أولى

انفجار الكيان مؤكد… وفرصة رابين ضاعت

يشتري رئيس حكومة الكيان بنيامين نتنياهو الوقت ليس إلا، فالإعلان عن تجميد السير بإقرار التشريعات التي تطال تغيير التوازن الحاكم للعلاقة بين الحكومة كسلطة تنفيذية وبين المؤسسات القضائية كسلطة موازية وموازنة، مرفق بإعلان نتنياهو حليفه ايتمار بن غفير التمسك بالسير بهذا التغيير، ودفع ثمن قبول التأجيل لبن غفير بتشكيل الحرس الوطني، أو الميليشيا الخاصة بالاعتداء على الفلسطينيين يؤكد أن شيئا لم يتغير بعد، والحوار الذي طلبه رئيس الكيان اسحق هرتزوغ ورفضه نتنياهو قبل أن يخضع ويقبله تفادياً للانفجار، وقبلته المعارضة لإثبات حسن النية، في صراع يخوضه كل من نتنياهو وخصومه على الثلث الثالث من الرأي العام الذي لم يحسم انحيازه الى أي من الفريقين بعد، كما تقول استطلاعات الرأي، حيث يسعى كل فريق لإظهار أنه الأشد حرصاً على الحل السياسي وأنه قدم كل ما يلزم لملاقاة الطرف الآخر في منتصف الطريق، ليقول لاحقاً عند الانفجار أنه لا يُلام، إذا استعصى التوصل إلى تسوية، فهل التسوية ممكنة؟
واقعياً الانقسام أكبر من الخلاف على التغييرات التشريعية، وعمره من عمر مقتل رئيس حكومة الكيان وأحد أكبر زعمائه اسحق رابين، على أيدي الفريق ذاته الذي حمل أرئيل شارون ثم نتنياهو إلى السلطة، وهو الفريق الذي شكل رئيس حركة كاخ مائير كاهانا الأب الروحي له وذراعه المسلحة، وجاء بن غفير من رحمه ومثله بتسلئيل سمو تريتش، والانقسام يومها كان جذرياً بين استشراف معسكر يقوده رابين ويضم شيمون بيريز وايهود باراك، يقول إن عناصر التفوق الاستراتيجي للكيان تضمحل، وإنه يجب قبل أن ينفضح هذا الاضمحلال ويدركه خصوم الكيان بقوة ويستطيعون إقناع جمهور عريض بوجوده كفرصة للانقضاض على الكيان وإزالته، أن تبادر قيادة الكيان إلى تسوية شاملة كبرى مع الممسكين بقرار المواجهة في العالم العربي، وهم الدولة السورية والمقاومة في لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية، وفقاً لمضون يتيح تحصين الكيان بالقرارات الدولية التي تدعو للانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية والجولان، والانسحاب من لبنان وقبول حق العودة منقحاً، وبقيام تدريجي لدولة فلسطينية منزوعة السلاح لعقود، ووقفت مقابل رابين وجماعته التي تفككت بعد مقتله واستدار رموزها لمغازلة قتلة رابين من بعده بصورة انتهازية طلباً للسلطة، كما فعل بيريز ولم يفعل باراك الذي فضل بعد الانسحاب من لبنان الاعتكاف عن العمل السياسيّ، جماعة اليمين بكل تلاوينه وفي مقدمتها الليكود بزعامة شارون ومن بعده نتنياهو، وفق معادلة عنوانها أن القوة لا تزال تستطيع تغيير الواقع القائم، وأن العقائدية الصهيونية الدينية والقومية قوة إلهام لمئات آلاف المستوطنين المستعدين للموت في سبيل الدفاع عن الكيان.
يمرّ عقدان على اغتيال رابين كان خلالها التيار الذي قاد الاغتيال والذي استثمر عليه في الصعود، في تقدّم، بينما تفكك تيار رابين وانفض من حوله المناصرون، واختبر التيار الصاعد خياراته وكانت الحروب الفاشلة على لبنان وغزة، وجاء التوازن الانتخابيّ في خمس جولات انتخابية بين التيارين، تقول إنه لم يعد بينهما تيار صاعد وإنهما يتساويان في العجز والفشل. وجاء وصول التحالف الحالي الحاكم مع نتنياهو تعبيراً عن تحول في مقاربة هذا التيار لجهة اعتبار التوحّش في مساري الاستيطان والتهويد طريقاً لتحقيق جغرافيا نقية للكيان تنهي فرضية دولة فلسطينية وقدس عربية عبر سياسة التطهير العرقي والتهجير الدموي، بالتوازي مع مسار التطبيع، المستند الى استثمار الحضور الأميركي الطاغي على الحكومات العربية.
كان المشروع يستدعي التحرر من الضوابط القانونية التي قام عليها الكيان ومنح خلالها الجيش والقضاء صلاحيات تقييدية للطبقة السياسية التي تفرزها الانتخابات، لتصبح الحكومة طليقة اليدين من جهة، ويتحرّر رموزها المثقلة ملفاتهم بالجريمة من عبء الملاحقة، لكن هذا المشروع خلال أقل من مئة يوم من تاريخ تسلمه الحكم، أظهر إفلاسه. فالتراجع الأميركي بائن، وقد ظهرت نتائج هذا التراجع باحتضار مسار التطبيع، والتوحش أنتج مشهداً فلسطينياً غير قابل للكسر والعصر، وبدت مخاطر الانفجار الذي يتحول الى مشروع حرب إقليمية وراء الباب، فاستنهض الجيش والقضاء التيار المدني المستقيل من السياسة ودفع به إلى الشارع في الخطوة الأولى قبل قرار الهجرة من كيان غير قابل للعيش، وظهر بوضوح أن الحيوية التي كانت حكراً على المستوطنين وقطعان التوحش المتطرف، ظهرت في الشارع ملكاً لتيار بدا أنه مات لعقدين وبُعث حياً فجأة. وإذا لم يكن هذا التيار صاحب مشروع سياسي واضح كما كان مشروع رابين، فهو يخوض معركته تحت عنوان تجديد الثقة بالجيش والقضاء سلطتي رقابة وتقييد على الحكومة الآتية عبر الانتخابات، وهذا هو جوهر المعركة على التعديلات الخاصة بالقضاء.
الهدنة لا تعني التسوية، والتسوية لن تكون سهلة لأن عليها أن تجيب على سؤال، هل سيرضى جماعة التوحش والجريمة ببقاء قيود ورقابة القضاء والجيش بوصفهما المؤسستين المحوريتين في الكيان، أم أن المعارضة الملتفّة حول الجيش والقضاء، ومن خلفها الجيش والقضاء سيقبلون بتفكيك هذه القيود وإطلاق يد الحكومة بمشروعها الانتحاري؟
الانفجار آتٍ لا محالة، فنحن أمام مجتمعين وكيانين، وفرصة رابين ضاعت إلى غير رجعة، فإنهاء الكيان بات هدفاً لمحور ولد من رحم المقاومة وتثبّت من يقين قدرته على تحقيق النصر، ولن يفتح الباب لأي تسوية مفترضة!

التعليق السياسي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى