أولى

عندما تجرح الوحوش المسعورة

‭}‬ د. حسن أحمد حسن*
صحيحٌ أنّ الإمبراطوريات العظمى تكون أكثر خطورة في طور الانكماش وانحسار الفاعلية والقدرة على التدخل المباشر في شؤون الدول الأخرى عما كانت عليه في طور التمدد وفرض السيطرة والنفوذ، ولكن الصحيح أيضاً أن إظهار الخوف والخشية من تلك الخطورة قد يدفع مفاصل صنع القرار واتخاذه إلى حماقات ما كان لهم أن يفكروا بارتكابها لولا ظهور علامات خشية وتردد من الأطراف التي تبدي التململ والرغبة بالانعتاق من سيطرة مفروضة وإرادة كانت شبه مسلوبة، ومثل هذه الصورة هي الأقرب لفهم حقيقة المواقف الأميركية من مجمل القضايا الساخنة والمعقدة التي تترك تداعياتها على العلاقات الدولية، ومن المهمّ في هذا السياق التوقف عند بعض النقاط التي قد تساعد على توضيح اللوحة بأبعادها المختلفة، ومنها:
ـ العجز عن تحقيق أي هدف إستراتيجي على الجبهة المشتعلة في أوكرانيا، وهذا لا يعني أن روسيا الاتحادية حققت الأهداف التي أعلنتها لما أسمته «العملية العسكرية الخاصة»، فالاقتصاد الروسي وإن تأثر سلباً إلا أنه ما يزال متماسكاً، واستنزاف القدرات العسكرية الروسية في نسب وحدود لا تؤثر على جهوزية القوات الروسية لاستكمال ما تبقى من فصول الحرب المفتوحة، في حين أن الوضع على النقيض من ذلك على الساحة الأوربية التي اضطلعت بدور المنفذ للإستراتيجية الأميركية الهادفة للإطباق على روسيا وشل فاعليتها على الساحتين الإقليمية والدولية.
ـ فشل سياسة الضغوط بحدها الأعظمي على إيران في فرض أي تعديل على الثوابت الإيرانية، وقدرة إيران على إحداث اختراقات سياسية نوعية، وفتح نوافذ اقتصادية لا تستطيع واشنطن إغلاقها، فضلاً عن تحقيق منجزات عسكرية غير مسبوقة، ومنها: الكشف عن الصاروخ الباليستي «خيبر4 « الذي يبلغ مده «2000كم»، وبعده الصاروخ فرط الصوتي «فتاح» الذي ينطلق شعاعه حتى «1400كم»، ولا تستطيع منظومات الدفاع الجوي الموجودة حتى الآن اعتراضه.
ـ انتقال الصين من خانة الاعتراض الخجول على سياسة بسط النفوذ والهيمنة الأميركية إلى خندق التصدي العلني ورفع السقوف في مواجهة العدوانية الأميركية: سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ودبلوماسياً في المنابر الدولية، وعلى الضفة الأخرى التقارب متعدّد الأوجه مع موسكو التي رفعت عالياً راية المواجهة العسكرية مع الناتو بقيادة واشنطن والاستعداد للذهاب إلى أقصى الخيارات بما فيها احتمال نشوب مواجهة نووية الغلبة فيها لموسكو.
ـ تبدّلات واضحة في الاصطفافات التقليدية لمن يدور في الفلك الأميركي، وزيادة التململ لدى المحسوبين على المحور الأميركي بما في ذلك بعض الأصوات المهمة من داخل أوربا الغربية، وسقوط ما كان يعتبر من المحرمات، فتوقيع الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية أوصل رسالة واضحة المضمون عما يمكن أن يليه في المستقبل القريب في منطقة الشرق الأوسط بأهميتها الجيوبوليتكية إقليمياً ودولياً.
ـ ارتفاع وتيرة الحديث عن إمكانية تفريغ هيمنة الدولار من محتواها التي تمنح الولايات المتحدة الأميركية ميزة التفرد بالقرار الدولي، والخشية من أن يكون ما تم الإعلان عنه حتى الآن ليس أكثر من ذوبان قمة جبل الجليد في بيئة ترتفع حرارتها بوتائر غير مسبوقة جراء الحرائق التي تخلفها نيران المواجهات المتعددة التي تفرضها غطرسة واشنطن المطمئنة إلى بقاء الجغرافيا الأميركية بمنأى من تأثيرات ألسنة اللهب، وقد وصل الصوت الروسي بوضوح ليؤكد أن الحتمية الجغرافية التي تفصل أميركا بالمحيط الأطلسي عن بقية العالم لا تمنح واشنطن الأمان المتوهّم قط.
ـ التراجع البنيوي غير المسبوق في قدرة كيان الاحتلال الإسرائيلي على أداء دوره الوظيفي في حماية المصالح الأميركية في المنطقة، واقتراب تحوله إلى عبء استراتيجي، فالتهديدات مرفوعة السقوف لا يطلقها القادر على الفعل وفرض الإرادة، بل المتخوف من تهديدات وجودية تواجهه، ولا يستطيع تحييدها ولا تلافي حدوثها الحتمي، وأقصى ما يستطيعه تأخير تحولها من إطارها النظري إلى تبلورها حقائق قائمة على أرض الوقع، وهذا لا يقلل مما لدى تل أبيب من أسلحة دمار شامل، لكن وبالقياس العقلي الموضوعي إذ كان يوآف غالانت قادر على إعادة لبنان إلى العصر الحجري على حد زعمه، فحزب الله لا يحتاج إلى أكثر من إعادة كيان غالانت ستة وسبعين عاماً حيث لم يكن ذاك الكيان موجوداً، فكيف إذا أضيفت قدرات حزب الله إلى ما لدى بقية أقطاب محور المقاومة.
خلاصة
من كلّ ما تقدّم يتضح أنّ الدولة العميقة المتحكمة بأيّ قرار استراتيجي قد تتخذه الإدارة التي تشغل البيت الأبيض جمهورية كانت أم ديمقراطية ملزمة بترميم ما أصابها من جراح عميقة، ومرغمة على التعاطي بحذر شديد مع الملفات الساخنة المفتوحة، وقد يكون من الحكمة بمكان منح ذاك الوحش المجروح بعض الوقت ليس لتخفيف آلام الطعنات المتتالية التي وصلت العظم، بل للبقاء على مسافة لا تمنحه إمكانية الانقضاض والاستفراد بأي طرف من الأطراف التي ساهمت في غرز الحراب بأذرعه وأطرافه واستطالاته، وفي الوقت نفسه إسقاط كلّ مظاهر الخوف والتردد التي قد تدفعه لمهاجمة أكثر شراسة، لا سيما إذا ضمن إمكانية الاستفراد بأيّ طرف تحت أية ذريعة كانت، وأقصى ما تستطيع واشنطن فعله اليوم إبقاء الأمور في استعصاء مزمن وبخاصة على الساحتين السورية واللبنانية، ويخطئ من يظنّ أو يتوهّم أنّ المراهنة على عامل الوقت قد يفقد أطراف محور المقاومة أي ورقة قوة تم الحصول عليها بجهود وتضحيات كبيرة وعلى امتداد سنوات وعقود، بل قد تكون المراهنة على عامل الوقت هي الأكثر جدوى لدى محور المقاومة ومن معه، فبعض الإصابات البليغة جراء المواجهة المباشرة مع القطبين الصاعدين موسكو وبكين أرهقت جسد الوحش الأميركي، ولا يستبعد أن تنتقل إلى مرحلة «الإنتان» الذي يتطلب إجراء عمليات استئصال قسرية تترك آثارها على بقية منحنيات الصراع، فيضيف محور المقاومة بذلك ورقة قوة جديدة يراكمها إلى ما لديه لضمان تحقيق الأهداف الإستراتيجية المعتمدة بأقل تكلفة وأعلى مردودية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى