أولى

لبنان في كنف «الانتداب الأميركيّ»!

 د. عدنان منصور 

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت الولايات المتحدة تنخرط بكلّ اندفاع وقوة في صياغة عالم جديد، يأخذ بُعداً شموليّاً، وهي تقود المعسكر الرأسمالي في وجه الاتحاد السوفياتي، الدولة العظمى التي قادت المعسكر الشيوعيّ لخمسة عقود.

الولايات المتحدة ما انفكت يوماً عن الترويج لمبادئها، وعلى تأكيد حرصها على نشر ودعم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم. فهي وإنْ حرصت على تطبيق هذه المبادئ داخل بلادها، إلا أنها وللأسف، طرحت جانباً هذه المبادئ والشعارات، وتعاطت مع دول العالم، لا سيما الدول النامية، والدول التي تمتلك ثروات طبيعية، من زاوية مصالحها المتنوعة، الاقتصادية والمالية والطاقوية، والأمنية والاستراتيجية.

لذلك، من النادر أن نجد دولة في أميركا اللاتينية، او في أفريقيا، او آسيا، او الشرق الأوسط، او أوروبا، أفلتت من التدخل الأميركي السافر في شؤونها الداخلية، أكان ذلك من خلال الضغوط السياسية، او التهديد أو العقوبات، أو الحصار، او الوقوف وراء الانقلابات العسكرية، وإثارة الفتن، ونشر الفوضى، وإشعال الثورات، وشنّ الحروب، بغية الإطاحة بالأنظمة الوطنية التي ترفض الهيمنة الأميركية عليها.

لا يهمّ واشنطن نوع الأنظمة التي تتعامل معها، أكانت ديمقراطية، او دكتاتورية، او عسكرية، او اوتوقراطية، او اوليغارشية، أو دينية طائفية، بمقدار ما يهمّها أن تتماشى هذه الأنظمة مع مصالحها وسياساتها التي ترسمها على خريطة العالم، وتكون في خدمتها.

ازدواجية المعايير والسلوك الأخلاقي الانتهازي، تجلى بشكل لا لبس فيه، عندما كانت واشنطن تطيح عبر جهاز مخابراتها CIA بالأنظمة الديمقراطية المنتخبة من قبل الشعوب، حيث كانت تعتبرها أنظمة مستبدة، تنتهك الحريات وحقوق الإنسان، على اعتبار أنّ «الجريمة» التي ترتكبها هذه الأنظمة بنظر واشنطن، تكمن في أنها تعارض سياسة الولايات المتحدة وتدخلاتها ونفوذها، وتقف في وجه سياسات الهيمنة التي تتبعها.

لكن «صدقية» ونظرة الولايات المتحدة حيال الأنظمة الدكتاتورية، والعائلية، والفردية، التي تنتهك فعلاً حقوق الإنسان، وتقمع الحريات، لها وضعية خاصة عند واشنطن، ما يدفعها الى غضّ النظر عنها، طالما أنها تدور في فلكها، وتعمل في خدمة مصالحها السياسيّة، والاقتصادية، والأمنية. بذلك تثبت الولايات المتحدة بشكل قاطع، انّ ما يعنيها هي مصالحها فقط لا المبادئ، حتى ولو جرفت مصالح أميركا في طريقها سيادة الدول وحقوق شعوبها، وحريتها، واستقرارها .

فأين لبنان من هذه المعادلة لجهة النفوذ، والتأثير، والاحتواء الأميركي؟ إذا كانت الدول حريصة على التمسك باستقلالية قرارها السيادي، في الداخل والخارج، بعيداً عن تدخلات القوى الدولية في شؤونها، فهل هذا الحرص ينطبق فعلاً على الدولة اللبنانية، وعلى القيادات السياسية التي حكمت وتحكم لبنان وتدير سياساته، حيث من المفترض فيها، المحافظة على سيادته، وصون قراره المستقلّ؟!

ضغوط أميركية شرسة ومتواصلة على البلد، ولا أحد من المسؤولين يعترض أو يرفض، او يندّد او يضع حداً لها.

واشنطن تتدخل في كلّ صغيرة وكبيرة، تراقب، تطالب، تنتقد، تملي، تعطي توجيهاتها، تلقن الدرس لهذا وذاك، تطلب وتأمر، و»المندوب السامي» يصول ويجول، متجاوزاً حدود تصرّفاته، والضوابط، والأعراف، والقواعد الدبلوماسية، غير عابئ بالأصول، واللياقات، فيما المسؤولون في سكون تامّ، وكأنّ على رؤوسهم الطير.

عقوبات تفرضها واشنطن على لبنان، وداتا المعلومات عن المؤسسات والأفراد والمصارف وما فيها من أسرار البلد ومسؤوليه، أصبحت في حوزتها، ولا أحد من المسؤولين يجرؤ على الاعتراض، أو يرفض تزويدها بما تطلبه من معلومات حساسة في غاية الأهمية.

واشنطن تلاحق لبنانيين، توقفهم، تحاكمهم، ولا أحد من المسؤولين يهتمّ بتوقيفهم، او يلاحق قضيتهم! وإذا ما أوقف لبنان عميلاً لـ «إسرائيل»، نجد المندوب السامي ومَن وراءه ينتفض ويحتجّ، ويطلب إطلاق سراحه، فيلبّى طلبه، وبعد ذلك يخرجه من البلاد بطريقته الخاصة المهينة !

دول تعرض على لبنان معدات وأسلحة مجانية، وفي مقدمة هذه الدول روسيا. إلا أنّ واشنطن تقف بالمرصاد، وتعترض على أيّة صفقة، فيما لبنان يستجيب لواشنطن ويرضخ لإرادتها !

الصين أعربت عن استعدادها للقيام بتنفيذ مشاريع تنموية وبنيوية، وخدمية كبيرة، ولبنان الرسمي يلتزم الصمت، «احتراماً» لتحفّظ أميركا السلبي على العروض الصينية .

إيران أعربت عن استعدادها الشديد منذ سنوات، ولا تزال، لتزويد لبنان، بالنفط والغاز والكهرباء، وبكلّ ما يحتاجه دون قيد او شرط، وبحوافز تشجيعية. كما ألحّت مراراً وتكراراً على الجانب اللبناني، تنفيذ الاتفاقيات والبروتوكولات الموقعة مع لبنان، في مختلف المجالات، والتي بلغ عددها أكثر من 32 اتفاقاً وبرتوكولاً منذ عام 1997 وحتى اليوم، دون تجاوب ملموس، فيما المسؤولون الذين يعيشون على كوكب آخر، صمّ بكم، صامتون كصمت القبور! صمت متعمّد، كي يرضى المندوب السامي!

لبنان يسعى للتنقيب عن النفط والغاز، وواشنطن تضغط على الشركات المختصة ملوّحة بالعقوبات عليها، للتوقف عن عملها، وحملها على الانسحاب من حقول التنقيب بذرائع وحجج واهية، ولا أحد يندّد او يبدي استياءه ـ وهذا أضعف الإيمان ـ من السياسة المستبدّة الظالمة بحقّ دولة وشعب.

واشنطن تتعمّد حصار اللبنانيين، وتجويعهم، وإرهاقهم، من أجل تركيعهم، وهذا يتمّ من خلال منع لبنان من التزوّد بالمساعدات الإنسانية والمادية الحيوية، وبأنواع الطاقة التي تخفف من معاناة اللبنانيين.

واشنطن تتدخل في تعيين أحد ما في مركز حساس، وتضع الفيتو على ملاحقة مسؤول آخر فاسد، الركن الأساسي لمافيا تهريب الأموال، والعلة والسبب الرئيس في انهيار العملة الوطنية، وفقدان ثقة العالم بالنظام المالي للبلد.

ليقل لنا رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وبكلّ صراحة، هل الدولة اللبنانية وحكومتها، والشعب اللبناني اليوم يعيش فعلاً في ظلّ دولة «الاستقلال» يقودها «الغيارى» على سيادة لبنان، وما أكثرهم»! أم أننا فعلاً نعيش في جلباب انتداب من نوع آخر، ألا وهو الانتداب الأميركي، الذي له الكلمة الفصل والقرار في كلّ صغيرة وكبيرة؟!

إلى متى سيظلّ لبنان واللبنانيون أسرى سياسات الولايات المتحدة، وهي تمارس أبشع سلوك القهر والإذلال بحقهم، بغية حملهم على الركوع، وأخذ لبنان في ما بعد، الى المكان الذي تريده واشنطن وترسمه له، حتى يكون تابعاً لها، يؤدّي دوره في خدمة مصالحها، ومصالح حلفائها، وعلى رأسهم الكيان «الإسرائيلي».

إلى متى ستظلّ الحكومات اللبنانية عاجزة عن اتخاذ القرار الوطني الحر، وغير قادرة على حسم مواقفها السياديّة المستقلة تجاه دولة تعاقبها دون وجه حق، وترفض بالتالي العروض والتقديمات والمساعدات من الدول الصديقة!

وهل عجز الحكومات في عدم اتخاذها الإجراءات، والقرارات الشجاعة التي تصون مصالح اللبنانيين، مردّه الى كون لبنان يقع فعلاً لا شكلاً تحت سلطة ونفوذ الانتداب الأميركي، الذي بحوزته بنك معلومات يحفظ فيه كلّ الأسرار والخفايا العامة والخاصة عن المسؤولين، التي تجعل منهم رهينة في يد الأميركي، الذي باستطاعته ان يبتزّهم في أيّ وقت يشاء، ويلاحقهم، ويكشف النقاب عنهم، وعن «أفعالهم العظيمة»، ويرفع متى أراد وحين تدعو الحاجة، البطاقات الحمراء في وجوههم، ومن ثم جرّهم الى استحقاق مكلف، مدمّر لهم، لا يتمنّونه لا من قريب أو بعيد؟!

الوضع الحالي في لبنان يذكرنا بالمادة 22 من ميثاق عصبة الأمم عام 1919، التي أشارت فيها «الى الانتدابات التي تشكل مجتمعات وصلت الى مرحلة من التطور، بحيث يمكنها الوجود كدول مستقلة معترف بها، وتخضع بصورة مؤقتة للمساعدة والنصح الإداري من قبل الانتداب، الى أن يحين الوقت الذي تصبح فيه قادرة على النهوض وحدها، وتكون رغبات هذه المجتمعات هي العامل الرئيسي في اختيار الدولة المنتدبة

لا ندري إذا كان لبنان حتى اليوم، لم يصبح فيه قادراً بعد، على «النهوض» وحده، وله الرغبة في اختيار دولة تنتدبه، و»تنصحه» و»تساعده» على طريقتها الخاصة !

أجيبونا يا قادة المنظومة السياسية «الحاكمة» وأدعياء السيادة، بصراحة على سؤال يحيّرنا، علّ منكم يأتينا الجواب الصادق، والخبر اليقين: هل نحن فعلاً في ظلّ دولة الاستقلال الوطني، أم نخضع «لمساعدة» و»نصح» وأوامر الانتداب الأميركي الجديد، ونعيش تحت ظله، إلى حين أن يصبح لبنان، عملاً بالمادة 22 للعصبة، قادراً على النهوض وحده

*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى