أولى

عندما تستعرض «الأناكوندا» الأميركية ثقلها الضاغط

‭}‬ د. حسن أحمد حسن

لم يكن مفاجئاً تقاطر المسؤولين الأميركيين والأوروبيين الغربيين إلى كيان الاحتلال الإسرائيلي لإعلان الدعم المطلق لحكومة نتنياهو التي لطالما تناولها البيت «الأسود» الأميركي قبيل ملحمة «طوفان الأقصى» بالانتقادات اللاذعة، وأكد مراراً رفض دعوة كبير مجرميها نتنياهو أو استقباله في واشنطن قبيل عملية «طوفان الأقصى»، لكن وبقدرة قادر ومن دون مقدمات اكتظ وقت نتنياهو باستقبال المسؤولين الأميركيين وأذنابهم التابعين ودمى الديمقراطية المشوّهة من الغرب الأطلسي المنافق بعد ملحمة الطوفان التي فاجأت فيها المقاومة الفلسطينية حكام تل أبيب، وكلّ من يدعمهم، ويسير في نهجهم الإرهابي الخالي من كلّ ما له علاقة بالقانون الدولي وإنسانية الإنسان، ولأنّ الدور الوظيفي لأفاعي الكوبرا في تل أبيب مهمّ في فرض الإستراتيجية الأميركية التي تعاني من ترهّلات بنيوية كان التدخل الأميركي المباشر بكلّ الزخم غير المسبوق، والذي يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الكيان الإسرائيلي يمثل محمية أميركية ليبقى حاملة الطائرات الأميركية الأكبر على البر وفق تصريحات سابقة لمسؤولين أميركيين، وفي ضوء هذا يمكن فهم تصريحات بايدن قبل أن يصبح رئيساً منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي وتأكيده على أنه: لو لم يكن هناك «إسرائيل» لكان على أميركا خلق «إسرائيل» خدمة للمصالح الأميركية في منطقة جيو إستراتيجية تدخل في صلب اهتمام جميع القوى الفاعلة والمؤثرة إقليمياً ودولياً.
إذن مسارعة واشنطن لوقف الانهيار الشامل داخل كيان الاحتلال الإسرائيلي مصلحة أميركية بالدرجة الأولى قبل أن يكون دعماً ومساندة لتل أبيب لارتكاب المزيد من الجرائم والقتل والتدمير والترهيب وتحويل أجساد الأطفال والنساء والطواقم الطبية في غزة إلى أشلاء تنبعث منها رائحة اللحم المشوي بأشدّ الأسلحة فتكاً، والتي سرعان ما وصلت من مخازن البنتاغون إلى معسكرات القتلة المجرمين في جيش الاحتلال الإسرائيلي، وهذا يعني حتمية تدخل واشنطن بعد التأكد من عجز جيش الكيان عن حماية نفسه قبل حماية المستوطنين، وكأنّ إدارة بايدن تريد أن توصل خطاباً واضحاً لا يحتمل التأويل ولا لبس فيه قط ومضمونه: تعرّض المحمية الأميركية المقامة بالقوة فوق أراضي فلسطين المحتلة لأخطار وجودية يعني تهديد المصالح العليا الأميركية قبل تهديد تل أبيب، فواشنطن هي مقر القيادة والسيطرة المسؤولة عن تمكين بقية الولايات والمحميات الأميركية من الاحتفاظ بالقدرة على العربدة والدائمة لأنها جزء من الثقافة الأميركية، وعليها يستند الكثير من أوراق التخويف والترويع والترهيب التي تبيح لواشنطن إطالة عمر الأحادية القطبية أطول فترة ممكنة قبل الاضطرار للتسليم بأنّ نظاماً عالمياً متعدّد الأقطاب بدأت معالمه تبور، ولا إمكانية لمنع الإعلان عن ولادته رغم أنف واشنطن وكلّ من يدور في فلكها الآسن.
من هذه الزاوية يجب فهم الحضور الأميركي وما يعلنه من اعتماد أعلى درجات العدوانية التي قد تتمخض عما لا يروق لبلاد العم سام المتناقضة في طروحاتها، فهي مرتاحة لحفلة الشواء التي ينفذها الجيش الإسرائيلي بأسلحتها على مدار الساعة بحق الفلسطينيين، وفي الوقت نفسه تكرّر حرصها على عدم اتساع رقعة الحرب، فكيف يكون الجمع بين المتناقضات؟
واقع الحال يقول: إنّ واشنطن لا تريد الغرق أكثر في أوحال تراها بأمّ العين، ولكنها لا تستطيع تجنب الغوص فيها، واستعراض مظاهر القوة والعضلات المنفوخة قد يكون يروي غرور وصلف المتحكمين بمفاصل القرار في حكومة الظل الكونية، لكن الأكثر خبثاً ودهاء بين أولئك يدركون أن ضخامة حجم «الأناكوندا» الأميركية يزيد من احتمالات إمكانية تعرّضها للعديد من المؤثرات المؤلمة التي قد تكون فوق طاقة التحمل، والجميع يدرك أيضاً أنّ أي ضربة مؤذية ستسيل دم تلك الأناكوندا، وعندها لن يعود مفيداً سحب البوارج وحاملات الطائرات وأساطيل الإرهاب التي تمّ تجميعها في مياه المنطقة، وحتى لو عادت الأفعى الضخمة إلى جحرها النتن فلن تكون في مأمن لأن النمل المنتشر بكثافة ومن شتى الأنواع في جحر تلك الأناكوندا قادر على التجمع في الجرح النازف واستمرار توسيعه إلى أن يقضي عليها، لتأتي أخرى قد تكون سميتها أعلى وحجمها لا يقلّ عن تلك التي لفظت أنفاسها جراء عدوانيتها واستهانتها بإرادة المجتمع الدولي برمته، وبالتالي قد يفكر الأكثر خطورة ودهاء وخبثاً ومكراً وعدوانية بتدوير الزوايا قبل فوات الأوان، وقد يجد لدى من أسالوا دم الغطرسة الأميركية بعض القبول إذا تركت فراخ الكوبرا التلمودية يقتلعون أشواكهم بشكل ذاتي في مواجهة من عانوا عقوداً طويلة من سمومهم القاتلة، وكلّ العدل أن يشربوا بالكأس نفسها التي جرّعوها لأبناء المنطقة.
الفكرة الأخرى المتعلقة بالسابقة خاصة بما أعلن عنه «البيت الأبيض» بخصوص إجراء كلّ من الرئيس الأميركي جو بايدن، ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولاف شولتز، ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، مكالمة بشأن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وأكدوا في بيان مشترك دعمهم جميعاً للاحتلال الإسرائيلي في حربه على غزة، وحقيقة لا أدري لماذا أرهق بايدن وزبانيته أنفسهم بإصدار مثل هذا البيان؟ وإذا كان السبب يقينهم بأنّ كذبهم وخداعهم ونفاقهم أفقدهم كل مصداقية فعليهم أن يكون مطمئنين أن العالم كله يصدق أنهم يدعمون تل أبيب، وحتى الذريعة التي سوّقوها تحت عنوان «الدفاع عن النفس» هم غير ملزمين بتسويقها لأنّ الواقع بكلّ معطياتهم يؤكد حتمية دعمهم وحشية حكومة نتنياهو من دون أيّ سبب، ويكفي أنها رأس الحربة المزروعة في المنطقة لحماية المصالح الأميركية والأطلسية، وإذا ثبت بالدليل القاطع عجز هذا الكيان اللقيط عن الاستمرار بتنفيذ دوره ومهمته، فهذا لا يعني التخلي عنه فوراً، بل يتطلب الأمر وقتاً قد يطول لتجهيز بديل يقوم بالدور نفسه، وجميع والقرائن الدالة تشير بوضوح إلى انتفاء إمكانية إيجاد من يقوم بالدور ذاته على الرغم من كثرة المنبطحين والمتمّسحين بتلابيب واشنطن حتى لو تلقوا الركلات المتتالية، ولا تستطيع قوة في الدنيا أن ترغم الأعمى على الاعتراف بأنه يرى الشمس، حتى ولو كانت ساطعة في سماء بلا غيوم وفي رابعة النهار.
أما ما يتعلق بخشية البنتاغون من احتمال قائم لتصعيد أكبر ضدّ القوات والأفراد الأميركيين، في المدى القريب، فلا ضير من أن يتيقن أصحاب الرؤوس الحامية أن الأمر يتجاوز عنوان الخشية، ويدخل في خانة الواقع القابل للتبلور بأسرع مما قد يخطر في أذهان أولئك، وعندها بكلّ تأكيد ستسيل دماء الأناكوندا الأميركية، ولن تفيدها السمّية الأكبر التي تميّز أفاعي الكوبرا في تل أبيب في تجنيبها غضب من أعاروا جماجمهم لله، وأيقنوا أنه لن يستعيدوا حقوقهم المغتصبة وكرامتهم المسلوبة إلا بأيديهم وبدعم الأوفياء للحق والعدل ونصرة المظلوم ورفع الصوت عالياً في وجه الظالم المستبدّ الذي يسوق نفسه وكأنه نصف إله إن لم يكن أكثر، وأن إرادته وقراره جزء من القدر الذي لا رادّ له، ولا إمكانية للوقوف في طريقه، لكن كلّ ذلك عصف به المقاومون الفلسطينيون وداسته أحذيتهم العسكرية المتجذرة بتراب فلسطين، وعلى الطرف المقابل هناك من ينتظر بفارغ الصبر أن تسيل الدماء الأميركية، وما أكثر من يتمنّون ذلك، ناهيك عمن يعملون بهدوء على تبريد السخونة العالية التي قد تدفع واشنطن لارتكاب حماقة قد لا تستطيع النجاح بلملمة تداعياتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى