أولى

الانتصار في معركة القدس ـ غزة وعلينا الاستعداد لحرب طويلة

 سعاده مصطفى أرشيد _

مثلت القدس, البداية والنهاية لأحد أهم عناصر المسألة الفلسطينيّة عالمياً, لما للقدس من قيمة روحيّة – دينيّة لدى مليارات من المؤمنين بقداسة المدينة, مسلمين ومسيحيين, كما أنها عند أبناء الوطن لها قيمة مضافة, فهي زهرة المدن وقطعة عزيزة من وطن قومي, في الجانب المعادي كانت أيضاً عنصراً جاذباً, عند من يعتبرها حقاً ربانياً حصرياً له, وإن كان لا يؤمن بالربوبية أصلاً.

مع هذه المكانة الرفيعة للقدس, إلا أنها لم تحظَ رسمياً بأكثر من الفعل الكلامي, ولم تجد العواطف والإيمانيات ترجمة لها. من هنا فقدت الدعم والإسناد, وعوامل ومستلزمات البقاء والصمود, فأخذت المدينة تتهوّد, وعملت الحكومات (الإسرائيلية) على تغيير معالمها, وإطلاق أسماء عبرية – توراتية على شوارعها وحواريها, وتسرّبت بعض عقاراتها إلى ملكيات معادية بطريقة يعرفها عامة الناس. كل ذلك ومَن يهمه الأمر من جانبنا في حالة خمول وكسل, فيما الخصم في حالة شغل ومثابرة, برعاية حكوماتهم التي تتسارع في تطرفها حكومة إثر حكومة.

حالة الهزيمة التي سادت إثر الفشل المتراكم, للتجارب القومية والوطنية والاشتراكية والثورية المتلاحقة منذ عام 1948, فأنتجت ثقافتها – ثقافة الهزيمة التي تسرّبت إلى أعماق نفس من تثقف بها واستسلم لها, وتبناها نظرية وعقيدة, وأصبح لا يرى في فلسطين عموماً والقدس خصوصاً, إلا قضية خاسرة, لا إمكانية لكسبها, وبالتالي فلا بد من أن يتخفف من أحمالها التي تنغص عليه متعة الحكم ولذة الصداقة مع العدو, فاكتفى أولئك بالدعاء وترويج بعض التصريحات في المناسبات الوطنية, لكنهم كانوا قد تناسوها بالتفاوض وتركوها لمصيرها الذي تصوّرته عقولهم ونفوسهم, فأهملت المدينة, وكان من نتائج هذه السياسات أن وجد فراغ سعت قوى أخرى إقليمية ومحلية لملئه, ولكنه من ناحية ايجابية ساعد في يقظة المقدسيين, الذين شعروا أنهم وحيدون في معركة الدفاع عن مدينتهم, فأخذوا المبادرة, وأسقطوا كل ولاية, وانتزعوا شرعية تمثيل أنفسهم بأنفسهم, وتخفّفوا بدورهم من أحمال الشرعيات التي لم يروا منها خيراً, فقادوا معركتهم بالشيخ جراح والمسجد الأقصى, وقريباً في سلوان وضاحية بيت حنينا التي ستبدأ بها أعمال المساحة (الإسرائيلية) تمهيداً لإجراء عمليات تسجيل الأراضي من قبل دائرة أراضي (إسرائيل).

توقعات العقل المهزوم لم تكن صائبة – ولن تكون, فما شهدته فلسطين بطولها وعرضها من زحف نحو القدس, كان أمراً يفوق الخيال. فمن الجليل إلى النقب, ومن كل مدينة وقرية ومخيم في الضفة الغربية المحتلة, نفر الفلسطينيون خفافاً وثقالاً, بدافع من وجدانهم وحسهم الفطريين, وطنيين ومتدينين, بجموعهم التي لا تعدّ نحو القدس, ولم تستطع الدولة القوية (إسرائيل), وقف هذا النفير, والحؤول دون وصولهم لحي الشيخ جراح والمسجد الأقصى, قائلين للمقدسيين: لستم وحدكم, بل معكم كل نفس طيّبة كريمة, عصت على الهزيمة ورفضت ثقافتها, معكم كل شعب فلسطين, وبهذا تحقق بفضل القدس إجماع الشعب الفلسطيني ووحدته.

غزة التي حال الحصار من دون مشاركة أهلها في الزحف, فكان لها أن تشارك بطريقتها, وأثبتت ذلك بدقة مواعديها, وكثافة صواريخها, ولم يكن بمقدور (الإسرائيلي) بأحزابه وملله ونحله, في الحكم أو في المعارضة على حد سواء, إلا الردّ على تحدي المقاومة وصواريخها التي فرضت نفسها في التحامها مع سائر فلسطين عبر معركة القدس.

لم يكن (الإسرائيلي) يظنّ أن بإمكان غزة الالتزام بما تعهدت به لأهل القدس, وبدقة مواعيدها, وبجدوى ومدى صواريخها, أو بما توفر لها من معلومات على قدر كبير من الدقة في جدولة بنك أهدافها, فأصبح (الإسرائيلي) أمام أمرين كلاهما مرّ, إن اعتزل المعركة, وإن خاض المعركة التي لم تترك له المقاومة مجالاً للفرار منها. وفي هذه الحالة عليه أن يتحمّل أعباءها, ومخاطرها على جبهة الداخلية وهو يرى تآكل قدراته الردعية, لذلك يستعمل مقداراً غير مسبوق من القوة والبطش, غير آبه بالمدنيين وما تنقله وسائل الإعلام, انه يريد كسر ظهر المقاومة, ولعله يريد إيصال رسائل إلى إيران وحزب الله حول مقدار قوته, وأن لا حدود لجرأته على التدمير واستعداده للبطش؛ لكن المقاومة بدورها أوصلت له ما يلزم من رسائل, بتكثيف إطلاق الصواريخ وإيصالها إلى مديات (آماد) غير مسبوقة في القدس وشمال تل أبيب وربما تصل إلى ما هو أبعد, ورسالتها الأخرى التي كانت عبر عدم قبول الوساطة المصرية. فالمقاومة تدرك ولا ريب أنها في معركة وجودية, وأنها إن لم تستطع فك الحصار عنها هذه المرة, فإنها ستبقى في حصارها لوقت قد يطول, لن تجد خلالها ما يبقيها على قيد الحياة إلا القطرات القليلة التي توفرها الحقيبة القطرية. غزة ومقاومتها, تريد إيجاد منافذ لها عبر بوابات غير (إسرائيلية), وجمهورها المستعد للصبر والصمود يريد هذه المرة ثمناً لصبره وصموده وتضحياته, من هنا يمكن تصور رد المقاومة على المبادرة المصرية, وكأنها تقول للمصريين: لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين, وهي لن تصدقهم بعد إن لم يفوا بوعودهم وتعهداتهم التي قطعوها عام 2014 لغزة.

المعركة طويلة, ولن تكون جولة قصيرة وعابرة, وصواريخ مقابل طائرات, وتكنولوجيا مقابل تكنولوجيا, فلم تعد التكنولوجيا حكراً على (الإسرائيلي), وها هي المعركة, تأخذ تجليات جديدة, في مدن الضفة وقراها ومخيماتها, كما في الداخل الفلسطيني, فما نراه في الناصرة وأم الفحم وحيفا والمثلث سائر قرى ومدن الداخل الفلسطيني لم يكن يوماً في حساب (الإسرائيلي). ثم أن طول المعركة, قد يدخل قوى إقليمية أخرى إلى ساحتها لتتحوّل إلى حرب شاملة, لا نملك فيها إلا الصدق والصبر والصمود والانتصار.

*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في جنين – فلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى