إلى متى ستستمرّ «الزحفطة»…؟

وجدي المصري

إلى الذين لا يعرفون معنى «الزحفطة»، أقول بأنّ الأديب القومي الاجتماعي سعيد تقي الدين أدخلها إلى قاموس اللغة العربية بعدما خبر رجال السياسة في لبنان ورأى في توسّلهم وانبطاحهم أمام ذوي الشأن، المحليّين منهم والإقليميّين والدوليّين، وضعاً شاذاً يدلّ على طبقةٍ سياسية باعت نفسها للشياطين لكي تضمن مصالحها على حساب مصلحة الوطن والمواطن. وكان أن أطلق على هؤلاء كلمة «زحفطونيين» أيّ الذين يزحفون على بطونهم أمام أصحاب المقامات لكي يلتقطوا فتات موائدهم وهم يسبّحون بحمدهم على مكرماتهم.

فالزحفطة والحالة هذه هي الصفة التي تطلق على هؤلاء المتزحفطين الذين لا يرفّ لهم جفن، ولا يخجلون بفعلتهم طالما أنها تؤمّن لهم دوام استمرار تدفّق المال إلى حساباتهم والحفاظ على مواقعهم المخملية، ولعلّ سعيد تقي الدين، إبن النهضة القومية الاجتماعية، قدّر يومها أنه بفضحه لنفسية رجال هذه الطبقة سيساعد على أمرين: الأول ردع مَن بقي لديه منهم شيء من عزّة النفس والكرامة، وبذلك يقلّ عدد هؤلاء في المجتمع بعد انتصار قيَم النهضة في نفوسهم التي اعتادت الذلّ والهوان، والثاني هو أن يجعلهم عبرة لغيرهم لكي لا يتجرّأ الغير على اتخاذهم قدوة في مجتمعٍ انقلبت فيه المقاييس الأخلاقية بحيث أصبحت قيمة الإنسان تقاس بمقدار حساباته المالية في المصارف.

ولكن ما لم يخطر على بال أديبنا الكبير هو أنّ هذه الطبقة التي اعتادت الزحفطة جعلت من هذا المرض فيروساً نفسياً متغلغلاً في أعماق النفوس الضعيفة، حيث قُيِّضَ له أيضاً مناخ إقليمي ودولي رفده بالمنشطات الحيوية التي أمّنت له الإنتشار والديمومة.

ما نشهده اليوم على الساحة اللبنانية لم نشهد له مثيلأً في أسوأ ما مرّ بمجتمعنا من ظروفٍ صعبة. إنّ حملة التوقيع المستمرة على العريضة التي أطلقها سعد الحريري من «بيت الوسط» استرضاءً للمزاج السعودي، وهرولة بعض السياسيين للتوقيع عليها، وحملتهم على وزير خارجية لبنان من جهة وحزب الله من جهةٍ ثانية، لأنّهما عكّرا صفو العلاقات اللبنانية – السعودية، إنْ دلّت على شيء فإنما تدلّ على أنّ سلّم القيَم في مجتمعنا أصبح مرتبطاً بالمال والمناصب، بدل أن يكون مرتبطاً بالكرامة وعزّة الحياة. ولكن كيف لنا أن نطلب ممّن نشأ ذليلأً أن يشعر بالمهانة؟

لن أخوض غمار التحليل عن أسباب موقف السعودية من لبنان، وهل هو بالفعل مستند إلى استيائها من وزير الخارجية لخروجه عن الإجماع العربي، ومن حزب الله الذي يهاجم سياساتها؟ فلقد قيل الكثير حول هذا الموضوع الذي لم يقنع حتى أقرب المقرّبين من السعودية، لكنّه أخافهم إذ أحسّوا أنّ هذا الموقف يهدّد مصالحهم وليس كما يدّعون بأنهم خافوا على مصالح اللبنانيين العاملين في الخليج. إذا كانوا بالفعل مهتمّين بالمواطن اللبناني فلماذا وخلال وجودهم في السلطة لم يفعلوا شيئاً لإبقاء هذا المواطن في بلده؟ لماذا يستمرّون في نهب أموال الدولة التي، لو استُعمِلَت في المكان المناسب، أيّ المجال الإنمائي، لكانت خلقت آلاف فرص العمل، ولكان معظم شبابنا تمسّك بأرضه بدل الهجرة إلى بلاد تمنّنهم كلّ يوم بأنها سمحت لهم بالعمل فوق أراضيها، وتُبقي السيف مصلطاً فوق رؤوسهم كلّ حين؟ لماذا يستمرّون بخلافاتهم المخجلة حول مسألة حيوية ملحة تتعلق باستخراج النفط الذي من شأنه تسديد ديون لبنان، ودعم الاقتصاد، واستحداث فرص عمل؟ لماذا لم يعملوا على وقف الفساد ومنع الهدر في مؤسسات الدولة، الأمر الذي لو حصل، لاستطاعوا تأمين الكهرباء بشكلٍ دائم، وتنفيذ شبكة طرقات تليق بلبنان بلداً سياحياً عريقاً، ولرفعوا عن المواطن سيف الإذلال اليومي؟

موقف حزب الكتائب يُشكر عليه، إذ لماذا يعتذر لبنان على خطأ لم يرتكبه؟ هل نحن طلاب مدرسة أساؤوا إلى أستاذ ليجبرهم على الاعتذار وإلا! وحسناً فعل وزير الخارجية خلال مقابلته على تلفزيون «الجديد» حين تحدّث عن مفهوم الإجماع العربي وضرورة مقاربته من خلال مصلحة لبنان وليس مصالح الآخرين. ما قيمة هذا الإجماع منذ أن تأسّست الجامعة العربية ولغاية الآن؟ ومتى اتخذت الدول العربية قراراً حاسماً لمصلحة دولة عربية؟ ألم تبقَ كلّ قرارات القمم العربية حبراً على ورق؟ ألأنّ السعودية تريد لها موقعاً إقليمياً بالمفاوضات حول الوضع في سورية يجب أن يدفع لبنان الثمن؟ وكيف تريد السعودية إقناعنا بأنها جادّة في محاربة الإرهاب الداعشي، وفي الوقت عينه وبحجج واهية، تقطع المساعدة عن الجيش اللبناني الذي يقاتل هذا الإرهاب ويمنعه من التغلغل في لبنان وإلحاقه إمارة في دولتهم؟

أسئلة لا حصر لها تواجه الموقف السعودي حول هذا التوقيت المشبوه، خاصة أنّ المعلومات المتناقلة فضحت الجسور التي مدّها السعوديون مع العدو الإسرائيلي الخبيث الذي استطاع بحنكته من جهة، وبغباء السعوديين وعقدهم المذهبية من جهةٍ ثانية، على إقناعهم بأنّ الخطر على وجودهم إنما يأتي من إيران الشيعية وليس من «إسرائيل» اليهودية!

«إسرائيل» والسعودية وحدهما لم تبتلعا الاتفاق الدولي النووي مع إيران، مارستا كلّ الضغوط الممكنة لعدم إبرامه فلم توفّقا فانتقلتا إلى الخطة «B» والتي تقضي بتهيئة الأجواء لضرب حزب الله وبذلك تفقد إيران، برأيهما، ورقتها الرابحة في المنطقة. ونحن نقول بأنّ «إسرائيل» مهما فعلت تخطيطاً، وتآمراً، وتنفيذاً، فهي العدو، ليس فقط للفلسطينيين، بل هي عدوّة كلّ البشر دون استثناء، بل نُعيب على الدول العربية التي بدأت بتوقيع المعاهدات مع «إسرائيل» مفتتحة عصر الرضوخ، وعلى الدول العربية التي تهرول اليوم إلى بيت الطاعة «الإسرائيلي» وتتحدّث عن الإجماع العربي.

إنّ «إسرائيل» التي اختلقتها الصهيونية الحديثة بموافقة معظم دول العالم وُلِدت من رحم المؤامرة الصهيونية المرتكزة على تعاليم توراتية متحجّرة وُصفت زوراً وبهتاناً بأنها إلهية مقدّسة كجزءٍ من المؤامرة لإقناع العالم بأنه، بتأييده قيام دولة «إسرائيل» فوق التراب الفلسطيني، إنما يحقق كلام الله. ففي كتاب الخمسينيات، الذي وُجدت نسخ منه في قمران قرب البحر الميت في فلسطين، نقرأ ما يلي: «وظهر له الربّ في هذه الليلة وقال له: «اسمك لن يكون بعد الآن يعقوب، بل ستسمى إسرائيل». وقال له أيضاً: «أنا الرب خلقت السموات والأرض وجعلتك تنمو وتتكاثر بوفرة. سيحكم ملوك خارجون منك في كلّ مكان، حيث وطأت أقدام الإنسان. سأعطي لسلالتك الأرض كلها التي تحت السماء، وسيتولون السلطة بين الأمم، كما يريدون، ثم سيجمعون الأرض كلها ويرثونها إلى الأبد».

هذه هي خطة اليهود أيها «العرب» وأيها المسلمون وأيها المسيحيون. إقرأوا بروتوكولات حكماء صهيون ففيها الخبر اليقين لكم والذي يوصلكم إلى ما قاله أنطون سعاده بأنه لا عدو لنا يقاتلنا في حقنا وأرضنا وديننا إلا اليهود. استفيقوا قبل فوات الأوان، فبنو «إسرائيل» لا عهد لهم، هم يقولون ذلك في كتابهم الديني وما عليكم إلا أن تقرأوا بدلاً من قضاء وقتكم في خدور النساء وإلى موائد الطعام وكواليس المؤامرات: «متى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي أنت داخل إليها لتمتلكها وطرد شعوباً كثيرة من أمامك… سبع شعوب أكثر وأعظم منك ودفعهم الرب إلهك أمامك وضربتهم فإنكَ تحرّمهم. لا تقطع لهم عهداً ولا تُشفق عليهم ولا تصاهرهم» تثنية 7: 1-3. إذا كان إلههم يمثل الإجرام والإرهاب خير تمثيل فكيف سيكون شعبه الخاص؟

لا يهوّلن أحد علينا مستغلاً ضعف لبنان. لهؤلاء نقول: لبنان ليس ضعيفاً، ولا فقيراً، ولقد عبّر عن ذلك خير تعبير الأستاذ وئام وهاب في مقابلته الأخيرة على قناة «الجديد». لبنان ضعيف وسيبقى طالما أنّ هذه الطبقة السياسية الفاسدة متحّكمة بمقدراته وخيراته، هو ضعيف لأنّ حكّامه ضعفاء وجبناء ومرتهنون. وهو قويٌّ إذا ما تخلّى أبناؤه عمّا زرعته هذه الطبقة في نفوسهم من بذور الفتنة الطائفية والمذهبية. هو قويّ شرط أن يقدّر له أن يتسلّم السلطة فيه مَن يعطي القيم والمثل الإنسانية حقها ويحلّها مكان الماديات. لا خوف على لقمة عيش اللبنانيين فإنهم يستطيعون خلق الفرص بدل المرة ألف مرة، ويستطيعون تفتيت الصخور. هذا ليس شعراً وليس كلاماً طوباوياً بل إنه كلام مسؤول بديل عن الكلام المأجور الذي يحاول تثبيط العزائم وتحميل المسؤولية للمقاومة التي وحدها أعادت لنا العزة والكرامة، في الوقت الذي يطالعنا الإجماع العربي بحركة لوأد المسألة الفلسطينية ومبايعة «إسرائيل» بكلّ خطواتها الإجرامية في فلسطين وغيرها.

عندما يتسنّى لنا أن ننعم بالمواطنية الحقة تحت ظلال حكم وطني قوي لا يستطيع أحد عندها أن يفرض علينا ما يتلاءم مع مصلحته من مواقف. عندها يمكننا أن نعامل بالمثل كلّ مَن يفكّر بالتعرّض لمصالحنا.

منذ سنوات رفضت كندا طلباً لدولة الإمارات، فكان الردّ الفوري اتخاذ دولة الإمارات لقرارٍ يجبر كلّ كندي يريد السفر إليها الحصول على تأشيرة دخول مسبقة يدفع ثمنها مبلغاً معيناً، بعدما كان باستطاعته الحصول على التأشيرة مجاناً فور وصوله إلى المطار. وبأقلّ من سنة رضخت كندا وعادت المياه إلى مجاريها، وعاد المواطن الكندي ليحصل على معاملة مميّزة.

فإلى متى أيها الساسة سيستمرّ «تزحفطكم»؟ ألم تفهموا بعد أنّ ذلك لن يزيدكم اعتباراً في عين السعوديين بل احتقاراً؟ ألم تدركوا أنّ مَن يشتريكم بالمال يمكن له أن يبيعكم في أيّ وقت وبسعرٍ أرخص بكثير من السعر الذي اشتراكم به؟ نحن ننادي بأفضل العلاقات ليس مع الدول العربية فقط بل مع كافة دول العالم، ولكن على قاعدة الندية، والاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة، والعلاقات المُثلى، والإجماع لا يكون بفرض الرأي حتى لو كان هذا الرأي يعرّضنا داخلياً إلى ما لا تُحمد عقباه.

قفوا أيها الساسة مرة واحدة موقف الرجال لا موقف الإذلاء، صوّبوا بوصلتكم التي اهتزت إبرتها ولم تزل غير مستقرّة. المؤامرة الصهيونية تدفع باتجاه «سايكس بيكو 2»، وهذا أيضاً ليس وهماً، وليس كما يقول البعض بأنه «فوبيا» المؤامرة. سُئِل هنري فورد: هل تعتقد أنّ بروتوكولات حكماء صهيون حقيقية؟ فأجاب: ما لي وذلك، يكفي أنني أراها تتحقق.

السعوديون أحرار بقوانينهم التي تتدخل، وبإسم الدين، بكيفية ارتداء المرء للملابس، خاصة النساء، وبطعامه، وبتقييد حريّته الفكرية والتعبيرية، لكنّهم لا يحق لهم أن يفرضوا علينا هذه القوانين خاصة حرية الفكر التي تجيز لنا حرية النقد والقول. أفلا تدرون أنكم بزحفطتكم ستسلبوننا أهم قيمة اجتماعية إنسانية أي الحرية؟

ارفعوا رؤوسكم إذ كفاكم تمرّغاً بالتراب، أنفضوا عنكم ثوب الذلّ والمهانة ولو كنتم قد اعتدتم عليه فإنكم ستشعرون بالراحة وتتنعّمون بالحرية الحقيقية، والسيادة الفعلية من خلال حرية قراركم. انتصبوا في وجه الطغيان ولتكن قاماتكم قامات رجال أحرار فتشعروا بذلّ الزحف على البطون وما أورثكم من تبعات تحتاجون إلى عقودٍ لمحو آثارها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى