أولى

ظاهرة اجتماعية فريدة: نظام سياسي يشيخ ولا يموت؟

 د. عصام نعمان*

اللبنانيون منشغلون هذه الأيام بإحياء ذكرى 4 آب. ففي ذلك اليوم المشؤوم قبل 12 شهراً تمّ تفجير مخزون نترات الأمونيوم في أحد عنابر مرفأ بيروت ما أدّى الى تدميره بالكامل ومعه الأحياء المجاورة التي تشكّل ثلث العاصمة، بالإضافة الى مقتل أكثر من 200 شهيد وجرح أكثر من أربعة آلاف.

منظمو إحياء الذكرى أطلقوا على برنامجهم عنوان «برنامج التحركات». لكن إمعان النظر في المضمون يكشف أنّ معظمها ينطوي على إثارة. نعم، من حق أهالي الشهداء والجرحى والمتضرّرين ان يتوخوا إثارة الرأي العام وتعبئته لكشف ملابسات هذه الجريمة النكراء التي قيل في وصفها إنها ثاني أكبر تفجير غير نووي في تاريخ العالم المعاصر.

بعد مرور سنة كاملة على التفجير الإجرامي الهائل، لم يحقق قاضي التحقيق الأول ولا الثاني أيّ تقدّم حاسم في مسألة الغاية من وراء نقل أكثر من 2700 طن من نترات الأمونيوم الى مرفأ بيروت واستبقائها هناك أكثر من سبع سنوات، ومن هي الجهة التي قامت بنقل أو تهريب أكثر من ثلاثة أرباع هذه الكمية بدليل أنّ مكتب التحقيق الفدرالي الأميركي يجزم في تقريره الأخير بأنّ 500 طن فقط جرى تفجيرها في 4 آب/ أغسطس 2020، فما مصير الـ 2200 طن الأصلية؟ والى اين جرى تهريبها؟ ومن هو الفاعل؟

هذه الأسئلة وغيرها تكشف مدى فساد نظام المحاصصة الطوائفية اللبناني وعجز منظومته الحاكمة عن إدارته على جميع المستويات. مع ذلك، فإنّ هذا النظام الذي استولدته دول أوروبا الست بالتعاون مع السلطنة العثمانية وأطلقت عليه «نظام متصرفية جبل لبنان» سنة 1864 استطاع تجاوز الكثير من العقبات والتحديات الداخلية والإقليمية وأهمّها مآسي الحرب العالمية الاولى 1914- 1918 ليصبح مرتكز سياسة فرنسا وترتيباتها الإستعمارية في المشرق العربي بعد هزيمة السلطنة العثمانية في الحرب وانكفائها الى بر الأناضول.

الفرنسيون اعتمدوا نظام متصرفية جبل لبنان الطائفي أساساً لإنشاء ما أسموه «دولة لبنان الكبير» سنة 1920 بعد ان ضمّوا الى نظام المتصرفية مناطق في شمال لبنان وأخرى في جنوبه وشرقه كانت تابعة لولايتي بيروت ودمشق فأصبح للنظام الطائفي كيان سياسي قابل للحياة نسبياً.

إدارة الكيان – النظام أسندها الفرنسيون لأمراء الطوائف ووكلائهم. هؤلاء حافظوا على «الوديعة» بأمانة فما سمحوا طيلة الفترة التي أعقبت جلاء الفرنسيين سنة 1946 بأيّ مساس بطبيعة النظام ومرتكزاته الأساسية الى ان واجه لبنان، كما سائر أقطار المشرق، أحداثاً تاريخية أدّت الى إحداث تغييرات في موازين القوى الاقليمية سنة 1958 أهمّها اتحاد مصر وسورية في الجمهورية العربية المتحدة وسقوط حلف بغداد بإنهيار النظام الملكي في العراق.

إذ آلت السلطة الى قائد الجيش اللبناني، حاول اللواء فؤاد شهاب تمتين النظام السياسي المترهّل بإقامة مجموعة من المؤسسات الأساسية (البنك المركزي، مجلس الخدمة المدنية، التفتيش المركزي) إلاّ أن زخم هذه المحاولة تبدّد بعد انتهاء ولاية خلفه شارل حلو وعودة العناصر الأكثر محافظة الى مراكز الدولة العليا. ومع هزيمة 1967 وانكفاء المقاومة الفلسطينية في الأردن، أخذ الفلسطينيون يتدفقون على لبنان بفصائلهم المسلحة وأنصارها ما تسبّب بإحتككات ومناوشات مع القوى السياسية المسيحية المناوئة للمقاومة. وإذ تأذّت «إسرائيل» من عمليات المقاومة عبر الحدود وهدّدت باجتياح جنوب لبنان، هرع قادة القوى المسيحية الى دمشق طالبين تدخلها لكبح نشاط الفلسطينيين تفادياً لتدخل «إسرائيل».

دمشق وافقت على التدخل بعد استحصالها على قرار من جامعة الدول العربية صيفَ 1976 بإنشاء قوة ردع عربية لتنظيم الوجود الفلسطيني في لبنان. لكن «إسرائيل» المصمّمة على طرد فصائل المقاومة الفلسطينية، ما لبثت ان قامت مطلعَ شهر حزيران/ يونيو 1982 بشنّ الحرب على لبنان وتمكّنت من إكراه فصائل المقاومة الفلسطينية على المغادرة.

  منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي وأمراء طوائف لبنان يتعاركون ويتصارعون على السلطة والنفوذ لدرجة أدّت الى اندلاع حرب أهلية داخل فئة من المسيحيين الموارنة ما حمل سورية والسعودية، بالتفاهم مع الولايات المتحدة، على محاولة إنقاذ المتقاتلين جمعياً من أنفسهم بعقد مؤتمر للوفاق الوطني في الطائف سنة 1989 أفضى الى توافق ما تبقّى من أعضاء مجلس النواب اللبناني على وثيقة إصلاحات سياسية وإدارية واقتصادية وأمنية.

 لإعطاء إصلاحات وثيقة الطائف طابعاً جديّاً، قامت حكومة سليم الحص بوضع مشروع قانون جرى بموجبه إدخال أهمّ هذه الإصلاحات في متن الدستور سنة 1990.

غير أنّ ذلك كله لم يترك أثراً في نفوس أمراء الطوائف وأركان المنظومة الحاكمة الذين ثابروا على التعارك والتصارع على السلطة والمكاسب والنفوذ لدرجة أتاحوا للقوى الخارجية، خصوصاً تلك المعادية لبقاء القوات السورية في لبنان، الفرصة لتدبير اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري واتهام حكومة دمشق بأنها وراءه، والتواطؤ مع الولايات المتحدة لإقامة محكمة دولية خاصة بلبنان لمحاكمة الفاعلين.

صحيح انّ المحكمة الدولية نفسها برّأت الضباط اللبنانيين المتهمين بتدبير عملية الإغتيال، ثم عجزت لاحقاً عن اتهام حزب الله بأنه وراء تنفيذها، لكن تداعيات هذه الأجواء العدائية انعكست على البلاد الأمر الذي أحبط محاولة إصلاحية حاولت القيام بها قوى وطنية مستنيرة كان على رأسها سليم الحص ورفاقه.

يتحصّل من هذه السردية المختصرة انّ نظام المحاصصة الطوائفية ومنظومته الحاكمة شكّلا على مرّ التاريخ ظاهرة اجتماعية وسياسية فريدة، وانّ هذا النظام العجيب الغريب تعرّض لأزمات وعانى حروباً وواجه تحديات عجّلت في شيخوخته، ومع ذلك تراه يتجاوز كلّ هذه المخاطر ولا يموت!

أليس عجيباً وغريباً حقاً أن يعاني هذا النظام حربين عالميتين خلال القرن الماضي، وحربين «إسرائيليتين» خلال القرن الحالي بكلّ ما انطوت عليه من مآسٍ وفواجع ولا تترك فيه اثراً او حافزاً للتغيير او التطوير؟

أليس عجيباً وغريباً ان تتشكّل في لبنان انتفاضة شعبية عابرة للطوائف والمناطق (17 تشرين/الاول 2019) فتضطر معها حكومة سعد الحريري الى الاستقالة، ومع ذلك لا تترك أثراً محفزاً للتغيير في سلوكية الحاكمين بدليل عجز ثلاثة من المكلفين منهم عن تأليف حكومة جديدة خلال سنة كاملة؟

أليس عجيباً وغريباً أن يعاني لبنان كارثة ماحقة كتفجير مرفأ بيروت في 4 آب 2020، وانهياراً مالياً وإقتصادياً كاملاً بعد ذلك، وان يفتقد شعبه أهمّ ضروريات المعيشة كالأغذية والأدوية والوقود (البنزين والمازوت والغاز والطاقة الكهربائية) ولا يترك ذلك كله حافزاً للتغيير والتطوير لدى الحاكمين؟

أليس عجيباً وغريباً ان تشبّ حرائق واسعة في أحراج عكار والهرمل، فلا يرتفع صوت واحد بين الحاكمين يدعو الى المساءلة والمحاسبة؟

أليس عجيباً وغريباً ان يعاني لبنان كلّ هذه الكوارث والمآسي والأزمات فلا تنجح قواه الوطنية والتقدمية في بناء جبهة وطنية ببرنامج سياسي واقتصادي واجتماعي متكامل لتجاوز نظام المحاصصة الطوائفية ومنظومته الحاكمة، سلمياً وديمقراطياً، ووضع البلاد على سكة التوجّه الى الدولة المدنية الديمقراطية؟

عشيةَ إحياء ذكر 4 آب، يؤسفني ألاّ أكتم خيبتي وإحباطي من إمكانية وجود خيارات واقعية لتجاوز نظام المحاصصة الطوائفية ومنظومته الحاكمة.

يؤسفني ان لا أجد حاليّاً ما يمكن ان يؤدّي الى خلاص اللبنانيين من نظامهم الشائخ (عمره 157 سنة!) إلاّ المزيد من الشيء نفسه: استمرار الإنهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي وبالتالي السياسي ليصبح من الممكن في قابل الأيام البناء على أنقاض النظام المتداعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى