ثقافة وفنون

أمين الذّيب… وفكره التّجاوزيّ

} الدّكتورة درّيّة كمال فرحات*

في أمسية من أماسي معرض الكتاب العربيّ في بيروت منذ سنوات التقيت به لأوّل مرّة؛ فقد لفتني عنوان النّدوة التي كان مضمونها الومضة والقصة الوجيزة. وهو موضوع جديد على السّاحة الأدبيّة قد جذبني، فأصبحت مشدودة إليه كما تتّجه الفراشة إلى الضّوء.

رأيته يسعى إلى تيسير العمل قبل البدء في النّدوة، يعدو كمهرٍ جامحٍ، يترقّب الجميع كنسر يحلّق عاليًّا. يجلس على مقعده باطمئنان عقل مدبّر أعدّ برنامجه بدقّة، ينطلق من إيمانه بضرورة ابتكار رافعةٍ أدبيّةٍ نهضويّةٍ تغييريّةٍ تواكب مسار التّقدّم الإنسانيّ، وتسهم في نقل النّصّ الأدبيّ إلى شكلٍ أكثر تطوّرًا وإلى معنًى أكثر كثافةً، واعتماد شعر الومضة والقصّة الوجيزة، ويعني ذلك الاختزال اللّغويّ من حيث الشّكل، والتّكثيف من حيث المضمون.

نعم إنّه أمين الذّيب الذي آمن بمشروعه وسعى إلى تحقيقه، غير آبه بأي عائق يقف أمامه. وكان هذا اللقاء الأوّل هو فاتحة الطّريق في دخولي ملتقى الأدب الوجيز، أمّا لقاؤنا الأخير فكان في اجتماع ملتقى الأدب الوجيز قبل جائحة الكورونا، ونحن نحضّر لنشاطات موسمنا الثّقافيّ.

وكما رأيته في اللّقاء الأوّل كان في لقائه الأخير نشيطًا متيقظًا متحمّسًا، يريد أن يسابق الزّمن ويوجزه، ليحقّق مبتغاه. آمن بفكره التّجاوزيّ، يدأب على اجتراح معايير مغايرة ترتكز على منطلقاتٍ فكريّةٍ تناهضُ فكرةَ المداورةِ في زمانٍ ومكانٍ محدّدين، يؤمن بضرورة التّخلّص من تعميمَ ثقافةٍ راكدةٍ لها آليّاتُها ومنظّروها ومريدوها ومؤسّساتُها؛ طالما كانت حريصةً تاريخيًا على التصدّي لأيّ فكرٍ تجديديّ.

أفكارٌ أثارها أمين الذّيب،  فأسّس لفكرة الأدب الوجيز، هذا الأدب الذي فتح المجال أمام نقلة نوعيّة في الحقل الأدبيّ ستعي الأجيال القادمة أهمّيتها، وستعرف أنّ التّجاوز الذي نادى به مؤسّس الملتقى لم يكن كلامًا تجريديًّا بقدر ما كان استشرافًا عميقًا لحاجة مجتمعاتنا المُلحّة إلى هذا النّوع من الأدب.

وبما أنّ أمين الذّيب رفض البقاء في المكان، وتمرّد على الخنوع والتّكاسل، فقد تجاوز جائحة كورونا وبدأ يخطط لمتابعة العمل، متجاوزًا الصّعوبات، محاربًا التّراخي، رافضًا كلّ قيد، ناشدًا الوعي الثّقافيّ، قاصدًا الشّعاب المضيئة، مناصرًا كلّ عمل مبدع، فكانت اللقاءات المتعددة مع أعضاء الهيئة العامة للملتقى عبر التّواصل عن بعد.

ولأنّه صاحب فكر تجاوزيّ انطلق مع أعضاء ملتقى الأدب الوجيز إلى إحياء النّدوات الشّهريّة للملتقى عن بعد، فكان اللقاء الحواريّ مع النّاقد الدّكتور وجيه فانوس بعنوان «جماليّات البلاغة في الأدب الوجيز».

تجاوز أمين الذّيب حدود الوقت والمكان، فعمل في أيامه الأخيرة بكلّ ما لديه من قوّة، عمل لآخر نفس من دون توقّف، لكنّ قلبه لم يكن بمقدار تجاوز صاحبه، فأراد أن يحدّ من هذه الانطلاقة. فما كان من أمين الذّيب إلّا أن غافل قلبه، وتابع العمل من على سرير المرض، ناسيًا آلامه، مكابرًا على جراحه الجسديّة، متجاهلًا تعبه.

وكان له ما أراد، فعقد الملتقى لقاءً حواريًّا ناجحًا، هاتَفنا أمين الذّيب عبر الموجات الصّوتيّة مؤكّدًا استمرار العمل، واعدًا بندوات حواريّة مع قامات فكريّة، يمكن من خلالها تدعيم مقوّمات الأدب الوجيز.

وبما أنّ غاية أمين الذيب مفهوم الوجيز، فقد طبّق ذلك على حياته، فكانت وجيزة، وكان الموت أسرع، فوقف أمامه، طالبًا منه أن ينزل الفارس عن حصانه، لكن لا ليعلن الهزيمة، إنّما ليستمر هذا الفكر النّهضوي الذي آمن به، وحان الوقت كي نحقّق الوصية بمتابعة العمل، وهو ما يسعى إليه أعضاء ملتقى الأدب الوجيز لترسيخ ما دعا إليه مؤسس هذا الملتقى.

نعم هذا هو أمين الذّيبلم يهدأ يومًا ولم يتريّث، وهذا دأب كلّ من كان يملك فكرًا متقدّمًا. رحل عن دنيانا تاركًا بصمة مهمة؛ ملتقى الأدب الوجيز حلم نذر له الرّاحل حياته، وسيبقى هذا الملتقى وفاءً لإيمانه به.

 

 *عضو ملتقى الأدب الوجيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى