أولى

«معادلة الدم بالدم» في الدافع والمضمون والمفاعيل

‬ العميد د. أمين محمد حطيط*

عندما فتحت المقاومة الإسلامية من لبنان جبهة قتال مع العدو في فلسطين المحتلة وضعت لها ضوابط وسقوفاً وقيوداً تجعلها محصورة في إطار الهدف الذي دفع اليها مع تجنب الانزلاق الى أبعد من هذا الهدف بشكل يحرف الأمور عن مسارها ويشتت الجهد ويعطل تحقيق الغاية من الحرب، لا بل ويقود إلى تداعيات سلبية لا تستوجبها المهمة.
ومن حيث الهدف شاءت المقاومة الإسلامية في لبنان ان تضغط على العدو الإسرائيلي الذي انطلق بعد عملية طوفان الأقصى في حرب تدميرية ضد القطاع لتنفيذ الإبادة الجماعية فيه، إبادة تشكل خطوة هامة على طريق تصفية القضية الفلسطينية وهدر أيّ حلم باستعادة الفلسطينيين حقوقهم السياسية في وطن ودولة ذات سيادة.. ومن أجل ذلك اعتمد حزب الله الذي يمارس هذه المقاومة ويقودها، شكل الحرب المقيّدة بقيود المكان (جبهة 103 كلم بعمق 6 كلم) وقيود الهدف والسلاح (أهداف عسكرية تتعامل معها مدفعية وصواريخ قصيرة المدى ذات قوة تدميرية مناسبة) وقيد المناورة (تنحصر بالمناورة النارية).
لقد اختارت المقاومة هذا النوع من الحرب وجعلت الجبهة جبهة إسناد تعمل وفقاً لاستراتيجية الضغط على العدو لمنعه من الاستفراد بالمقاومة الفلسطينية في غزة، والضغط عليه لمنعه من العمل بطلاقة وفعالية وبكامل طاقاته العسكرية ضدّ القطاع، لذلك اعتمدت المقاومة من لبنان استراتيجية الضغط المتحرك والمنسق مع فعاليات المقاومة في غزة ودرجة الأخطار التي تتهدّدها، استراتيجية جعل جبهة الجنوب اللبناني مرتبطة ارتباطاً عضوياً وبنيوياً بجبهة القطاع الرئيسيّة تتحرك معها وتتوقف معها.
وفي الميدان وعلى أرض الواقع لمس المراقب انّ جبهة الجنوب اللبناني مع فلسطين المحتلة حققت أهدافها من خلال إلزام العدو بتخصيص أكثر من ثلث قدراته العسكرية لهذه الجبهة ما خفف عن قطاع غزة، كما تسببت هذه الجبهة بتهجير ما يكاد يناهز 150 ألف مستوطن إسرائيلي من 42 مستوطنة من شمال فلسطين المحتلة إلى فنادق ومهاجع خارج منطقة العمليات، كما تعطيل أو شلّ الأعمال في قطاعات السياحة والزراعة وكامل القطاع الاقتصادي في شمال فلسطين المحتلة ما شكّل ضغطاً على الاقتصاد الإسرائيلي وساهم في تراجعه.
لقد أوجعت جبهة الجنوب مع فلسطين المحتلة العدو ورغم أنه في البدء خضع لقيود الحرب التي وضعتها المقاومة، إلا أنه في لحظة معينة، كما يبدو قرّر الخروج عن هذه القيود واستدراج المقاومة لتبدأ حرباً مفتوحة يحقق فيها نتنياهو غرضين: الغرض الأول توريط أميركا بالحرب ودفعها لمواجهة حزب الله عملاً بالوعد الذي قطعه بايدن لنتنياهو بأنّه سيكفيه كلّ الأخطار وعليه أن يهتمّ بقطاع غزة فقط. والغرض الثاني تحقيق مصلحة شخصية لنتنياهو بإطالة أمد الحرب وحماية حكومته المتطرّفة من السقوط وبقائه في السلطة لأطول مدة ممكنة.
من أجل ذلك وخروجاً على قواعد الحرب المقيّدة، استهدف الجيش الإسرائيلي عن سابق تعمّد وتصميم المدنيين اللبنانيين داخل منطقة العمليات المحددة وخارجها ما تسبّب خلال 48 ساعة فقط بارتكاب مجزرتين ذهب ضحيتهما ١٣ شهيداً مدنياً في كلّ من النبطية والصوانة معظمهم من النساء والأطفال. مجازر توخى منها نتنياهو الضغط على المقاومة لوقف عملياتها على الجبهة المساندة او استفزازها واستدراجها الى ردّ يشكل المدخل الى الحرب المفتوحة.
بيد أنّ المقاومة لم تقع في الفخ الإسرائيلي، ولن تفرّط بدماء شهداء المجزرتين، حيث إنها في موقف بالغ الحكمة والدقة والعمق الاستراتيجي، أطلقته وحدّده السيد حسن نصرالله في كلمته في الاحتفال السنوي بذكرى القادة الشهداء، ميّزت بين أمرين: الأول المعركة التي تخاض في إطار الحرب المقيّدة والتي فيها «تقتلون وتقتلون» وهذه هي طبيعة الحروب والمعارك التي تخاض فيها. والأمر الثاني هو جريمة استهداف المدنيين ما يستوجب الردّ عقاباً وانتقاماً لدماء ضحايا الجريمة عبر معادلة «دم بدم» ولا تفريط بدماء نسائنا وأطفالنا.
أما في التنفيذ، فإنّ المقاومة التي أرست هذه المعادلة وميّزتها عن مجريات الحرب المقيّدة أيّ ميّزت بين المعركة والقتال فيها وبين الجريمة والعقاب عليها وتكون بذلك حفظت حقها بالانتقام لدماء المدنيين وعطلت السعي الإسرائيلي للدفع نحو الحرب المفتوحة ومحتفظة بحق النيل من المدنيين الصهاينة في كلّ مرة يُستهدف فيها مدنيون لبنانيون مذكرة بتفاهمات حماية المدنيين السابقة التي اعتمدت في تموز ١٩٩٣ ونيسان ١٩٩٦. (كان مضمون التفاهم التزام الطرفين بعدم المسّ بالمدنيين، وإذا اعتدى طرف ردّ عليه الآخر بعمل من طبيعة الاعتداء، وهذا ما حمى المدنيين اللبنانيين دون أن تخسر المقاومة شيئاً لأنها أصلاً تحصر أعمالها في العسكريين ومراكزهم وسلاحهم وآلياتهم).
هكذا ومع إحياء معادلات حماية المدنيين، نتوقع تراجعاً من قبل العدو الإسرائيلي وتوقفه عن استهداف المدنيين، كما وتراجع التهديد والتهويل بالحرب المفتوحة ضدّ لبنان، أمر ما كان ليتمّ لو لم تكن المقاومة تمتلك القوة اللازمة لإفشال العدو إذا ذهب الى هذه الحرب، كما وقدرتها على إحداث انهيار في بنية المجتمع الصهيوني الدفاعية وأخيراً وعيها وتمييزها بين المعركة والجريمة ما سحب الأوراق من يد العدو وثبت معادلات الردع الاستراتيجي بوجهه، وحفظ مسار جبهة الإسناد في شمال فلسطين المحتلة في إطار الحرب المقيّدة التي تدور فيها خدمة ودعماً للمقاومة في قطاع غزة.

*أستاذ جامعي ـ خبير استراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى