أولى

حين تُقلب طاولة حاملة للأوزان الثقيلة.. ماذا يحصل بفعل الجاذبيّة؟

 نقولا تويني _

عندما قرّر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قلْبَ الطاولة وبدء الحملة العسكرية الواسعة على أوكرانيا، فلا بدّ أنه حضّر لهذا الخيار الاستراتيجي منذ سنوات طويلة، كذلك حماية روسيا من أخطار ردود فعل الغرب على خطوته ومن دون التطرّق إلى موضوع الاعتراض الغربي وعواقب تأثير العقوبات الغربية على روسيا وشعبها واقتصادها.

أودّ التطرّق إلى مسألة قَلبِ طاولة التفاهم الغربي الشرقي السائد منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، إذ ما قام به بوتين والقيادة العسكرية الروسية هو انقلاب تاريخي على التفاهم السابق السائد حتى يوم الهجوم الروسي، ألا وهو أميركا سيّدة الغرب والعالم وأوروبا غربية وشرقية، تعيش تحت جناح النسر الأميركي أي الناتو وروسيا عليها كما بقية العالم أن تُصغي وتقبل كل قرار يُتّخذ في الغرب، أكان مجحفاً أو عادلاً، وأنّ على روسيا الامتثال والوقوف في صفوف القوى النوويّة الأخرى الأدنى شأناً من الجبروت الأميركي. ولدى أميركا القوة التنفيذيّة الاقتصاديّة من البنك الدولي ومؤسسة النقد ومؤسسات التصنيف الائتماني وأهمّها طباعة الدولار والمحافظة على أغلبية التداول العالمي بعملة الدولار، بما يُعطي سيطرة شبه تامّة على كلّ بلد تراوده الشهيّة في التمرّد أو الانفصال عن هذه المنظومة العسكريّة الاقتصاديّة الدوليّة.

ابتدأ هيغل بنظرية الوعي التاريخي وكانت له جملته الشهيرة “كلّ ما هو حقيقي هو عقلاني وكلّ ما هو عقلاني حقيقي” وانتهى إلى اجتهاد تاريخي ألا وهو إمكان الفلسفة أو الفيلسوف من اكتشاف الفكرة المُطلقة من خلال وسيلة عقلية فلسفية، هي الجدلية التاريخية ومفهوم الوعي التاريخي منه أو الطبقي أو النفسي الذي استعمله بعده كارل ماركس وماكس ويبير وسيغموند فرويد وريش في السياسة وعلم النفس.

إنّ الوعي هو أساس التغيير، لو أُعدّ له من الإنسان أو المجموعة أو الدولة. والحقيقة الثانية من الفيزياء هي أنّ تحريك الأجسام الجامدة الثقيلة تخلق حركة ذاتية بفعل الجاذبية، إلى قوّة دفع هائلة نراها في الزلازل وهيجان البراكين والبحر وتسونامي.

إنّ وعي بوتين التاريخي وإحساسه بالتراجع الغربي الواضح، ليس فقط في النطاق العسكري والاقتصادي بل أيضاً في الحجم الهائل من الظُلم والأكاذيب والخرافات التي يحملها أو ينتجها الغرب، من العراق إلى فلسطين إلى أفغانستان إلى الدول الأفريقية إلى أوروبا والتي تُفخّخ كلّ ادّعاءات البراءة والعدل التي يروّجها كلّ يوم، بما في ذلك دفع القيادة الأوكرانية إلى التهوّر والانحياز في صراع، لن يكون لأوكرانيا مكسب فيه؛ وهذا واضح وجليّ.

إنّ المبادرة العسكرية الروسيّة تُحاكي حركة تغييرية في الموازين الدولية السائدة وتُشرّع الأبواب أمام تصحيح الاعوجاجات الدولية من صناعة الغرب واتباعه. إنّ العالم كله بات غير آمن ومُظلماً والسّاسة الغربيون لم يتمكّنوا من طمأنة شعوبهم ولا مستعمراتهم السابقة أو الحاليّة ولم يتمكّنوا حتى من التصحيح أو الاعتذار أو تقويض الجريمة اليومية التي تقوم بها منصّة القتل الصهيونية، ليروّجها كلّ يوم ويظهر إفلاسه الخُلُقي أمام وعي الجموع والعالم.

إنّ المجتمعات الغربيّة أصبحت تهتمّ بمؤشّرات النموّ الاقتصاديّة، على حساب المستشفيات والمدارس والرعاية الاجتماعيّة ومساعدة الفقراء والمُعوزين، فيما نرى النموّ السريع وغير المتناهي للثروات الباهظة ولأصحاب المليارات.

إنّ الفقر يزداد وهذه المجتمعات الغربيّة في طور السقوط، بسبب عدم المساواة بين الفقير والغنيّ وبين فرصة الضعيف أمام قوّة الغنيّ، بعد أن أسقطت المنافسة السوفياتيّة، فباتت وحيدةً من دون رقيب أو حسيب.

هذا ونحن نشعر ونُقدّر المعاناة الكبيرة التي يمرّ بها الشعب الأوكراني من جرّاء هذه العملية العسكرية وإنّ مسؤولية المعاناة الكبيرة هذه أساسها أخطاء جسيمة في تقدير المواقف والانحياز لغرب امتاز بالعدوانية وعدم الاكتراث لمصالح الشعوب. وإنّنا لنأسف على كلّ قطرة دماء تُسفك في ساحة هذه المعركة بين أبناء شعب واحد وبلدين شقيقين.

*وزير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى