أولى

النزوح السوريّ بين مساعي الحل وخطط الاستثمار الخارجيّ…

 العميد د. أمين محمد حطيط _

في الأيام الأولى لانطلاق شرارة الحرب الكونية ومن جنوب سورية ومن درعا بالذات سجل وبشكل مفاجئ قيام تركيا بنصب أكثر من مخيم في الأراضي التركية او لواء الإسكندرون السوري المغتصب من قبل تركيا، مخيمات قيل انها لإيواء «النازحين السوريين» المرتقب نزوحهم في الأيام المقبلة ولم يكن أحد يفكر بهذا الأمر. إعلان شكل إشارة الى ما يحضر لسورية وما يستهدفها من عدوان شكلت تركيا رأس الحربة فيه منذ أيامه الأولى.

وبالفعل ومع تصاعد عمليات الحرب الكونية والضغوط على سورية وانتشار النار وتسعيرها على أراضيها كان النزوح السوري ورقة استراتيجية بيد أعداء سورية يستعملونها في أوجه عدة، حيث شكل وجودها بذاته دليلاً على حجم المأساة التي خططت لسورية وشكل استمرارها دليلاً على إصرار من استهدف سورية بحربه الإرهابية استمراره على المتابعة ورفضه المعالجات وتقديم الحلول، كما شكل التمسك بها دليلاً على حجم التدخل والاستثمار فيها لبلوغ أهداف غير مشروعة وتحقيق مكاسب في سورية لا تجيزها قواعد الأخلاق والشرَع وبعدها ومعها قواعد القانون الدولي العام والإنساني الذي يتشدّق به مَن يستثمر في ملف النازحين السوريين.

وعلى الوجهة المعاكسة عملت الحكومة السورية أقصى ما بوسعها لمعالجة ملفّ النزوح هذا بعنوانيه الداخلي والخارجي وقدّمت أو قامت بأقصى ما يمكن عدلياً وقضائياً وقانونياً وميدانياً من أجل معالجة هذا الملف الذي يسلم الجميع بأنّ استمراره يشكل مؤشراً على استمرار الحرب وإمكان تسعير نارها مجدّداً وقابلية هذا الملف للاستثمار من قبل أعداء سورية خاصة أولئك الذين رفعوا في مواجهة الانتصارات السورية في الميدان شعار «إطالة أمد الصراع» واستثمار هذا الملف الإنساني لغايات عسكرية وسياسية ظاهرة.

وبالتالي شهد ملف النزوح السوري تجاذباً لا بل صراعاً بين إرادتين إرادة سورية مدعومة من الحلفاء والأصدقاء وتهدف الى المعالجة واستعادة النازحين وإعادة إيوائهم بشكل آمن وإنساني ووطني سليم في الأرض السورية التي تؤمّن فيها الحكومة السورية الأمن وما أمكن من سبل العيش الكريم، وإرادة خارجية تقودها أميركا وترمي الى منع حلّ هذا الملف بشقيه الداخلي والخارجي من أجل منع سورية من استثمار انتصاراتها ولـ «إطالة أمد الصراع» فيها حتى تسلم للمعتدين بما لا يستحقون من مصالح ونفوذ فيها وفي نظامها السياسي ومؤسسات الحكم لذلك كانوا ولا يزالون يربطون بين معالجة ملف النزوح وبين مفاوضات الحلّ السياسي الذي يطمعون أن ينالوا فيه جوائز لم يستطيعوا الحصول عليها في الميدان والمواجهة العسكرية، حيث انتصرت سورية بدعم من حلفائها وباتت العودة الى الميدان بالشكل الذي كانت فيه أمراً مستحيلاً لا يقدم عليه إلا أحمق ولذلك يتمسكون من أجل التعويض ميدانياً بوسائل الإخلال بالأمن وممارسة الاحتلال المتعدّد الوجوه والمحتلين وفي السياسة عبر مفاوضات الحلّ السياسي الذي يُقال إنّ القرار ٢٢٥٤ ينص عليه.

لقد أدركت سورية خبث وإجرامية الطرف المعتدي عليها وكيفية استثماره غير الأخلاقي واللاإنساني لملف النزوح وعملت ما بوسعها لمعالجته من خلال مراسيم العفو المتتابعة والتي كان آخرها المرسوم الاشتراعي ٧ الذي أعلن العفو عن الجرائم بكلّ صنوفها بما في ذلك الجرائم الإرهابية (إن لم يكن هناك قتل وحق شخصي نتج عنها) ومن خلال التسويات التي طافت لجانها سورية من الجنوب والشرق والوسط لاستعادة من ضلّ السبيل وتمكينه من الأمان في حضن الدولة وكما أنها جهزت أماكن لإيواء من يرغب من النازحين في الداخل للعودة الى مناطقهم او النازحين الى الخارج للعودة الى الوطن ترافق ذلك مع نداءات متكررة للنازحين للعودة الى الديار مع ضمان الأمن والسلامة والكرامة مع العفو والتسويات.

لكن إرادة المعالجة السورية الصادقة اصطدمت بالخطط الأميركية المتعددة الأشكال التي تحول دون معالجة هذا الملف وتصفيته، حيث إن اميركا ضغطت على حكومات البلدان التي استقبلت النازحين ومنعتها من الاستجابة او التنسيق مع مساعي سورية لاستعادة النازحين ومنها لبنان على سبيل المثال الذي امتنعت حكوماته المتعاقبة منذ العام ٢٠١١ وحتى اليوم عن القيام بالمسعى الجدّي للعمل مع سورية لمعالجة المسألة. والأمر ذاته تكرّر مع الأردن؛ أما تركيا فهي من الأصل كانت شريكاً أساسياً في العدوان ومستثمراً رئيسياً في النزوح، لذلك لم تكن بحاجة الى ضغط لتمنع عودة النازحين الى وطنهم، لا بل إنها امعنت في عمليات استثمار الملف الى الحدّ الذي بلغ مستوى تهديد وحدة الأراضي السورية والخريطة الديمغرافية السورية برمّتها.

في ظلّ هذا الصراع حول الملف شهد الأمر محاولات او مبادرات خجولة او متواضعة في لبنان ودول أخرى لإعادة بعض النازحين بشكل طوعي ودون تحمّل مسؤولية عودتهم وقامت روسيا بتنظيم مؤتمر دولي لبحث مسألة النازحين السوريين، ولكن لم يتوصل الى وضع حلّ عملي فاعل لها، وسيعقد في بروكسل ومن غير تنسيق جدي مع سورية مؤتمر دولي للنزوح السوري دعي اليه في مطلع الأسبوع المقبل في ٩ و١٠ أيار الحالي وقد دُعيت إليه الدول التي تؤوي نازحين سوريين ومنها لبنان والأردن وتركيا، ولكن وفقاً لما تسرب من تحضيرات لهذا المؤتمر لا يبدو ان هناك تبدلاً فعلياً في الاستراتيجية الغربية بقيادة أميركية بشأن النازحين السوريين.

أما آخر المواقف المستجدة اللافتة التي سجلت على هذا الصعيد فقد أتت من تركيا التي أعلنت عن نيتها إعادة مليون نازح سوري يقيمون حالياً فيها واإلزامهم بالعودة الى الأرض السورية الواقعة تحت سيطرتها، ودون أيّ نوع من أنواع التنسيق مع الحكومة السورية او الجهات الدولية في الأمم المتحدة المعنية، ما أثار الكثير من التساؤل والشكوك حول الخطوة التركية وأهدافها وهو شك مشروع بكلّ تأكيد.

فتركيا تدّعي أنها تؤوي ٤ ملايين سوري منحت الجنسية التركية لبضعة آلاف منهم، (هناك قول آخر محايد يحدّد عدد السوريين في تركيا بأقل من ٣ ملايين الغالبية الساحقة منهم من الشمال السوري ومن طائفة واحدة محدّدة) وتريد تركيا كما روّجت مع الإعلان البدء بالتخفيف التدريجي من أعداد هؤلاء وصولاً الى اقفال الملف في وقت غير بعيد لما فيه مصلحة تركيا الأمنية والاقتصادية والاجتماعية كما تدّعي.

أما المشككون بالموقف التركي فإنهم يرون أن لتركيا أهدافاً خبيثة تنطوي على خطط خطرة في هذا الشأن، خاصة أنّ القرار التركي أرفق بلائحة من الإجراءات والقيود في التنفيذ تتضمن تحديد أمكنة العودة وحصرها بالمناطق التي تسيطر عليها تركيا في الشمال السوري، وتضع نظام الإيواء والإسكان بعد العودة وهي قرى أو مخيمات يديرها الجيش والمخابرات التركية، ما يعني أن القرار التركي لا يمكن اعتباره حقيقة بأنه إعادة للنازحين، بل هو إعادة انتشار وتوزيع لهم في مناطق تسيطر عليها تركيا، توزيع يخدم أردوغان في ظرف هام يمرّ فيه أجبره على مراجعة سياسته في المنطقة بشكل يؤمّن الربح او يضع حداً للخسائر التركية على أبواب الانتخابات الرئاسية التركية في العام المقبل.

ولذلك قد يكون محقاً من رأى في القرار التركي نوعاً من إعادة تنظيم الاحتلال التركي للشمال السوري وخطوة إضافية للتتريك الذي يسهل الاقتطاع من الأرض السورية، او من قام بالتذكير بما قامت به تركيا في قبرص حيث انشأت كياناً قسم الجزيرة منذ السبعينيات، أو من يرى في الخطوة مناورة لسحب ورقة انتخابية من يد المعارضة التركية التي ترفع ملف إعادة السوريين الى وطنهم في رأس اهتمامها.

أما نحن فإننا لا نرى انّ حلّ مسألة النزوح السوري تتمّ بقرارات من جانب واحد، فالحلّ الناجع يجب ان يتمّ بالتنسيق التامّ مع الحكومة السورية مع احترام سيادة سورية على كامل أراضيها، حلّ يرمي الى وقف الاستثمار بأي شكل من الاشكال لهذا الموضوع، حلّ يتضمّن آلية عملية تشمل مسائل الأمن والمعيشة للنازحين بعد العودة الى وطنهم. وكل حلّ لا يتمّ بالتنسيق مع الحكومة السورية ويراعي حقوقها السيادية انما هو محلّ شكّ وشبهة.

*أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى