أخيرة

التعاون الصيني العربي في العصر الجديد

‭}‬ تشن يويه يانغ*
تكللت القمة الصينية العربية الأولى بنجاح كبير، وهي تُعتبر الحدث الدبلوماسي الأهمّ والأرفع في المستوى بين الصين والعالم العربي منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية الجديدة، وهي تشكل نقطة تحوّل فارقة في تاريخ العلاقات الصينية العربية. فقبل زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى المملكة العربية السعودية، أصدرت وزارة الخارجية الصينية تقريراً عن «التعاون الصيني العربي في العصر الجديد»، وكانت هذه المرة الأولى التي يُوصف فيها التعاون الصيني ـ العربي بـ «العصر الجديد»، الأمر الذي يكتسب أهمية بالغة لكلا الجانبين الصيني والعربي. وقد أدرج التقرير تفصيلاً للعلاقات الصينية العربية الودية الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ، طبقاً للتسلسل التاريخي لها. فمنذ أكثر من ألفي عام، شهد طريق الحرير القديم بداية العلاقات الصينية العربية. وعندما تأسست جمهورية الصين الشعبية الجديدة وعلى مدى أكثر من 70 عاماً منذ التأسيس، عملت الصين والدول العربية بروح الفريق الواحد في سبيل تحقيق الاستقلال الوطني ونهضة الأمم، وتضامنت وتعاونت معاً للكسب المشترك في المحافل الدولية سياسياً واقتصادياً حيث حقق التعاون الودي بين الجانبين طفرة تاريخية من حيث النطاق والعمق.
أصبحت الصين والدول العربية أشقاء حقيقيين وشركاء مخلصين. وتدلّ مجموعة من الأرقام على حقيقة ذلك: يوافق العام الجاري الذكرى الـ 19 لتأسيس منتدى التعاون الصيني العربي، كما يوافق الذكرى الـ ٢٢ لتأسيس جمعية الصداقة الصينية العربية، وأُقيمت علاقات الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الصين و4 دول عربية حتى الآن، بينما أُقيمت علاقات الشراكة الاستراتيجية بين الصين و8 دول عربية أخرى. وقد وقعت الصين وثائق التعاون بشأن التشارك في بناء «الحزام والطريق» مع 20 دولة عربية ومع جامعة الدول العربية، ودعمت 17 دولة عربية مبادرة التنمية العالمية، وأصبحت 15 دولة عربية أعضاء في البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية وانضمّت 14 دولة عربية إلى «مبادرة التعاون بين الصين وجامعة الدول العربية في مجال أمن البيانات»، وأعلنت 4 دول عربية عن إدراج اللغة الصينية في منظومة التعليم الوطني.
تمرّ الصين في الوقت الراهن بعصر جديد، حيث انعقد المؤتمر الوطني العشرون للحزب الشيوعي الصيني بنجاح، وتتقدّم الصين نحو بناء دولة اشتراكية حديثة على نحو شامل بثبات وبخطوات متزنة. وعلى صعيد الدول العربية، اعتمدت القمة الـ٣١ لجامعة الدول العربية «إعلان الجزائر» الذي أكد على ضرورة الحفاظ على استقلال الدول العربية وسيادتها مع تعزيز الذات بالاتحاد أثناء عملية الإصلاح، مما يدلّ على استقبال العالم العربي لعصر جديد من الاستقلال والتوازن والتنوّع. فإذا حق القول بأنّ مؤتمر باندونغ قد فتح آفاقاً لإقامة العلاقات بين الصين والدول العربية قبل نصف قرن، فإنّ هذه القمة اكتسبت أهمية نقطة الانطلاق لتعميق التعاون الصيني العربي الحديث في العصر الجديد. إذ يواجه كلّ من الصين والدول العربية مهمة جديدة مشتركة وهي المتمثلة في بناء الحداثة. فكلا من الصين والدول العربية دول نامية ويتميّز التعاون بينها بخصائص التعاون في ما بين بلدان الجنوب، وهو لأمر يستحق الاحتفاء.
أصدرت القمة ثلاثة وثائق مهمة وهي «إعلان الرياض للقمة الصينية العربية الأولى» الذي أُعلن فيه عن إجماع الجانبين على بناء مجتمع المصير المشترك الصيني العربي الذي يهدف لاستقبال العصر الجديد؛ و»الخطوط العريضة لخطة التعاون الشامل الصيني العربي» التي تنظم التعاون في المجال السياسي والاقتصادي والتجاري والاستثماري وغيرها من 18 مجالاً، و»وثيقة تعميق الشراكة الاستراتيجية الصينية العربية من أجل السلام والتنمية» التي تتطرق إلى تعميق علاقات الشراكة الاستراتيجية الصينية العربية والدعوة الى التعددية وتعزيز التعاون في إطار مبادرة «الحزام والطريق» وتعزيز تأسيس منتدى التعاون الصين العربي إلى آخره من المواضيع المهمة.
فتوحيد الجهود لإقامة مجتمع المصير المشترك الصيني العربي الموجه للعصر الذي يهدف لاستقبال العصر الجديد، أصبح يمثل الرغبة المشتركة والهدف المشترك والعمل المشترك للصين والدول العربية. العالم اليوم يمرّ بتغيّرات لم يشهد مثلها منذ مائة عام، وخاصة بصدد المنظومة العالمية ومعادلة تشكيل الهيكل الدولي اللذين يشهدان في الوقت الراهن تعديلات وتغيّرات عميقة، وهذا هو تغيّر العالم وتغيّر العصر وتغيّر التاريخ. على ضوء هذه الخلفية، تبرز أهمية علاقات الشراكة الاستراتيجية الصينية العربية القائمة على التعاون الشامل والتطور المشترك والتي تهدف إلى التوجه نحو المستقبل، ستعيد المبادئ الأساسية للمساواة والمنفعة المتبادلة تشكيل العلاقات الدولية الثنائية والمتعددة الأطراف، كما ستصبح المنفعة المتبادلة والفوز المشترك هو نموذج للتعاون بين بلدان الجنوب. جسّدت القمة الصينية العربية تجسيداً كاملاً لتطلعات الصين والدول العربية نحو السلام والأمن والاستقرار، ورغبتهم القوية في تحقيق الاقتصاد المتنوع والاقتصاد المنخفض الكربون والاقتصاد الرقمي.
ستفتح القمة الصينية العربية الأولى آفاقاً جديدة أمام الدول العربية، وستعزز وعيها بالتضامن والكفاح بشكل فعّال. ستعود القمة بفوائدها على العالم أجمع، وعلى الرغم من أنها غير قادرة حالياً على حلّ جميع المشكلات التي تواجهها الدول العربية، ولكنها ما زالت تُعدّ خطوة نحو تحقيق توقعات الشعوب العربية بمستقبل أفضل. وعلى صعيد تقييم هذه القمة، يرى الكثير من الخبراء العرب بأنّ خبرات الصين في القضاء على الفقر ومكافحة التصحّر وتحقيق التحوّل الاقتصادي جديرة بالاحتذاء بها والتعلم منها. يمكن تحقيق التكامل الاقتصادي العربي المستدام من خلال الاستفادة من خبرات التكامل الاقتصادي الصيني مع مختلف دول العالم بالإضافة إلى التواصل التجاري والاستثماري مع الصين.
تدعو القمة الصينية العربية الى مبدأ التعددية، إلى جانب دفع العالم نحو التطور المتعدد الأقطاب. فيوافق انعقاد هذه القمة وقت فاصل في تحوّل العالم من القطب الواحد نحو تعددية الأقطاب، حيث تتزن معادلة تشكيل الهيكل الدولي أكثر فأكثر، وتتسارع خطى تحوّل العالم نحو الأقطاب المتعددة. فمن حيث اتزان القوى، ضاقت فجوة مستوى التنمية بين الدول الناشئة والدول الغربية سريعاً. ومن حيث اتزان التأثير العالمي، ترتفع أصوات الدول النامية والدول الناشئة سعياً وراء الاستقلال وتقوية الذات عبر التضامن بينها. كما زادت حقوق التعبير لبعض المنظمات الإقليمية بصدد الشؤون العالمية والاقليمية. وقد دلَّ نجاح انعقاد القمة الصينية العربية الأولى على رغبة العالم العربي الشديدة لإنهاء عصر الأحادية والقطب الواحد وتطلعه نحو بناء عالم متعدد الأقطاب.
أكدت القمة على أنّ أساس التعاون الصيني العربي هو الفوز المشترك والاحترام المتبادل، الذي قدّم بدوره الركيزة الأساسية للعلاقات الصينية العربية، والتي من ضمنها إيجاد حلول للمشاكل الإقليمية والدولية وبناء دولة قومية واحترام سيادة الدولة مع رفض أيّ تدخل خارجي ورفض جميع أشكال تسييس قضايا حقوق الإنسان إلى آخره من القضايا، وهذا ما يختلف عن السياسات التي تتبعها الدول الكبرى الأخرى من محاولات فرض الضغوط وإجبار الدول الأخرى على الانضمام إلى معسكرات مواقفها السياسية والتنازل عن مصالحها.
تعدّ القمة الصينية العربية الأولى هي الحدث الدبلوماسي الأهمّ والأرفع مستوى بين الصين والعالم العربي منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية الجديدة، ففي الوقت الراهن تواجه قضايا التنمية والسلام العالمي أوضاعاً صعبة، ويوافق عقد القمة هذه المرحلة الفاصلة، فهي تجسيدٌ للعلاقات الثنائية رفيعة المستوى بين الطرفين. الأمر الذي يتفق مع ما أشار إليه الرئيس الصيني شي جين بينغ في مقالته المنشورة في وسائل الإعلام السعودية بأنّ «هذه الزيارة ستكون زيارة لتوارث الماضي وفتح آفاق المستقبل».

* الأمينة العامة لمركز الدراسات الصيني العربي للإصلاح والتنمية، باحثة بجامعة شنغهاي للدراسات الدولية بالصين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى