أولى

ثقافة الجهل: تمجيد الذات وشيطنة الآخر

 بشارة مرهج _

بسبب دنوّ موعد الانتخابات النيابية، ولغرض شدّ العصب، وحشد الأنصار، واستيلاد وضعية القطيع، تُفتح الستارة اليوم أمام أصوات الغلوّ والتعصّب لاحتلال المسارح والمنصات والشاشات ووسائل التواصل الاجتماعي توطئة لتناول أخصامها السياسيين بشتى الاتهامات وصولاً الى الطعن بمعتقداتهم الدينية مما يوتر الأجواء ويفرض على الملأ خطاباً متطرفاً يُجرّح بالخصم ويمدح “الزعيم”، وكأنّ الزعامة في لبنان لا تتألّق بالبناء الإيجابي والعمل الصالح، وإنما بالقدح والذم وتهديد الآخرين بالإلغاء، واستخدام لغة ساقطة يخجل بها اللبنانيّون الذين نهلوا من معين بطرس البستاني وناصيف اليازجي وجبران خليل جبران، فأدركوا انّ “اللبنانية” لا تستقيم بالانعزال والعنصرية والتمييز، وإنما بالانفتاح والميثاق والتواصل على قاعدة الوحدة التي تجمع اللبنانيين وترعى تنوّعهم وتعدّديتهم وإبداعهم الذي تردّد صداه في الشرق كما الغرب.

إنّ ثقافة التطرّف والغلوّ التي أدّت سابقاً الى تهشيم الميثاق وتفكيك بنية الدولة وتجويف مؤسّساتها تؤدّي اليوم، بعد تحالفها مع الاحتكار والاستبداد، الى إضعاف المجتمع اللبناني وإفقار شعبه وتشريده في رياح الأرض الأربع بعد سلبه مؤسساته وهدم مقوماته وعرض كيانه في سوق المزاد الاقليمي والدولي.

انّ الانتخابات ليست مناسبة لقطع الحوار بين اللبنانيين او مناسبة لتجديد سلطة النهب والانحطاط التي تثقل عليهم وعلى الدنيا من حولهم، وإنما هي مناسبة للتأكيد على حيوية الحوار وأولوية الديمقراطية في بلد جريح يحتاج الى سلطة العقل واستبعاد سلطة الغريزة وما تستتبعه من معارك مفتعلة ترفع راية التزوير وتحط من سمعة لبنان، وتسمح للذين ولغوا في دماء اللبنانيين، وتوغلوا في مدّخراتهم، فرصة الإفلات من العقاب، والعودة الى صدر الدار مكللين بأوراق الغار، وكأنّ شيئاً لم يحدث طيلة السنوات الماضية، أو كأنّ السبب في محنة اللبنانيين يعود الى أشخاص مجهولي الهوية والإقامة، ولا يعود الى من كانت ولا تزال أعنّة العقد والحلّ في أيديهم، يوجهونها في الاتجاه الذي يخدم مصالحهم ولو خسر لبنان كلّ ما يملك من ثروة وسمعة ومكانة.

إنّ اللبنانيين الذين يستشعرون مرارة الغربة في بلادهم لن ينسوا مطلقاً من نصّب نفسه مكان السلطات الدستورية وعطل القضاء ومنع المحاكمة عن أولئك الذين أساؤوا الأمانة ومدّوا أيديهم الى خزائن الدولة وجيوب المواطنين واستباحوا صناديق الضمان والنقابات والمهن الحرة وذوي الحاجات الخاصة، ثم شجعهم على التمادي في ظلمهم وغيّهم لتخريب أجمل بلاد الشرق وتحويل مواطنيها الى مجرد أرقام تنتظر صدور البطاقة التمويلية.

إنّ شأن هؤلاء كشأن الذين عطلوا العدالة عندما تجرأ القضاء فأدان الجرائم الكبرى وأصحابها بعد ان هزّت تلك الجرائم وجدان الناس وأصبحت موضع تداول في الخارج كما الداخل يستعيدها هؤلاء بالحذر والرعب خشية تكرارها.

 في لحظة من الزمن وخاصة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي أصبح القتل عند بعض القادة عادة يقدمون على ممارستها لإسكات الصوت الآخر وإلغاء الكيان الآخر ولو اقتضى الأمر توسّل سلاح الإبادة وذبح العائلات، المنافسة، بأطفالها ونسائها.

ان اللبنانيين الذين روّعتهم تلك المرحلة ودفعت بعضهم الى الانكفاء أو الهجرة لا يريدون بأيّ شكل من الأشكال تكرار تلك التجارب الدموية المرّة، ولذلك هم يقفون مشككين متنبّهين من أشكال التعبئة السائدة والقائمة على تمجيد الذات وشيطنة الآخر.

إنّ القائمين على هذه التعبئة المريضة ضدّ لبنان العربي المستقل بقيمه وأسسه ومقاومته يثبتون اليوم، كما بالأمس، عجزهم عن الحوار وضيقهم بالآخر، ويصرّون على هندستهم الذاتية للمجتمع والوطن وكأنهم من سلالات أسطورية ليس عليها حرج وليس عليها حدّ، تصيب ولا تخطئ وانْ كان الخطأ يصبح اليوم بحجم الكارثة.

*نائب ووزير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى