الوطن

لماذا مشروع خنق لبنان
ينحسر تدريجياً؟

 

} د. وفيق إبراهيم

وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان في لبنان مؤشر واضح على بداية تراجع تدريجيّة للمشروع الأميركي بخنق لبنان.

فما كان ممكناً للفرنسيين أن يخترقوا الحصار الاميركي على لبنان من دون إيماءات مشجعة من البيت الأبيض تقوم على الاستمرار بالتأديب القاسي إنما مع انفراجات ضرورية، وذلك خشية تمرّد لبناني يدفعه نحو بحري الصين وقزوين مروراً بسورية والى قلب دمشق.. فالجوع يستجلب انفجاراً اجتماعياً وبالتالي سياسياً، ولأن الكاردينال الراعي استشعر باحتمال بلوغ هذا التمرد اللبناني الوجهة الثقافية ـ التاريخية ـ الغربية للدولة سارع إلى إطلاق بالون «الحيادية»، في محاولة لردعه والإبقاء عليه تماماً كما كان في مرحلة تأسيس لبنان الكبير في 1920 مشروعاً فرنسياً ـ غربياً اعتقد بعض السياسيين المحليين والفئات الدينية أنه مصنوع لأجلهم.

في المقابل هناك قوى لبنانيّة لن تتأخر في بذل الملكات المتفوّقة لإبداعاتها في سبيل إقناع لودريان بفصل الداخلي اللبناني عن الإقليمي.

صحيح أنّ هناك ارتباطاً بين هذين العاملين، لكنهما على مستوى حزب الله قتلاً لا يستفيدان من هذا التمازج إلا بشكل ضئيلوالدليل أنّ هذا الحزب لديه دور إقليمي كبير عسكري وثقافي وسياسي يصل الى أعالي صنعاء، لكن حجمه في السياسة التنفيذية اللبنانية، لا يزيد عن دور تنظيم سياسي محدود

هذه النقطة هي التي تستنبطها أجهزة الاستشعار عند رئيس المجلس النيابي نبيه بري وتتمسّك بعرضها لـ لودريان انطلاقاً من أن العلاقات السياسية العميقة للسعودية والولايات المتحدة الأميركية وفرنسا مع القوى السياسية اللبنانية هي من العمق بحيث إنها تؤثر على العلاقات الخارجية للدولة، في حين أن السياسات الخارجية والداخلية لحزب الله، يجري تنسيقها عند الرئيس بري لمدّها بما يؤكد على لبنانيتها وبعدها عن المذهبيات والطائفيات وحتى الإيرانيات.

إنّ هذا التنسيق بين الثنائي الشيعي يجعل الدور الإيراني في لبنان غير موجود إلا من خلال بعض الإطلالات الخجولة للدبلوماسية الإيرانية.

فماذا استفادت إيران من الداخل اللبناني على الرغم من أن حليفها حزب الله يتمتع بقوة داخلية ودور إقليمي يزيد عن أدوار الدول، فيما يسرح سفراء السعودية والإمارات والأميركيين والأوروبيين وكأنهم في منتجعات في بلادهم، ممسكين بعشرات القوى السياسية، التي تتموّل منهم، ويتلقى بعضها تسليحاً وتذخيراً من جهات خليجية وغربية.

يبدو إذاً انّ الرئيس بري ذاهب نحو عرض ضرورات الفصل بين الداخلي والإقليمي للوزير لودريان في مسألة التعامل مع لبنان، وهي مسألة غير قابلة للتعديل مهما ارتفعت صيحات الكاردينال المتقاطعة مع الحصار الأميركي ـ الغربي.

ولن يبخل الرئيس بري على لودريان بتنبيهه الى ان لفرنسا أدواراً لبنانية تاريخية يجب أن تكون دافعاً لها لرفض الفكرة الأميركية بخنق لبنان، لأن لبنان هو الممر الإلزامي «للأمّ الحنون» لتصل إلى «إعمار سورية» ونفط وغاز العراق وإيران وثروات اليمن.

هناك جانب آخر يلتزمه الرئيس بري بالقناعة وليس بالتكليف السياسي ـ لأنه الوحيد بين الرئاسات الدستورية الثلاث الذي يمثل الى جانب الدور الوطني مسؤولية الدفاع عن جنوب لبنان والعلاقات مع سورية.

لذلك فلن يتأخر عن تأكيد تمسك لبنان بآبار النفط 8 و 9 عند الحدود مع فلسطين المحتلة، ولبنانية المزارع المحتلة ونصف بلدة الغجر وضرورة المحافظة على قوات الطوارئ الدولية كآليات فصل بين بلدين متحاربين يمران بمرحلة هدنة. وهذا يعني رفضاً كاملاً لأي «تحوير» في وظائف الطوارئ بما يجعلها آلية لضبط الأمن لمصلحة «إسرائيل» في القرى اللبنانية الحدودية.

أما عن الطوارئ على الحدود مع سورية فقد يعتبرها الرئيس بري «نكتة سمجة» لعدم وجود حالة حرب مع لبنان، أو عمليات عسكرية أو حتى عداء سياسي، فعمليات التهريب بالإمكان إجهاضها بواسطة الأمن والجيش اللبنانيين بالتعاون مع الجانب السوري.

ويبدو أنّ لودريان يدفع باتجاه إعادة تشكيل حكومة جديدة يترأسها أحد عباقرة 14 أذار وذلك ضمن شروط التعاون الاقتصادي مع فرنسا.

هنا لن يتورّع الرئيس بري عن تنبيه لودريان بأنّ الرئيس السابق سعد الحريري هو مَن استقال من الحكومة رافضاً تشكيل حكومات أخرى، والخشية أن تستقيل حكومة حسان دياب ولا تتمكّن القوى السياسية من تشكيل بديل عنها.. فيقع لبنان أسير الحصار الأميركي والفراغ الحكومي، علماً أنّ بري يعرف ان الإنتاج المحدود لهذه الحكومة هو الضغط الأميركي الذي منع الصناديق الدولية والخليج وفرنسا ومؤتمراتها من إقراض هذه الحكومة قسماً من حاجاتها لمعاودة الانطلاق.

لذلك فإنّ التمسك بالحكومة واجب عند الرئيس بري الى أن ترد المساعدات الخارجية والقروض وتبدأ رحلة الانطلاق بما يشجع على الاستقرارين الاجتماعي والسياسي، وقد يتطلب مثل هذا الأمر انتظار ولاية الرئيس عون او الانتخابات المقبلة.

أما بالنسبة لتلزيم شركات فرنسية وأميركية لبعض البلوكات النفطية، فهذا معقول في إطار التسويات الكبرى التي تسمح إخراج لبنان من حالة الخنق الأميركية، مع فتح أبواب المناقصات لشركات روسية وربما صينية وإيطالية.

هناك مَن ينسب إلى رئيس المجلس نبيه بري ترجيحه تخفيف الأميركيين حصارهم على لبنان، بسبب تخوّفهم من انهيار البيئة السياسية الداخلية الموالية لهم من دون ايّ إصابة فعلية في بنيان حزب الله، فهذا الأخير لا يتعامل مع الأنظمة المصرفيّة والاقتصادية اللبنانية، بما يعني عدم تأثره من تراجعها.

أما السبب الآخر الذي يرك عليه فهو تصاعد القتال الصيني الأميركي الاقتصادي والسياسي والثقافي والدبلوماسي والزاحف نحو مواجهات عسكرية تقليديّة في بحر الصين الجنوبي، حيث ترابط البوارج الحربية الأميركية، ويحشد الأميركيون دول هذه المنطقة لقطع علاقاتها بالصين

لذلك فإنّ هناك ضرورة أميركية تفرض منح لبنان أسباباً تخفيفية، وهذا ما استشعره الرئيس بري، محاولاً الاستفادة من نتائجه في المفاوضات مع ممثل فرنسا وبالتالي الاتحاد الأوروبي لودريان بما يسمح بعودة لبنان الى وضع أقرب الى الطبيعة في إقليم ملتهب وعالم يتجه إلى نظام قطبي جديد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى