصلة مراحل التعليم التالية، وبالطبع هناك العديد من المظاهر السلبيّة التي يمكن رصدُها لإنتاج الجهل في مرحلة التعليم قبل الجامعيّ، لكنني سأستشهد هنا بمظهر واحد فقط وهو سيادة الدروس الخصوصيّة على حساب دور المدرسة، لدرجة أننا نلام عندما لا نعطي أبناءنا دروساً خصوصية، في حين كان جيلنا والأجيال السابقة عليه يعتبر الدرس الخصوصيّ وصمة اجتماعية، وأصبحت مهمة المدرّس الخصوصيّ هي تحفيظ وتلقين وحشو رأس الطالب بالمعلومات اللازمة لحصوله على درجات عالية لدخول الجامعة.

وينتقل الطالب إلى الجامعة وقد اعتاد على هذه الطريقة فيجد الغالبية العظمى من أساتذته يسيرون على النهج نفسه، وأية محاولة من قبل القليل من الأساتذة لتغيير تلك المنظومة ومحاولة إعادة تشكيل عقل الطالب لكي يستخدم للفهم والنقد والتفكير والابتكار تلقى عدم استجابة من الطالب من ناحية ومن القائمين على إدارة المؤسسة من ناحية أخرى، فدائماً ما يكون الأستاذ مطالباً بنتيجة مقبولة وإذا جاءت نسبة النجاح منخفضة يتمّ الضغط على الأستاذ لرفع النتيجة وإذا رفض تتدخل الإدارة برفعها ضاربة برأي الأستاذ عرض الحائط عن طريق ثغرة قانونيّة تسمّى بلجنة الممتحنين، وبذلك تترسّخ آلية الحفظ والتلقين ويفشل كلّ مَن يحاول أن يعمل ضدّها لإنتاج علم حقيقيّ بدلاً من الجهل، والنتيجة المتحصّلة من هذه العملية هي خريج تمكن من حفظ الكتب دون فهم أو نقد أو إعمال للعقل وملكاته المختلفة ويتصدّر الأكثر قدرة على الحفظ قائمة الأوائل ويعيّن معيداً بالجامعة ويتدرّج إلى أن يصل لدرجة أستاذ.

وبالطبع كارثة الكوارث تبدأ عندما يكون هذا الأستاذ الجاهل هو المسؤول عن إعداد طلاب الدراسات العليا الذين سيحصلون على درجات الماجستير والدكتوراة. وهنا حدّث ولا حرج عن عشرات ومئات وآلاف الرسائل العلمية في كافة التخصصات التي حصل عليها الطلاب من الجامعات المصرية تحت إشراف أساتذة لا يُعمِلون عقولهم ولم يتعوّدوا على تشغيل أدمغتهم بعيداً عن عمليتي الحفظ والتلقين، وإذا كان هناك أستاذ يرغب في تعليم طلابه أساليب مختلفة قائمة على الفهم والنقد وإعمال العقل سيفرّ منه الطلاب، وإذا شارك في مناقشة رسالة علمية ورفض منح الطالب الدرجة لعدم استحقاقه يجد زملاءه المشرفين يضغطون عليه ويقولون له انّ الدرجة تمنح لنا كإشراف وليس للطالب، وإذا رفض يتمّ استبعاده ولا يأتون به لمناقشة طلابهم مرة أخرى.

وبالطبع هؤلاء الأساتذة الأمّيون هم الأكثر سيطرة على كافة المناصب الأكاديمية وغالباً ما ينتقمون من كلّ ما هو متميّز وكلّ من يثبت أنه قد حاول استخدام عقله بعيداً عن الحفظ والتلقين، وقد أصبحت العلاقات الشخصية والمحسوبية والهدايا والرشوة أحياناً هي السبيل من أجل الحصول على الدرجات العلمية. هذا إلى جانب انتشار السرقات العلمية التي لا تعدّ ولا تُحصى وفي كافة التخصصات. والغريب حقاً داخل المؤسسة الأكاديمية أنّ آخر ما تهتمّ به الجماعة العلمية هو العلم ذاته، فغالبية الحوارات التي تدور داخل أسوار الجامعة بين أعضاء هيئة التدريس أبعد ما تكون عن العلم، لذلك فإنّ ما يتمّ داخل هذه المنظومة هو إعادة إنتاج للجهل، وإذا كانت هناك نيات حقيقية لإعادة بناء المجتمع وتحقيق نهضة فعلية فعلينا أن نقبل بالنقد الذاتي ونبدأ بتصحيح مسار هذه المنظومة برمّتها سواء في مرحلة التعليم قبل الجامعي أو الجامعي أو ما بعد الجامعي. اللهم بلغت اللهم فاشهد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى