مرويات قومية

مرويات قومية

ولأن في التاريخ بدايات المستقبل…
تُخصّصُ «البناء« هذه الصفحة، لتحتضنَ محطات مشرقة من تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي، صنعها قوميون اجتماعيون في مراحل صعبة، وقد سجلت في رصيد حزبهم وتاريخه، وقفات عز راسخات على طريق النصر العظيم.
وحتى يبقى المستقبل في دائرة رؤيتنا، يجب أن لا يسقط من تاريخنا أي تفصيل، ذلك أننا كأمّة، استمرار مادي روحي راح يتدفق منذ ما قبل التاريخ الجلي، وبالتالي فإن إبراز محطات الحزب النضالية، هو في الوقت عينه تأكيد وحدة الوجود القومي منذ انبثاقه وإلى أن تنطفئ الشمس.
أنّ نكتب تاريخنا،..فإننا نرسم مستقبل أمتنا.

إعداد: لبيب ناصيف
الوجه الحزبي والشعبي في محافظة طرطوس
النائب الأمين بديع اسماعيل

زرته مرتين، أولى عندما رافقت رئيس الحزب في حينه الأمين علي قانصو، وأعضاء في المجلسين الأعلى والعمُد لتفقده في دارته في طرطوس، وقد لفتني الى طول قامته، وإطلالته المهيبة، كثافة الحضور الشعبي في دارته وصولاً الى الحديقة المحيطة، مما يدلّ على رفعة مكانته في عشيرته وفي طرطوس وريفها، والثانية عند رحيله فقد كنت في عداد الوفد الحزبي الذي توجه برئاسة رئيس الحزب الأمين علي قانصو الى طرطوس ثم الى بلدة «القمصية» مسقط رأس نائب المنطقة، الوجه الحزبي والشعبي المعروف الأمين الراحل بديع اسماعيل.
في تاريخ الحزب في الكيان الشامي يبرز اسم الأمين عصام المحايري كنائب عن دمشق، إنما قليلون من الرفقاء يعلمون ان هناك نوابا آخرين من الحزب السوري القومي الاجتماعي وصلوا الى مجلس الشعب وكان لهم دورهم فيه وفي مناطقهم الانتخابية، منهم الأمين حنا كسواني عن ريف دمشق، وزكي نظام الدين عن الحسكة.
***
يفيد الأمين بديع اسماعيل انه في صيف 1936- 1937 وكــان في اوائل العقد الثاني من عمره عندما كان أخوه فريد يعقد الندوات والاجتــماعات لشباب القرية يشرح مبادئ الحزب السـوري القومي الاجتماعي، وكان مع أخيه الآخر شفيق وأقرانهما يراقبون ويستمعون للافكار والمبــادئ التي لاقـــت أكبــر صدى في نفوسهم وهم الصغار، وفي نفوس أهالي قرية القمصــية وشبــاب القــرى المجاورة.
يضيف انّ عدداً من شباب العائلة والقرية الذين تفهّموا المبادئ، انتموا الى الحزب، وكان شقيقه فريد اول مدير للمديرية، وكان يعقد الاجتماعات الحزبية في منزل العائلة احياناً، واحياناً اخرى تحت سنديانة القرية.
اما عن انتمائه فيوضح: انه في عام 1943 – 1944 لاحظ احد طلاب الصفوف العليا في مدرسة اللاييك (Lycee) في طرطوس، الرفيق ايليا خوري، من منطقة صافيتا، ما كان يدور بينه وبين زملائه التلاميذ من نقاش حول مبادئ الحزب، فاشترك معهم في النقاش مرات عديدة، «ثم سألنا اذا كنا أقسمنا اليمين، فأجبنا بأننا حزبيون منذ ثماني سنوات ولكن لم يعرض علينا أحد القسم. ونقل ما دار بيننا الى العميد الأمين الياس جرجي الذي بعد ان شرح لنا خلال مدة من الزمن شرحاً وافياً عن المبادئ، حدّد لنا يوماً للقسم، وفي ليلة من عام 1944 – 1945، ولدنا ثانية عندما أقسمنا اليمين الذي منهج حياتي، اذ جعلني من أبناء الحياة. تمّ القسم امام العميد الأمين الياس جرجي والرفقاء خالد طبارة، أحمد تركماني وايليا خوري.
المأتم الحاشد
كان الأمين بديع اسماعيل وجهاً مرموقاً ومرجعاً سياسياً – شعبياً في منطقته، لذا كان مأتمه مهرجاناً حاشداً زحفت اليه القرى المحيطة بطرطوس، فضلاً عن القوميين الاجتماعيين، وقد تمثل مركزهم بحضرة رئيس الحزب آنذاك الأمين علي قانصو وبعدد وفير من العمُد والأمناء، ونشرت عنه مجلة «البناء» في عددها 894 تاريخ 18/10/1997، ننقل أدناه أبرز ما جاء فيه:
شيعّت محافظة طرطوس في الأول من تشرين الحالي المحامي الأمين بديع اسماعيل الذي وافته المنية إثر مرض عضال.
وإثر اعلان الخبر غصّ منزل الفقيد في طرطوس بمئات المواطنين من الأهل والرفقاء والأصدقاء جاؤوا من كافة أنحاء المحافظة، وعند ظهر الخميس انطلق موكب يضمّ الآلاف في أضخم حشد شهدته المنطقة منذ أعوام، اذ احتشد في الوداع جمهور غفير ضمّ، اضافة الى ابناء المحافظة، اصدقاء للفقيد واعضاء في الحزب السوري القومي الاجتماعي ممن رافقوا الأمين الراحل في تاريخه النضالي الحافل، جاؤوا من كافة القرى والمدن والمحافظات القريبة منها والبعيدة، واغلبهم تجشم السفر ليلاً، فللأمين منزلة كبيرة لدى جميع رفقائه ومثلها لدى معارفه واصدقائه، تكرّست عبر اكثر من نصف قرن قضاها في أحلك الظروف مواظباً على البرّ بقسم انتمائه واضعاً مضمونه نبراساً في حياته اليومية دليلاً لسيرة ناهضة ومناقب عالية.
في الثانية عشرة انطلق موكب يضم مئات السيارات والباصات من امام منزله في طرطوس الى قرية القمصية مسقط رأسه، تتقدمه ثلة من شرطة المرور التي سهّلت انطلاق الموكب نظراً للازدحام الشديد الذي نجم عن توافد مئات السيارات للمشاركة في نقل المشيّعين من طرطوس، والأخرى التي انضمّت الى الموكب من اللاذقية وبانياس وقرى المحافظة.
القمصية على رحابتها ضاقت بالحشد التاريخي الذي انتظم في موكب الجنازة حيث حمل نعش الفقيد على أكفّ رفقائه وأهله مجتازاً الشوارع الى مثواه الأخير، يتقدّمهم مئات من حمَلة الأكاليل بينها أكاليل باسم رئيس مجلس الوزراء الشامي الاستاذ محمود الزعبي، ووزير العدل حسين حسون، وفرع حزب البعث العربي الاشتراكي في طرطوس، والنائب العام ونقابة المحامين وهيئات رسمية وحكومية، ومثل الحزب السوري القومي الاجتماعي وفد رسمي مركزي ضمّ رئيس الحزب الأمين علي قانصو، ورئيس مجلس العمُد الأمين أنطون غريب، وعميد العمل الأمين الدكتور انطون حتي، وعميد الداخلية الأمين لبيب ناصيف وعميد الثقافة الأمين يوسف كفروني والأمين ربيع الدبس وأعضاء من المجلس الأعلى وعدد غفير من الامناء.
بعد مراسم الصلاة والدفن كانت كلمات تأبين للمحامي الرفيق رزق الله عرنوق، كما ألقى رئيس الحزب الأمين علي قانصو كلمة مركز الحزب وجاء فيها:
«.. إنه الموت سمّه ما شئت، سمّه قدراً، سمّه مصيراً، سمّه ما يحلو لك من الأسماء ولكن اعترف أنك لا تقوى عليه، لا بمال لديك ولا بجاه.
هو الموت مورد محتم يأتيك رغماً عنك، يأتيك في ثوب حادث مفاجئ… أو يأتيك مرضاً يتسلل الى قلبك، أو دماغك او الى لحمك ودمك، ولكن في الحالتين يعز عليك أن يفارقك الرجال الرجال، ويعزَ عليك ان تحترق أرومات تاريخك وان تتبدّد خمائر التجدّد فيها، وان تنطفئ لك مشاعل ومنارات..
فيا حضرة الأمين بديع:
ها هي الحياة تأتي الى وداعك، ها هم أبناء الحياة جاؤوا من كلّ حدب وصوب، ملوّحين بحسراتهم، فأيّ أمين بديع افتقدوه. وأيّ جزء من ذاكرتهم خسروه، وأيّ قدوة اقتلعها الموت من أمام بصائرهم وأبصارهم.
يا أمين بديع… يا تاريخاً نابضاً بحكايات عزنا ومجدنا، أما من حديث بعد بيننا. اذاً لتكن سيرتك لسانك… بل قد تكون أفصح منه، واذا كانت الفصاحة في مأتم وداعك فهي أوجب ان تكون في ما كثر ودلّ. وما أكثر المحطات الدالة في سيرتك، أأذكّر بانتمائك المبكر الى حزبنا تعبيراً عن نهضتك وانت تتلمّس السبل لخلاص قضيتنا؟ أأذكّر بالمسؤوليات الحزبية… المسؤوليات الادارية والإذاعية والسياسية… تسلمتها فكنت خير من يحمل أعباءها.
أأذكّر بدورك الكبير في نشر الفكر القومي الاجتماعي في متحدك ومحيطك وحيثما حللت؟ أأذكّر بالمديريات التي نشأت على يديك؟ أأّذكّر بتجربتك مع السجون في الخمسينات؟ فلو كانت لتلك السجون ألسنة لنطقت ببطولاتك، وحدثت الأجيال عن تاريخ من العز القومي كتبته بصبرك ورجولتك، فلكم حاولت تلك السجون اكتناه قهرك فما استطاعت ولكم حاولت انتزاع إيمانك بالمبادئ السورية القومية الاجتماعية من قلبك فقاومتها بالكبر وما قدرَت. ولكَم حاولت انتزاع أسرار حزبية من صدرك فقاومتها بقسم انتمائك حتى ارتدّت خائبة ذليلة.
واذا كانت الشدائد هي محكّ الرجال – وهي كذلك – فأنت الرجل الرجل، واذا كانت محكاً للإيمان والالتزام فأنت المؤمن المؤمن والملتزم الملتزم.
يا حضرة الأمين:
بعض الناس اذا بلغوا منصباً انحدروا به تحت وطأة أغراضهم الشخصية، ونزواتهم وغرائزهم، وبعضهم الآخر إذا بلغوا منصباً سموا به بفعل إيمائهم والتزامهم بقضية تساوي وجودهــم، وأنت كنتَ طوال عهدك من هذا البعض الاخير. لقد تبوأت النيابة عن طريق النــضال، فما عنَت لك بهرجــاً ولا جاهاً، بل عنت لك موقعاً متقدّماً لخدمة شعبك ونهضته. فبقيت أنت أنت.. إيماناً والتزاماً، عطاء وتضحية، إنه فعل النهضة في رجالها، ألا بوركت هذه النهضة وبورك هؤلاء الرجال أمثالك.
يا أمين بديع، يا ابن العائلة الأصيلة الكريمة… يا ابن هذا الساحل السوري الذي حملت أشرعته حضارة أمتنا الى العالم، يا ابن الشام الأبية، علّمنا سعاده في ما علمنا أنّ الأفراد زائلون أما الأمة فباقية، معلناً انتصار حياة المجتمع على كلّ عوامل الموت والفناء. فلهذه الحياة الناهضة عملتَ وضحيتَ ملتزماً بقول المعلم: «سواء فهمونا أم أساؤوا فهمنا فإننا نعمل للحياة ولن نتخلى عنها».
ايها الحضور الكريم:
حياة أمتنا في خطر شديد يطاول مصيرنا برّمته ومصدر الخطر هو.. هو، إنه الاحتلال اليهودي ومخططاته في أمتنا،
الخطر هو.. هو، إنه العدوان التركي وأطماعه هي ايضاً في امتنا.
الخطر هو.. هو، إنه العصبيات الطائفية والعرقية والكيانية التي تفتت مجتمعنا وتضعف مقاومته وتشتت قواه.
أمام هذا الخطر الداهم المركَب، الوعي القومي الاجتماعي هو وحده سبيل شعبنا الى إنقاذ مصيره، ووحدة الأمة السورية هي وحدها ما يعيد للأمة عزها ومجدها وقوتها. وعلى طريق تحقيق هذا الوعي وتلك الوحدة، قدرنا ان نقاتل أعداءنا، فها هو شعبنا يواجه باللحم الحي العدو اليهودي في فلسطين والجولان ولبنان، وها هي الشام ومعها لبنان تواجه المخططات «الاسرائيلية» والتركية متخذة في صراعها ضدّ أعداء الأمة نهجاً قومياً شديد الوضوح، واستراتيجية قومية راسخة تقوم على توظيف كلّ إمكانية في الواقع القومي وفي الواقع العربي في خدمة الصمود والمواجهة.
فإلى شعبنا نقول: قدرنا ان نصون عوامل الحياة ومقوماتها في مجتمعنا بأن يوحدها وعي قومي اجتماعي، وان تتساند القوى الحية في أمتنا فلنلتفّ حول الشام.. ركن الأمة الحصين وقاعدتها في المواجهة القومية.
يا أميننا الراحل:
أحييك باسم قيادة حزبنا وباسم أعضائه، أحيي أبناءك وعائلتك والرحمة لك، البقاء لكم، البقاء للامة، ولتحي سورية.
وفي الختام القى الدكتور ياسر اسماعيل المحمد كلمة أهل الفقيد شاكراً المشيّعين حضورهم ومشاركتهم في العزاء.
وتقبّل رئيس الحزب والوفد المركزي تعزية المواطنين الى جانب اخوة الفقيد وأبنائه في القمصية قبل عودته الى بيروت.
وكانت رئاسة الحزب قد نعت الفقيد رسمياً في الوطن وعبر الحدود، وتلقت عدداً من برقيات التعزية من وزراء ونواب وفعاليات سياسية في لبنان.
***
ـ ولد الأمين بديع اسماعيل في «القمصية» محافظة طرطوس عام 1925.
ـ انتمى الى الحزب السوري القومي الاجتماعي في الفترة 1944-1945.
ـ تسلّم عدة مسؤوليات حزبية كان أوّلها مدير مديرية في الكلية العلمانية الفرنسية بطرطوس ومسؤولاً إذاعياً واعلامياً في ناحية القمصية والشيخ بدر 1946 – 1949. ثم مديراً لمديرية ثانوية البنين في اللاذقية.
ـ انتخب نائباً عن الحزب السوري القومي الاجتماعي في البرلمان الشامي عام 1951.
ـ سُجن بسبب نشاطه الحزبي عام 1946 في اللاذقية وفي عام 1955 حتى 1958 في سجن المزة ثم أعيد الى السجن في مطلع الستينات وأفرج عنه في منتصف 1967.
ـ زاول المحاماة في مكتبه بطرطوس حتى تقاعده عام 1992.
ـ مُنح رتبة الأمانة في الحزب السوري القومي الاجتماعي في 16/08/1996.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى