مقالات وآراء

لماذا لا للفدرالية…؟

} لواء العريضي

في الفترة الأخيرة رحنا نسمع أصواتاً كثيرة تجدّد نداء الفدرالية في لبنان، أصوات ربما تفضّل التقسيم لعدم مقدرتها على الانفتاح وتقبّل الآخر. لم يتناولوا الفدرالية علميّاً؛ تعريفها ونشوءها، بل جلّ ما يأبهون به هو فصل طائفي بامتياز لا يؤدّي إلّا لتقسيم وإضعاف الكيان اللبناني أكثر. وكأنّ ما فشل فيه الغرب في التقسيم عسكريّاً ينجح به أبناء الوطن سلميّاً. لكن علينا بحسن الظنّ دائماً والتعاطي مع هذه الأصوات على أنها نابعة عن قلّة معرفة علميّة لمفهوم الفدرالية وتداعياتها. لذلك سنقوم بتوضيح معنى الفدرالية وكيفية نشوئها ومستلزماتها مع بعض الأمثلة البسيطة عنها.

قبل التكلّم عن الفدرالية علينا التعريف بالكونفدرالية، التي يشبّهها علم السياسة بمرحلة الخطوبة قبل الزواج، والزواج هنا هو الفدرالية. الكونفدرالية هي مجموعة دول مستقلة ذات سيادة على أراضيها ولها كياناتها الخاصة دوليّاً، تنشأ بموجب اتفاقية أو معاهدة لتنسيق سياساتها في عدد من المجالات الاقتصادية والسياسية. هذه المعاهدة لا تلزم الدول الأعضاء بأيّ مقرّر إذ لم توافق عليه بالإجماع. بالمختصر، تَجمُّع الدول هذا يبقي لكلّ دولة استقلالها وشخصيتها الدولية وحرية توقيع المعاهدات الدولية دون قيد أو شرط. والجدير بالذكر أنه لا يوجد دول كونفدرالية اليوم لأنها جميعها تطوّرت وأصبحت فدرالية، باستثناء اتفاقية الدول الأوروبية الاقتصادية «الاتحاد الأوروبي»… ونرى أعضاء هذا الاتحاد دولاً ذات استقلالاً تامّاً وسيادة وتمثيل دولي مستقل كما ذكرنا.

في أغلب الأحيان عند نجاح تجربة الكونفدرالية، تبدأ بوادر الفدرالية بالظهور. والفدرالية هي مجموعة دول يتخلّى كلٍّ منها عن جزء مهمّ من سيادتها لمصلحة الدولة الفدرالية، تنشأ بموجب دستور يسمو على الدستور المحلّي لكلّ إقليم أو دولة ضمن هذا الاتحاد. تكون الدولة الفدرالية ذات شخصية دولية واحدة في التمثيل وصاحبة الحق في إبرام المعاهدات والاتفاقيات الدولية حصراً. والدول المؤسِّسة للفدرالية تفقد تمثيلها الخارجي وتصبح منصهرة بالفديرالية المكوّنة. فالخارجية والدفاع والمال هي من مسؤولية الدولة الجديدة فقط، لا أيّ إقليم أو ولاية من ولاياتها.

أحد أهمّ مقوّمات النظام الفدرالي هو وجود قضاء نزيه مستقلّ ومحاكم عليا تسمو على جميع القوانين أو الإجراءات التي تُقرّ محليّاً وتخالف الدستور الفدرالي. ففي الدولة الفدرالية كما قلنا أكثر من دستور وحكومة ونظام قضائي، نظام واحد للاتحاد الفدرالي وآخر خاص بكلّ إقليم. لذلك نرى على صعيد المثل قوانين في ولايات معينة لا تطبّق بولايات أخرى في الولايات المتحدة الأميركية في شؤون القضاء والسياسة والمجتمع، شرط ألّا تتعارض مع الدستور الأميركي.             

ليس بسرٍّ أنّ الفدرالية هي نظام يُطبّق اليوم في الكثير من دول العالم من بينها أكبر ثماني دول مساحةً. فهي تفيد أساساً هذه  الدول ببسط سيطرتها على كامل أجزائها مع المحافظة على خصوصيات كلّ إقليم من أقاليمها كما في الاتحاد السوفياتي سابقاً. وهنا تجدر الإشارة الى عدم الخلط بين الفدرالية واللامركزية الإدارية اللتين تختلفان كلّ الاختلاف. أما في الدول الأصغر مساحةً، فالفدرالية تنطلق من تاريخها والمزيج الاثني واللغوي وتفاعل السكان مع بعضهم البعض وتوافقهم على ضرورة التعاقد وبناء دولة قوية ومزدهرة.

لا وجود لدولة فدرالية واحدة مقسّمة على أساس طائفي، أو لا يتفق شعبها على أسس قيامها والهدف من وحدتها. فسويسرا مثلاً من أصغر الدول الفدرالية (لكنها أكبر من لبنان بأربع مرّات) مقسّمة لستة وعشرين كانتون، لكن سكان سويسرا هم مزيج عدة قوميات أوروبية تعاقدوا على إنشاء دولة، لذلك تعترف بأربع لغات رسمية وهي الألمانية، الفرنسية، الإيطالية، والرومانشية. وفي سويسرا ما زالت الديمقراطية المباشرة تسود وبنجاح. أما أساس هذه الفدرالية فهي كونفدرالية تطوّرت بفضل إرادة شعب قرّر تأسيسها والمضيّ بها، فلم تُفرَض عليهم من قبل محتلّ أو مستعمر.

أما في بلجيكا التي تُقسم الى إقليمين على أساس قومي، الأوّل لغته الهولندية والثاني الفرنسية بالإضافة الى العاصمة بروكسل التي تعترف بالاثنين كلغتين رسميّتين. نظامها ملكي حيث يقوم الملك «ذو الصلاحيات المحدودة» بتعيين رئيس الحكومة والوزراء. ما زالت حتى الأمس القريب تشهد أزمات سياسية وتغيّر في أقاليمها.

بالعودة لتجربة الكونفدرالية، لا تكون النتيجة دائماً بالتطوّر نحو الفدرالية، فاليوم في أوروبا يكثر الحديث عن تفكّك الاتحاد الأوروبي والعودة للقوميات المعروفة. مثلها مثل أيّ قترة خطوبة، قد يُكتب لها النجاح والمضيّ قدُماً أو الفشل.

في لبنان، نعلم أنّ بلدنا هو وليد اتفاقية المستعمر اثر تقسيم الأمة السورية أو سورية الطبيعية في اتفاق سايكسبيكو 1916 ثم أتى إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920 تجسيداً لهذه الاتفاقية وفرضاً على اللبنانيين. ثم تمّ إقناع اللبنانيين أنّ في مزيجهم الطائفي فرادة، فأبقوا على خيوط الدمى ممدودة للخارج في يد كلّ دولة خيط، ونتيجة هذه المسرحية كانت مئة عام من الألم والفقر والحروب وصولاً لازدراء الوضع اليوم. ثم يأتيك من يدّعي العلم بتجزئة ما هو أصلاً مُجزّأ.

هذه التجزئة تأتي على أساس طائفي، ولا نراها تخدم سوى العدو الصهيوني الذي لا يزال يعمل من ثلاثينات القرن الماضي حتى اليوم على يهوديّة «كيانه» وكان عند كلّ فرصة يحقن فكرة الدويلات الطائفية في أذهان رجال السياسة والشخصيات الدينية اللبنانية. ويبدو أنه نجح اليوم من حيث لا يعلم بعض اللبنانيين، بإيصالهم لقناعة التقسيم بعد فشل مصطلح «العيش المشترك» الذي فيه طائفية أكثر من الطائفية ذاتها. فالمشروع الغربي الذي يصبّ لمصلحة العدوّ تجلّى في خطة كيسنجر لتقسيم لبنان والمنطقة الى دويلات طائفية في سبعينات القرن الماضي، وفي أهداف العدو الصهيوني إبّان اجتياح 1982، كما أنّ أبرز معالمه تجلّت في الحرب على العراق وسورية وصرف مليارات الدولارات لتقسيمهما الى أقاليم طائفية متناحرة تبرّر يهوديّة «إسرائيل». وفي لبنان أعادوا المحاولة، بعد فشل الاجتياح العسكري، في السياسة عند اغتيال الرئيس رفيق الحريري وأيضاً فشلوا، فآن أوان ورقة الاقتصاد والتهديد بلقمة العيش للوصول للنتيجة «المرجوّة». وطبعاً التقسيم بحدّ ذاته هو هدفٌ أوّليّ على طريق «باقة الأهداف» الأخرى للعدوّ حيث يتوسّله لتحقيق مطامعه الكبرى.

لا شك أنّ ما يريده العدو يستحيل الاستفادة منه إلّا على الصعيد الطائفي الضيّق الذي يعيدنا لعصور التخلّف بدل التقدّم نحو الاستقرار والازدهار والأمان. فاستحالة الفدرالية في لبنان تقنيّة قبل أن تكون سياسية. بغضّ النظر عن صغر مساحته وتكوينته وبيئته الطبيعية، إنّ الدولة الفدرالية، كأيّ دولة، بحاجة لتوافق سياسي ورؤية مستقبلية واحدة واستراتيجية وأهداف مشتركة. فلو توفّرت هذه الشروط عند اللبنانيين اليوم، لما كنا نناقش هذا الموضوع. ففي كلّ دول العالم الفدرالية منها وغيرها، هناك اتفاق على أسس الدولة وهدف وجودها قبل تأسيسها، والتجاذبات السياسية تصبّ في مواضيع إدارية واقتصادية لا في المبادئ التي تقوم عليها الدولة. وهذه المبادئ نفسها مفقودة في لبنان. حتى ولو فُرضت الفدرالية فرضاً، ما هو هدفها؟ ما هي سياستها الدولية؟ ما موقفها من «إسرائيل»؟ هل تعطي صفة الشرعية للمقاومة؟ هل تتحدّى القرار الأميركي إذا لزمت مصلحة البلد الاقتصادية والسياسية؟ هل يعترف الدستور بالطوائف أم يتخطاها؟ ومن يمثّل المجلس الفدرالي وكيف يوزَّعون على «الكانتونات الطائفية»…؟ وغيرها من الأسئلة والمشاكل التي تبقى هي هي بغضّ النظر عن النظام السياسي.

عند دراسة أيّ نظام سياسي علينا التعمّق في أدق التفاصيل ورؤية الأمور من منظار المتعاقدين عليه عبر دراسة بيئتهم الاجتماعية ومراحل التطور التاريخي الذي لحق بهم ومعرفة كافة جوانب مجتمعهم والعوامل المؤثّرة في بنائه. فالمقارنة لا تكون فعّالة إذا ما تناولت أدقّ التفاصيل. ويصعب وجود دولة في العالم تتلاءم للمقارنة مع لبنان إذ أنه لا يوجد كيان غاصب في العالم كهذا الذي يحتلّ أراضينا ويؤثّر على السياسة ويدمّر الاقتصاد ويعمّ الأرض قتلاً وخراباً ويهدّد مستقبلنا في كلّ حين.

إنّ لبنان كيان صغير لا يحمل التجزئة، ووحيداً لا أمل له بالمجابهة. لذلك بدل التطلع نحو التجزئة علينا النظر باتجاه التوسّع والتقدّم والعمل على وحدة اقتصادية سياسية اجتماعية للتكامل والتكاتف مع سورية والعراق والأردن لأنه السبيل الأوحد للخروج من الخطر المحدق بالمنطقة. فلنجرّب الكونفدرالية على صعيد المشرق ولنتكامل غذائياً واقتصادياً ولنترك مستقبل هذا التعاون يقودنا، فقد نصل الى فدرالية مشرقية وأبعد منها الى دولة موحدة تلغي حدود الاستعمار والاحتلال وتفرض نفسها كأمّة قائدة بين الأمم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى