الوطن

العراق في محنة الاستعمار والانقسام الداخليّ

 د.وفيق إبراهيم

هذا بلاء كبير عندما يجتمع الانقسام الداخلي بطابعيه القومي والمذهبي، مع استعمار أميركي يستثمر في أصغر انواع الخلافات، فلا بد عند ذلك من أدراك مرحلة اضطرابات وفوضى تبعثر البلد الى أجنحة وزوايا، لا يستفيد منها عادة الا المستعمرون.

فهل من المصادفات البريئة، اقتراب العراقيين من مرحلة الإصرار على الانسحاب الأميركي من بلادهم وانفجار الوضع الداخلي في اضطرابات دموية بين ابناء الصف الواحد في مناطق ذي قار والناصرية في الجنوب وبغداد العاصمة، مع تحرّك كردستان نحو مزيد من الانفصال عن الدولة، وارتفاع معدلات المضطربين والمتذمرين في الوسط؟

للإشارة، فإن موعد الانتخابات المقبلة في حزيران المقبل، بمعنى أن الفوضى الحالية ليست استعداداً لها.. لذلك فإن حركة مقتدى الصدر بمحاولة التصدي للمتظاهرين في الناصرية وذي قار وبغداد واستحواذ مؤيديه على الساحات العامة في معظم مدن الجنوب العراقي وبغداد، تشكل عرض قوة كما تذهب لإجهاض محاولات أميركية وأخرى من جهات داخلية عراقية للاندساس في تظاهرات مطلبية شعبية لتحويلها الى أداة سياسية لتقسيم العراق.

ما هي مكوّنات المشهد العراقي الحالي؟

الاحتلال الأميركي هو الآلية الأولى التي لا تعتمد على ألوية عسكرية فقط، بل تستفيد من تسعير الانقسامات الداخلية القومية والمذهبية والعرقية منذ احتلالها للعراق في 2003 وحتى اليوم، وكلما أدرك العراقيون بدايات استقرار سياسي، يصلون فيه الى حدود المطالبة بسحب القوات الأميركية، ترتفع حدة الانقسامات الداخلية فجأة، وتجذب اهتمامات قوى الداخل اليها.

هناك حكومة الكاظمي التي تشكلت قبل أشهر عدة على أساس تسوية بين الأميركيين والإيرانيين الى ان تبين في الشهرين الماضيين ان الكاظمي ليس إلا محاولة أميركية كاملة لإعادة ربط العراق بالمحور السعودي ـ المصري ـ الأردني.

لجهة قوى الوسط، فمعظمها متربص يترقب نتائج صراع القوى بين الأميركيين والسعوديين والأتراك من ناحية مع الحشد الشعبي والإيرانيين من ناحية ثانية، وهناك فئات من هذه المنطقة متحالفة مع الحشد الشعبي.

اما على مستوى كردستان فأصبحت مستقلة من كافة النواحي المتعلقة عادة بدولة مستقلة، باستثناء التمثيل الدبلوماسي مع الخارج، لكنها تقيم علاقات مفتوحة وعميقة مع الأميركيين أساساً و»إسرائيل» بشكل شبه سرّي ومع الأتراك بشكل اقتصادي يرتكز على بيع نفط عراقي مهرب من كركوك وكردستان واستيراد بضائع تركيّة مختلفة.

كردستان هذه تشكل الخطر الأكبر على الوحدة التاريخية للعراق، لكنها تقع في منطقة لا تلائم قرارها لإعلان دولة كاملة، فهي تتاخم بلداناً لا تقبل أبداً بانفصالها، فكيف تقبل تركيا بذلك وهي التي تحتوي على 15 مليون كردي تركي، كذلك لإيران التي لديها خمسة ملايين كردي يقيمون في مناطق مجاورة لكردستان، فتصبح أي كردستان، مستقلة معزولة برياً عن العالم لمجموعة دول غير موافقة هي العراق وايران وتركيا وسورية، هذا بالاضافة الى انها لا تمتلك سواحل برية او منافذ برية أخرى وحتى مسالك جوية!!

يتبقى بالحشد الشعبي في الجنوب وبغداد، الذي يضم عشرات التنظيمات المتشكلة ضمن بناء أمني معترف به من الدولة العراقية وهو أيضاً قوة سياسية ضخمة، لكن فصائلها تتناحر حيناً فتذهب ريحها وقوتها.

فالتيار الصدري مثلاً الذي يترأسه مقتدى الصدر، بدأ في إطار الحشد الشعبي، لكنه سرعان ما ارتدى لبوس شخصية مستقلة محاولاً التمركز في موقع القوة الاولى في العراق من خلال تمكنه في القسم الشيعي.

هناك أيضاً الآشوريون والتركمان والمسيحيون، لكن هؤلاء لا يشكلون قوة سياسية أساسية لتواضع أحجامهم السكانية.

هذه التعددية العراقية القومية (عرب أكراد تركمان) وطائفية مذهبية، (سنة شيعة وأيزيديون ومسيحيون) يستفيد منها الاحتلال الأميركي المتواصل للعراق منذ 17 عاماً ونيف، فيدفعها الى الاحتراب في كل مرة يشعر ان شعوراً وطنياً عراقياً بدأ بالنمو على قاعدة الإصرار على الانسحاب الأميركي من اراضيه.

وفجأة يتلبّد المشهد الداخلي بانقسامات كردية عربية، وسنية شيعية.

لكن الأميركيين لم يكتفوا هذه المرة بالتسعير الداخلي، بل حضروا خطة إضافية تقوم على إضعاف الحشد الشعبي من جهة وقطع كل انواع العلاقات الاقتصادية العراقية مع إيران.

وهذا يتطلب تفجير العلاقات بين مكوّنات الحشد الشعبي المتصارعة أصلاً على أحجام مشاركاتها في المؤسسات الدستورية النيابية والوزارية، فمقتدى الصدر مثلاً يواصل منذ سنوات عدة تصدر التحرك الشعبي في الميادين والساحات، ويرى أن الانتخابات في حزيران المقبل هي المناسبة الضرورية لربحها لإعلان نفسه الزعيم العراقي الأول وقد يحضر لتسلم رئاسة الوزراء شخصياً.

ضمن هذه المعطيات، يعقد الكاظمي معاهدات اقتصادية مع السعودية والأردن ومصر تبدو وانها البديل عن علاقات اقتصادية مع إيران، والدليل أن العراق يعمل على مشروع مشترك لإنتاج الكهرباء مع مصر والأردن، موقعاً مع السعودية اتفاقات للاستثمار الزراعي والاقتصادي على ملايين الامتار في مناطق الأنبار ومحافظات الجنوب.

هذا فضلاً عن اتفاقيات التعاون الامني، للاشارة فإن العراق يستورد الكهرباء من إيران، مستورداً منها الكثير من حاجاته.

هذا يعني ان الأميركيين وللمرة الاولى منذ احتلالهم لبلد الرافدين يعملون على تأسيس حاجات اقتصادية عراقية هي التي تنتج تقاربات سياسية مع مصادرها.

بالاستنتاج يعمل الاحتلال الأميركي حالياً على تأسيس تحالفات تشمل مع العراق السعودية والأردن والامارات ومصر وجيبوتي والصومال وذلك لتعميق العلاقات بين هذه البلدان في وجه إيران والصين وروسيا، ما يعني ان الحشد الشعبي العراقي بصدد إعادة تجميع قوته لمجابهة هذا التحدي المصيري الخطير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى