تأويلات فنّية بين إشكاليّة الفلسفة والتاريخ!
} طلال مرتضى*
بين مفهوم الجماليّة وإشكاليّة التعريف الفنّي تتمركز تيمات الفنّ. بشكل عام لكل نوع من الفنّ خصائص وصفات تشغل حيّزاً محسوساً يثير المشاعر وتجعله مختلفاً عن غيره من الفنون الاخرى، اي ان لكل مسمّى فنّي هويته وتعريف يخصّه عمّا سواه، وهذا ما يجعلنا قادرين على تمييزه وتصنيف جنسه الفنّي او العائلة التي ينتمي اليها، ما قادني الى القول، ان هذا الفرز يجعل لكل فنّ شخصية تخصّه وحده ومكوّنات بعينها يتشكّل منها مبناه..
وكمدخل اوليّ لفاتحة كتابية أؤكد أنه لكي نقرأ هوية اي منجز فنّي، نحتاج في البداية لفهم مجموعة الخطوط التي تتكوّن منها والسياقات التي يتمحور حولها ـبمعزل عن النتائج التي تمخّضت عنها نتيجة هذا البنيان الفنّي كمحصلة حاضرة ـ بدءاً من الاحاطة بالشكل الذي يعدّه النقّاد بالسياج الخارجي والكيان الداخلي المكوّن المنجز والذي يسهم في اظهار اللمسة الجماليّة للعمل.
هذا قبل الولوج الى المضامين التي تفسح لنا قراءة ما يطلق عليه «الفضاء» الكلّي للعمل الفنّي والذي ندركه بشكل محسوس من خلال الشكل الذي يتبنّى حضوره ويمنحه قدرة التوصيف، لكن لو اقتربنا الى مماحكة هذا الفضاء لوجدنا بانه حالة ايمائية للعمل الفنّي وتنتهي مقدرة حضوره عند حدود الاطار الخارجي، حيث يتموضع ضمن المساحة اللونيّة التي تهيمن على العمل الفنّي..
كل تلك العلائق والممكنات والخصائص التي تكوّنت بين يدي القارئ للعمل، تتحوّل بعد فكّ اكوادها قياسياً الى قيمة، تلك القيمة تبقى دائماً على ارتباط وثيق بالخطوط الاساسية لقيامة اي إبداع، كما نرى خطّ الضوء وخطّ اللون، وهما يتشابكان ويتقاطعان معاً بشكل وثيق لاجل اظهار كميّة الضوء المنعكس عن التدرّج اللونيّ الذي يتفاعل داخل اطار اللوحة بوصفهما المولدين الاساسيين للطاقة التي تجعل العمل حاضراً..
هذا ما اتاح لي الوقوف على تجربة ابداعية فنية لافتة وواعية، استطاعت الوقوف بثبات والظهور بشكل لافت في الساحة التشكيليّة النمساوية.
التشكيلية اليزابيث اروكا النمساوية استطاعت حجز مقعدها في المحفل الفنّي النمساوي على الرغم من ضراوة التنافس في بلد يُعَدّ حاضنة للفنّ التشكيلي والموسيقيّ. فهي لم تبقَ في محور الموهبة التي مكّنتها من الدخول الى اطار اللوحة الفنية، بل ذهبت لمنح هذه الموهبة مقومات اخرى غير التي تقدّمها كرسّامة محترفة، وذلك من باب ادراكها بان الرسم يمكن ان يكون حرفة او مهنة، ولكن كي يخرج من هذا المربّع نحو مربّع الإبداع لا بدّ من رفده بثقافة تحيله من حرفة الى فعالية يمكن القبض عليها بكل الحواس..
في الغالب الاعم نجد الكثير من الاعمال الفنّية تحمل الكثير من القيم والمدلولات الاشارية والرموز وغيرها وهي مكتملة ولها حضورها، لكن هذا الحضور منقوص، ولسبب مهم، هو بقاوها داخل محيطها الذي تشكّلت فيه، اي ان مرجعيّتها الثقافية مقروءة او مطروقة، ولهذا نجد في البلد او المدينة تقارباً في الافكار وتناسلاً في المشاريع الى حدٍّ كبير من التشابه، ويرد هذا الى ان هولاء المبدعين ينهلون من معين ثقافي واحد.
الدكتورة اليزابيث اروكا استطاعت وبجدارة الخروج من محورها المكاني لتسجل سابقة فنية نحو فضاء آخر مشمس «الشرق» لكونها تعلم ان الشمس هي القدرة الطاقية التي تعطي العمل الفني قيمة خاصة، وان التجربة الفنية الحقيقية هي التي يتم رفدها بثقافات متعددة، تسهم هذه الثقافات بفتح افاق جديدة او نسق فني لافت لكونه يحمل اكثر من هوية او مرجعية وذلك من خلال التشابك والتقاطع وليس التذويب..
ثمة وقفة او نقطة نظام لا بدّ من الوقوف عندها لبضع كلمات، تلك النقطة التي تلفت النظر حول تاثّر عدد كبير من الفنانين العرب بالفنون الغربية ومدارسها، بعيداً عن قصة القياس بين الفنّ الراقي او الهابط، وهذا ساهم وبالفعل في غياب الكثير من الفنون الاسلامية والعربية التي كانت ملهماً للبشرية في وقت ما، لكنني وعندما اجد فناناً اوروبياً يسعى وبكل ممكناته المتاحة لإحياء فنّ إسلامي عربي شارف على الاندثار، ذلك ما يستحقّ وقفة تاملية طويلة بعد النقطة الظاهرة نهاية السطر.
دخلت اليزيبث اروكا فنّ «المنمنمات» او التزويق من بابه العالي، وابدت براعة في تناوله وتطويره ليناسب مع محيطها، وهنا لا بد من تقديم لفتة مقتضبة عن فنّ «المنمنمات» والذي يعد من المدارس الفنية العربية الاولى والتي ارخت بظلال تاثيرها على الفنون العالمية منذ القرن الثالث عشر، وانبثقت من تحت عنوان المنمنمات العالي اسماء عدة مثل، فن النقش والتزويق والترقين وغيرها، فقد برع العرب بما نقشوه من زخارف على الجدران والمعادن والخزف والعاج والجلديّات وغيرها..
استطاعت الفنانة دمج هذا الفنّ الهجين بالنسبة لمرجعيّة ثقافتها الغربية وتطويعه ليخدم موهبتها، فهي ومن خلال امتهانها شغل المنمنمات لم تقم بتذويب ما تعلمته في مدارس الغرب الفنية ولم تلغ هوية المنمنمة، وهذا ما جعل فنّها رائعاً ولافتاً في عين الرائي، ومن المعروف ان المنمنمة في بلاد الغرب بقيت تدور في محور الفنّ الأيقوني الذي يتمحور بلبوس ديني، حيث استوحت كل افكاره من الكتاب المقدس، لهذا نجد بان الايقونة تختلف عمّا غيرها من الاعمال الفنية من حيث حدّة سطوع الضوء وتدرج الالوان، وهذا ما قامت بكسره اليزابيث اروكا عندما كسرت هذا الحاجز وبجسارة لتعيد لهذا الفنّ رهجته، لكن بطريقتها هي وثقافتها، فهي قامت باخراجه من سكونه اللونيّ الى حال الضوء، من خلال اشتغالها بالوان تمتاز بالحدّة والسطوع الضوئي الذي يسهم في ابراز المساحات الجماليّة للعمل الفنّي، اي فتح فضاء جديد.
على الرغم مما تركه لنا اجدادنا من منمنمات فائقة الدهشة والجمال، الا ان تمحورها في نطاق الدين وصبغها بخصوصيّته، جعلها هذا يدور في فلك السكون الذي يعطيها لمسة ايمانية هادئة. وهذا على عكس ما قامت به الفنانة والتي استخدمت الواناً متضادة وبقصدية مفتعلة وهذا ما اعطى لمشغولاتها على الخزف والقماش والجلديّات صفة المختلف..
يمكن تصنيف كل لوحاتها الفنّية تحت المعنون الأيقوني لكونها تتطابق من حيث الفكرة مع هذا الفنّ، ولكن بناء اللوحة مختلف كلياً، فهي تقوم بتشكيل لوحتها بالوان الماء كمرحلة اولى لتثبيت الفكرة الاساس داخل الاطار، وفي المرحلة التالية تذهب بتزويقها لتندرج تحت مسمّى الفنّ الأيقوني، ولكنها عمدت الى مخالفة من سبقوها في فنّ التزويق او حتى فنّ «الكولاج» الذي تبنّى لوحته مما هو مستهلك، اي اعادة تدوير كثير من الاشياء التي بدات تثقل كاهل البيية المكانية، مثل مخلّفات البلاستيك والزجاج والحديد وغيرها، لعلّ «الفنانة اليزيبث» نهجت الطريق ذاتها، لكنها اختارت مواد صديقة لبناء لوحتها، مثل لحاء الأشجار واوراقها والخيوط ذات المصادر الطبيعية..
ما يميّز لوحات اليزابيث هو اختيارها الدائم للون الازرق او الازرق السماوي كاساس اولي للوحتها، وهو لون يتوافق مع حضور الاصفر لكونهما يلتقيان في عدد من الصفات، كالصفاء والهدوء والتامّل، وهو ما يتيح لظهور اللون الاحمر الغامر بالعواطف الذي يزيد من الحالة الانفعالية بين التأملات المكوكيّة والعين القارئة.
*كاتب عربي/ فيينا.
