أولى

دولة الإنكار والإجرام لا تواجَه بالمناشدة والاسترضاء

 بشارة مرهج*

بالتوازي مع الحرب الدموية العنصرية التي يشنّها على غزة والضفة يتابع الكيان الصهيوني العنصري غزواته للمسجد الأقصى المبارك وانتهاك حرمته ومنع غالبية المقدسيين من زيارته والصلاة في محرابه. وإذا كان العدو يفعل ذلك استجابة لنزواته وإرواءً لغليله فإنّ غرضه الأبعد هو فصل هذا الصرح الديني التاريخي عن القدس وأهلها وأكنافها تمهيداً للاستيلاء عليه واستكمال مخططاته المرسومة في بناء الهيكل المزعوم على أنقاضه، وكلّ ذلك بناء على نظرية مُختلقة تدّعي: «ان لا معنى لـ»إسرائيل» بدون القدس ولا معنى للقدس بدون الهيكل».
وخلال أسبوع الميلاد المنصرم توقع كثيرون أن «تقتنع» تل أبيب بإقرار هدنة مؤقتة لإتاحة المجال أمام حجاج الأراضي المقدسة والزوار والمصلين أن يقوموا بواجباتهم الدينية. غير أنّ هذه التوقعات ذهبت بها رياح الحرب التي أصرّت تل أبيب على مواصلتها بكلّ ضراوة ضدّ غزة والضفة وفلسطين ولبنان والمنطقة بأسرها غير عابئة بمشاعر مئات ملايين البشر الذين يتوقون لزيارة القدس ومعاينة معالمها ودروبها وشوارعها العتيقة، متمسكين بعاداتهم وقيمهم الإنسانية التي تحتّم احترام الأديان السماوية وعدم التعرّض للأماكن المقدسة أو للمؤمنين والمصلين.
وإذ تتمادى الدولة العنصرية في إجرامها كان يُفترض بالمجتمع الدولي، الذي يباهي بتمسكه بمبادئ الحرية، أن يبادر الى فرض وقف إطلاق النار احتراماً للمناسبة واستناداً إلى قرارات الهيئة العامة للأمم المتحدة التي عكست إرادة دولية عارمة في إرغام تل أبيب على وقف عدوانها والكفّ عن مجازرها التي تتركز على العائلات والأطفال والمستشفيات والمدارس فضلاً عن الصروح الدينيّة التي دكّتها دكاً في غزة دون أن تبقي لها أثراً رغم أنّ عدة منها، سواء كانت إسلامية أو مسيحية ، تُعتبر صروحاً دينية تاريخية أثرية رافقت نشوء الأديان في منطقتنا العربية.
إنّ تخاذل «المجتمع الدولي» عن اتخاذ أيّ تدابير جدية لحماية القدس والأقصى والصروح الدينية في غزة وسائر الأراضي الفلسطينية لا يمكن اعتباره تقصيراً أو إهمالاً وإنما هو تواطؤ فاضح مع تل أبيب، لا سيما أنّ الاعتداءات الصهيونية تكرّرت وتمادت وألحقت أفدح الأضرار بالجوامع والكنائس والمقابر والمقامات التي يعود تاريخها إلى قرون ماضية وتُعتبر جزءاً من التراث الإنساني.
وهذا التغاضي «الأممي» عن هذه الجرائم الفظيعة يمكن اعتباره مشاركة في الجريمة وتشجيعاً للكيان العنصري على الاستمرار في تجاهل منظومة القوانين والمعاهدات والمواثيق الدولية التي تنظم علاقات الدول والمجتمع البشريّ بالحدّ الأدنى، كما يمكن اعتباره تحريضاً على الاستمرار في قتل الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه بالنيران والحصار والتجويع، خاصة بعد أن برهن هذا الشعب أنه شعب شجاع يتمسك بالحياة تمسكه بحقوقه وأرضه ومقدساته، وأنه في سبيل ذلك مستعدّ لتقديم أعظم التضحيات التي يقف أمامها العالم بتقدير واحترام. ومما لا شك في هذا المجال أنّ النظام الأميركي يخشى هذا البروز الفلسطيني ويخشى آثاره الإيجابية على نهضة الشعوب وتحرّكها في سبيل التحرر والاستقلال واستعادة الثروات مما يوجه ضربة قاسية للإمبريالية تريد واشنطن استدراكها بواسطة الحرب على غزة ومشاركتها الفعالة فيها.
إنّ رفض العدو الصهيوني وقف الحرب على غزة يعني أنه مصمّم على تحقيق أغراضه الاستراتيجية في توسيع دائرة الاستيطان وإنهاء الوجود الفلسطيني على الأراضي الفلسطينية مهما كانت التكاليف، ومهما تعاظمت الضغوط عليه. لذلك لا يجوز بعد اليوم التواصل معه او مناشدته القبول بوقف إطلاق النار الذي لن يستجيب له إلا إذا أرغم على ذلك إرغاماً، وإلا إذا رأى بأمّ العين الخسارة الاستراتيجية التي يُمنى بها جراء استمرار الحرب. وهذا بالنسبة له غير وارد، في هذه اللحظة، على الأقلّ، التي تشهد إنكاره الحقيقة وتشبّثه بآمال تتهاوى ساعة بعد ساعة على يد أبطال المقاومة في غزة والضفة ولبنان واليمن والعراق، كما على يد الجماهير التي تملأ ساحات المدن الكبرى في أميركا وأوروبا استنكاراً وتنديداً بـ «إسرائيل» وقيادتها وسياستها.
إنّ وقف العدوان على غزة الذي أصبح مطلباً دولياً تسانده الشعوب في أقطار العالم لا يمكن تحقيقه وإنقاذ أطفال غزة وعائلاتها من الإبادة الجماعية إلا بتصعيد المواقف الواقعية والعملية ضدّه على صعيد السياسة والاقتصاد والملاحقات القانونية وسواها، على أن تكون البداية قطع العلاقات معه وتكريس مقاطعته لا سيما من قبل الأنظمة العربية التي «صدّقت» أنه يمكن للعقرب أن يغيّر من عاداته. انّ مهمة الأنظمة العربية ليست الوقوف في نقطة الوسط بين القدس وتل أبيب، إنما مهمتها مساندة الشعب الفلسطيني حقاً وبحسب مقررات القمم العربية التي وقّع عليها الرؤساء والملوك والأمراء، تلك المقرّرات التي لا يجوز نقضها أو تحريفها، خاصة أنها كانت بمثابة عهود ومواثيق يتحمّل مسؤوليتها كلّ من وقعّ عليها وتبناها وتعهّد، باسم شعبه، احترامها وتنفيذها.
إنّ فلسطين اليوم وقد غيّرت المعادلات وتفوقت على العدوان وشعّ نورها في كل البلدان، من حقها أن تتطلع الى وقفة عربية جادة وفعّالة بوجه عدو يطمع بكلّ عواصم العرب، وكلّ مواردها، وكلّ ما تمثله من عطاء إنساني وحضاري تعتز به الأجيال على مر الأيام.
ولا يغربنّ عن البال أنّ غزة عندما انتفضت في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 على الكيان العنصري الصهيوني إنما انتفضت رداً على العدوان المتمادي الذي يقوم به هذا الكيان على الأقصى المبارك، معتبرة أنّ هذا العدوان يحمل ويلخص في طياته كلّ نيات العدو في الاستيطان وبناء الدولة اليهودية الخالصة على كلّ الأرض الفلسطينية وما يعنيه كلّ ذلك من تشتيت للشعب الفلسطيني وضرب مقوّماته و«إزالته» عن الخريطة، فهل كثير على غزة وهي تحارب باللحم الحي نيابة عن العرب وكلّ المؤمنين والاحرار في العالم أن ننصرها بالفعل لا بالقول فقط؟!

*نائب ووزير سابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى