أولى

هكذا تكلّم بوتين…

 سعاده مصطفى أرشيد _

ألقى الرئيس فلاديمير بوتين الاثنين الماضي خطاباً يمكن القول إنه كان خطاباً استثنائياً بكلّ المعاني، وهو يذكر بالخطابات التي كانت تلقى في أيام قديمة كان للعقائد فيها اعتبار كبير. استعرض بوتين تاريخ روسيا والصراع العالمي منذ عهد القياصرة من آل رومانوف مروراً بالحقبة الشيوعية، مذكراً بأخطاء ومثالب القيادة السوفياتية ـ البلشفية، في اتفاقية 1922 المهينة مع الغرب والتي وقعتها القيادة البلشفية لتتفرّغ لحربها الداخلية مع معارضيها المناشفة ولو على حساب المصالح الروسية العليا، وهو بخطابه هذا وكأنه يعلن عدم اعترافه بنتائجها في ذكراها المئوية، ويرى أنّ تلك السياسة القاصرة في إدراك الأبعاد السياسية هي التي أسّست لانفصال أوكرانيا عن وطنها روسيا الأمّ.

هذا الخطاب سيشكل ولا شك ملمحاً من ملامح السياسة الروسية لفترة طويلة مقبلة، ويعطي فكرة عن مقدار جدية روسيا وحلفائها في المشاركة الفعّالة وضرورة الشراكة الكاملة في بناء نظام عالمي جديد وبشكل يحمي مصالحهم بقدر ما يحمي السلم العالمي، وتكراراً أن لا معنى للسلم العالمي إذا كان على حساب مصالحهم العليا وأمنهم القومي، وروسيا ومن معها يضعون العصا تلو العصا في دواليب القرار الأميركي الذي لا يزال يأمل بأن يرث بشكل أحادي القطب النظام السابق الثنائي القطبية، والذي ترى أوساط عديدة في واشنطن انه يمثل النظام الأمثل ونهاية التاريخ، حسب نظريات أكاديمية متهافتة.

 خلص بوتين للقول إنّ مجموعة فاسدة وعميلة للغرب هي مَن يحكم أوكرانيا، وإنّ هذه المجموعة ليست عدوة لروسيا فحسب وإنما لروسيا وللشعب الأوكراني على حدّ سواء، فهؤلاء دمّروا البلد وباعوا اقتصاده وأمنه وصناعاته لحسابهم الخاص، وأودعوا الأموال في أرصدتهم في البنوك الغربية، هؤلاء جعلوا من أوكرانيا بلداً مستباحاً لا بل شبه محتلّ من الغرب والذي يسيطر على قرارات وعمل الحكومة، كما يسيطر على القضاء والجيش الذي يمكن إدارة قطاعاته العسكرية من غرف عمليات حلف شمال الأطلسي (ناتو). إنهم يريدون ابتزاز روسيا وهم يسرقون الغاز الروسي المار من أراضي أوكرانيا في طريقه إلى أوروبا، ويقدمون المعلومات الأمنية لأعداء روسيا وأعداء الشعب الأوكراني، ثم إنّ هؤلاء الأطلسيّين يمتلكون القدرة في حال تواجدوا على الأرض الأوكرانية على تهديد أمننا القومي، لذلك لن نسمح بتمدّد حلف شمال الأطلسي شرقاً، وهذا قرار حاسم مرتبط بعقيدة الأمن القومي الروسي، يؤكد بوتين أنّ روسيا تفضل وتعطي الأولوية للحلّ السياسي الهادئ وتفهم تعقيدات الحلول الأخرى ومخاطرها، والتي قد تلجأ لها في حال فشل الحلّ السياسي ورفضت مقترحاتها من أوكرانيا ومَن وراء أوكرانيا، وبوتين في نهاية خطابه لم ينس التأكيد على أنّ الغرب لا يزال حتى ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وعقيدة الشيوعية، لم يتوقف عن اعتبار روسيا عدواً استراتيجياً.

 إنها ولا شك أيام صعبة على العالم، وقد تشهد ارتفاعات جنونية في أسعار كثير من السلع، خاصة الغذائية منها والتي تأتي من أوكرانيا وعلى رأسها القمح والشعير والذرة، كذلك أسعار البترول والغاز خاصة في غرب أوروبا، وهي أوقات صعبة على روسيا وخياراتها التي قد تحمل مخاطر عالمية كالتي ذكرت أعلاه، ولكن روسيا سبق لها أن مرّت بأوقات صعبة تحتاج لأن تتذكرها اليوم، وذلك عندما كانت تحاول الخلاص من تركة بوريس يلتسن البائسة، ومحاولاتها استعادة دورها ومكانتها، ذلك في حين تمّ خذلانها من دول الكتلة الشرقية التي سارعت إلى الدخول في المجموعة الأوروبية، وحلف شمال الأطلسي، فيما عمل الغرب على إثارة الشيشان وغيرهم من الأقليات (وإن كانت أقليات كبيرة)، ثم حاول التسلل إلى جورجيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا ليلعب في برزخ الأمن القومي الروسي، ولم تجد روسيا في ذلك الحين من صديق ونصير يساعدها في محنها المتعددة إلا سورية، التي منحتها إطلالتها الوحيدة على المياه الدافئة من خلال موانئها في شرق المتوسط، والتي لا تزال حتى الساعة نافذة روسيا الوحيدة، والتي تعيد الأزمة الحالية التأكيد على مدى الأهمية القصوى لسورية في الأمن القومي الروسي، وفي حين تنأى كثير من الدول الصديقة لروسيا عن التدخل لصالحها في هذه الأزمة، نرى أنّ وزير الخارجية السوري يزور موسكو ويعلن من هناك وقوف بلادة الحاسم مع موسكو ويعلن اعتراف سورية بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، ولعلّ سورية كانت الدولة الأولى بعد روسيا في العالم بهذا الاعتراف.

 تسير سياسات الدول وفق إشارات بوصلة المصالح الدقيقة، لذلك تركز الضغط السياسي والأمني وحتى الاقتصادي على سورية، لكي تتخلى عن روسيا وتفكك قواعدها وتمنع عنها إطلالتها البحرية على المياه الدافئة. وهذا ما رفضته دمشق، وكان رفضها هذا سبباً من أسباب الحرب الكونية في سورية وعليها. وهي حرب بالمعنى الاستراتيجي حرب على روسيا في الوقت ذاتها، وذلك بهدف طردها من شرق المتوسط، ولتمرير الغاز القطري عبر الأراضي السورية إلى أوروبا ليكون بديلاً عن الغاز الروسي، من هنا يمكن فهم أنّ التدخل الروسي في الأزمة السورية لم يكن باعتباره رداً للجميل. فلا أحد يفكر بهذه الطريقة وروسيا ليست استثناء، روسيا دخلت في عام 2015 للدفاع عن نفسها، للدفاع عن مصالحها الاستراتيجية المهدّدة والمذكورة آنفاً.

مساء أول أمس الثلاثاء ردّ الرئيس الأميركي جو بايدن على خطاب نظيرة الروسي، معلناً الدفعة الأولى من عقوباته، ومؤكداً أنّ العقوبات المقبلة ستكون أكثر صرامة وقسوة، فيما قال ناطق باسم الكرملين بلهجة متهكمة رداً على بايدن، بأنّ الرئيس الروسي لم يكن لديه الوقت لسماع خطاب الرئيس الأميركي، لذلك من الصعب التعليق عليه.

هكذا ردّت روسيا القوية التي ترى أنّ مصلحتها فوق كلّ مصلحة، ويرى بعض منا ـ وكاتب المقال منهم ـ أنّ مصلحتنا القومية تفوق أيّ مصلحة، فلا بدّ من العمل على صيغة بيننا وبين روسيا تكون مصالحنا المشتركة فوق مصالح غيرنا. القيادة الروسية التي لطالما تذرّعت بأنّ في (إسرائيل) ما يزيد عن مليون مستوطن من أصل روسيّ، نأمل أن تكون قد امتلكت الوقت في هذا الظرف الدقيق والحساس للاطلاع على تصريحات وزير الدفاع (الإسرائيلي) يائير لابيد، الذي أكد الثلاثاء الماضي انه إذا اندلعت الحرب بين روسيا وأوكرانيا فإنّ (إسرائيل) ستقف حيث تقف الولايات المتحدة، أي في مواجهة روسيا، غير آبه بأنّ لديها مصلحة بالحفاظ على علاقات جيدة مع موسكو، لقد جاء الوقت لتعميق هذا التحالف السوري ـ الروسي وحان الوقت ليدرك الحليف الروسي ضرورات حليفه، كما لمعرفة مَن هو عدوه…

*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في الكفير ـ جنين ـ فلسطين المحتلة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى