الوطن

الاستشارات متوقفة على «صوص ونقطة»
الحريري وباسيل وإذا «مش هذا الخميس اللي بعده»

} علي بدر الدين

يؤخذ علينا من البعض أننا نبالغ كثيراً في إظهار التشاؤم، وفي إقفال باب التفاؤل، وكأنّ قاموسنا خال من هذه الكلمة، ونظرتنا إلى الأوضاع في لبنان، قديمها والمستجدّ منها والمتوقع لها، دائماً سوداوية ومأساوية وتنذر بالشر المستطير. مع أنّ التفاؤل مطلوب، وهو الأكثر حاجة وضرورة للشعب اللبناني في أصعب مرحلة يمرّ فيها، علّ ذلك، يخفف من احتقانه وخوفه وقلقه، وتفادي أخذه إلى توقع الأسوأ والمصير المجهول.

 نقدّر لهذا البعض مشروعية هواجسه، ونتفهّم التزامه وإيمانه بقول لأحد رجال الدين الشيخ عباس حرب العاملي «التفاؤل هو أن تتعلق بفرج الله ولو كانت المعطيات كلها ضدّك».

إنها دعوة صريحة للصبر، والعودة إلى الله لمواجهة ما يتعرّض له هذا الشعب المسكين من ظلم وقهر وفقر وجوع ووعود كاذبة. والشيخ هو القائل أيضاً: «الوعود خيبات أمل مؤجلة»، و»الفقير لا يموت جوعاً فحسب، بل يموت قهراً وظلماً». وهذا لا يعني أنه يمكن التعويل على التفاؤل والتشاؤم، والبناء عليهما لتحديد مصائر الأمم والدول والشعوب، أو لحلّ أزماتها ومشكلاتها الضاغطة بقوة، والعصية على المعالجة، كونهما ليسا سوى رغبات وأمنيات وآمال، لا ترجمة واقعية لها.

كلّ ما يمكن أن ينتجه التفاؤل من دون معطيات أو إشارات إيجابية، هو فقط إطالة أمد الأزمات وتخدير الشعوب، والتمسك بوهم الحياة والصبر على المكاره والمظالم والفقر والجوع والبطالة والمرض، في حين انّ التشاؤم يدمّر ويزرع الخوف من الزمن الآتي من دون مبرّر، ويفقد الأمان والاستقرار اللذين سيكونان أشدّ وأقسى، ويقتلان الأمل بالتغيير.

لا يفيد الغوص أكثر في أعماق ومعاني هذين المصطلحين، إنما نحاول من خلالهما، إبراز حال الواقع اللبناني السياسي والطائفي والمذهبي والاقتصادي والمالي والمعيشي والاجتماعي الرديء والمأزوم جداً، وما اقترفته الطبقة السياسية والمالية الحاكمة والمتحكمة والمسيطرة كلياً على مفاصل الدولة والشعب والاقتصاد والمال والمؤسسات منذ اتفاق الطائف، من خلال مواقعها السلطوية وأزلامها الذين زرعوا في الإدارات والمؤسسات الرسمية والمصالح المستقلة الصناديق والقطاعات الإنتاجية والنقابات والجمعيات والمصارف الرسمية والمشتركة والخاصة، حيث عاثوا فيها فساداً ونهباً واهتراء وفوضى وفلتاناً، وتحويل معظمها أو بعضها إلى ملكيات حصرية خاصة، كأن لا علاقة للدولة فيها، سوى دفع الرواتب والنفقات وتخصيص الموازنات.

من نتائجه وسلبياته وكارثيته هو ما حصل على مدى ٣٠ سنة، من فساد ونهب ومحاصصة وإهمال وحرمان وهدر، في ظلّ عهود وحكومات متعاقبة، نجحت في تجديد النظام السياسي الطائفي والمذهبي، وفي إعادة إنتاج نفسها، من خلال قوانين إنتخابية مشوهة ومشبوهة.

كلها عوامل، أدّت الى تراكم الديون، والانهيار الاقتصادي، والافلاس المالي، وتعميم الفساد، والسطو على أموال المودعين في المصارف بالدولار وبالليرة، وصولاً إلى التمهيد والتهديد برفع الدعم عن الدواء والمحروقات والطحين. ما شجع «المافيات» على الخروج من أوكارها والمتاجرة بصحة المواطن وسلامته، بعد أن اطمأنت إلى وضعها وإلى ظهرها المحمي من أولياء نعمتها الطائفيين والمذهبيين والجشعين في السلطة وخارجها، ومن انعدام المحاسبة والعقاب. لأنّ نظريتهم تقول «لكلّ شيء ثمنه» و «اللي بتعرف ثمنه اقتله»، و»طعمي التمّ تستحي العين» وتغضّ طرفها عن المرتكب الفاسد والسارق وحتى القاتل.

وقد وصل سيف المتاجرة إلى» كورونا» القاتل، الذي له تداعيات خطيرة جداً على الناس والمجتمع والعمل والإنتاج، وفق ما يتمّ تداوله عن تحديد سعر فحصه الذي يبدأ من ١٥٠ ألف ليرة، ثم٣٠٠ ألف ليرة، ليصل إلى أكثر من مليون ليرة. إضافة إلى معاناة الشعب في هذا البلد المنكوب من «مافيات» الدواء وشراكة وتواطؤ ثلاثي المستورد والمستودع والصيدلي، وقد كشف وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال حمد حسن أوكاراً لإخفاء الدواء واحتكاره.

هل ما تقدّم من وقائع وأحداث مأساوية وإفقار للشعب وتجويعه واستغلال ضعفه وسلبه حقوقه وكرامته ولقمة عيشه، ما يدعو إلى التفاؤل والانتظار الصعب والمميت؟ أو ان يبقى الرهان على الطبقة السياسية، ومتى تخلع جلدها الناعم المسموم لأنها وحدها المسؤولة عن إدخال

 الشعب في عنق الزجاجة الخانق، حيث تضيق الخيارات، وتنعدم المخارج، ويصبح كـ «بالع الموسى» مقتول في الحالتين، وقد يحتاج الى معجزة لخلاصه، كما حال الوطن، الذي فقد مقود الأمان، بعد أن خرّبته هذه الطبقة لسرقته ومراكمة ثرواتها والنفاذ بريشها من دون مساءلة أو محاسبة!

وهو اليوم كسفينة تائهة في البحر تتقاذفها الأمواج وتتلاعب فيها الرياح، وقد هجرها قبطانها ومصيرها الغرق، بعد ان تخلت عنها قيادتها وفضلت مصلحتها عليها وتركتها تغرق بحمولتها من البشر ومن ضرورات الحياة. وقد لا يسرع الآخرون لانتشالها لأنهم فقدوا الثقة بقادتها.

ويريدون ثمناً باهظاً من نفط لبنان وغازه وقراره وسيادته واستقلاله وحرية شعبه.

هذه الطبقة الفاقدة للقرار والسيطرة والثقة من شعبها ومن المجتمع الدولي، عاجزة اليوم كلياً عن تشكيل حكومة، أو حتى فعل أيّ شيء آخر، سوى أنها تحوّلت إلى مضرب مثل في الخربطة والتعطيل والعرقلة، وفي رفع منسوب خطابات التفرقة والتحريض وتوجيه الإتهامات وتغذية الصراعات وتعميم الانقسامات، وتفاقم الخلافات على المصالح، او على تعيين وزير من هنا، وحقيبة من هناك، يطول كثيراً حبل فضائحها المكشوف منه، والمخبّأ الأعظم والأقسى.

الأسوأ من كلّ ما حصل ويحصل، أنّ لبنان رغم تدحرج كرة ناره التي أحرقته، وأخضره ويابسه، وأضعفته، واهتزاز هيبته ومكانته بين الدول القريبة والبعيدة، وانهيار اقتصاده وإفقار شعبه حتى الجوع، وتفشي كورونا المخيف.

فإنّ تشكيل حكومة دونه عقبات وعراقيل وعصيّ في الدواليب، وطغيان للمصالح والنفوذ وأجندات، وتصفية حسابات ورهانات، تبدأ بالإستشارات النيابية الملزمة لتسمية الرئيس المكلف، والتي تأجّلت إلى الخميس المقبل، ومعلقة على حبل خلاف شخصي وتحاصصي وكيدي «وتكبير راس» بين سعد الحريري وجبران باسيل، من دون أن نلغي دور الخارج ومصالحه وحساباته.

 البلاد معطلة والشعب ينزف إلى حدّ الموت جوعاً او مرضاً أو قهراً، بإنتظار أن ينجح «الأوادم» في التوسط بينهما وجمعهما على طاولة واحدة ومصلحة مشتركة وتركيب تسوية قصيرة الأجل، لاغالب فيها ولا مغلوب سوى الوطن والشعب.

المهمّ تمرير الإستشارات النيابية وتشكيل حكومة «نظيفة» مقنعة ومطعمة ترضي كلّ «الأذواق».

 لم يوفق المصلحون الذين يضخون طاقاتهم ويضاعفون جهودهم من أجل جمع الرأسين على «مخدة» واحدة بإقناع أحدهما لزيارة الآخر او التلاقي في مكان محايد. حفظاً لماء الوجه والكرامات وإرضاء للبيئات الحاضنة، وليس للوطن والشعب.

يعني بكلّ بساطة أنّ بدء الاستشارات وتشكيل الحكومة، متوقفان على «صوص ونقطة» الحريري وباسيل، ويعني أيضاً وفق بيان كتلة لبنان القوي الأخير ومواقف قريطم ونواب المستقبل، أنه لغاية اليوم فشلت كلّ مساعي التقارب وفكفكة عقد الخلاف التي لم يبح عنها أحد، وقد لا يعلمها سوى الله والراسخون في علم السياسة اللبنانية غير المسبوق.

لا مؤشرات في المدى القريب، تدلّ على نجاح الوساطات الداخلية ولا الاتصالات الفرنسية المتواضعة مع رجلي النزاع اللذين صعدا سلّم المجد السياسي بغفلة من الزمن ولظروف قاهرة ومعلومة، وهما اليوم عن قصد أو من دونه يربطان مصير البلد وشعبه والحكومة بتصالحهما أو عدمه، وكأنهما في حلبة مصارعة، وانتظار لمن تكون الغلبة، ومن يصرخ اولاً.

هذا مؤشر كاف لتأجيل المؤجل من الاستشارات إلى أجل غير مسمّى، قد يكون إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث الرهان على تقاطع المصالح الإقليمية والدولية، ولبنان سيكون جزءاً من التسويات المحتملة، وعندها تفتح الطريق أمام تشكيل الحكومة.

 كان الله بعون شعب لبنان الذي سيعاني كثيراً في الآتي من الزمن، في ظلّ طبقة سياسية لا تتوب ولا ترحم ولا ترحل. نقول لهذه الطبقة المستبدة والجشعة التي كانت ولا زالت وبالاً وبلاء وداء على هذا الشعب كما قال الشيخ العاملي: «لسنا قطعاناً لإقطاعاتكم تديرونها كما شئتم»، و «ليس حراً من يُهان أمام شعبه ولا يشعر بالإهانة»، و «مَن تحت إبطه مسلّة بتنعَره»، وفهمكم كفاية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى